«اتحاد الكتاب العرب» يستيقظ ويصرخ: «لا للتطبيع!»
دمشق: سعاد جروس
بعد تورط أعضاء فيه وسهام من المثقفين تصوب في اتجاهه
يأخذ بعض المثقفين على «اتحاد الكتاب العرب» الموجود في سورية سكوته على عمليات تطبيع مع إسرائيل يتورط فيها أعضاء في الاتحاد دون أن يحرك ساكنا. هذا الاتحاد الذي ألغى عضوية شاعر بحجم أدونيس ذات يوم وكسر الحصار على العراق، يبدو اليوم مشلولا أو أشبه. لكن الاتحاد لا يسكت، بل على العكس، فقد أعلن عن هيئة عامة لمقاومة التطبيع، ويعد بإجراءات عملية ناجعة يشارك فيها المجتمع المدني. فما الذي ستفعله الهيئة العامة؟ وما صلاحياتها؟
أعلن «اتحاد الكتاب العرب» في سورية عن تحويل «الهيئة التأسيسية لمقاومة التطبيع الثقافي مع إسرائيل» إلى هيئة عامة، والاتفاق مبدئيا على تشكيل مكتب لها برئاسة اتحاد الكتاب العرب ومشاركة ممثلين عن فلسطين ولبنان. وقد عقدت الهيئة العامة أول اجتماعاتها الشهر الحالي لإقرار الوثائق، وذلك بعدما وضع الاجتماع التأسيسي الأول الخطوط الأساسية لعمل الهيئة والآليات المختلفة بهدف الوصول إلى الغايات المرجوة. أثار هذا الإعلان جملة من التساؤلات حول جدوى هذه المؤسسات في ظل خروقات تتكاثر في عملية تطبيع للتطبيع!!
بين فترة وأخرى يعود موضوع التطبيع الثقافي مع «إسرائيل» إلى الواجهة، ليكون مثار جدل بين المثقفين. ومؤخرا كان ما أثار هذا الموضوع هو أنباء عن نية مكتبة الإسكندرية عقد ورشة عمل يشارك فيها باحثون من إسرائيل إلى جانب عدد من الباحثين المصريين والعرب و24 من الباحثين في جامعات وشركات أميركية. تلك الأخبار لم تمر في مصر مرور الكرام، فقد تصدى لها مثقفون لهم مواقف مشهودة في مناهضة التطبيع مطالبين بإلغاء هذا النشاط. وسرعان ما أعلنت مكتبة الإسكندرية أنها لم تكن تنوي عقد هذه الورشة، فقد كان مجرد اقتراح من جملة اقتراحات أخرى. بالتوازي مع ذلك، كانت الصحف تنشغل بين حين وآخر بأخبار عن فنانين مصريين يزورون إسرائيل، أو يشاركون في أعمال مع فنانين إسرائيليين. يحدث ذلك في مصر التي وقعت اتفاقية سلام مع إسرائيل منذ ثلاثة عقود، ولم تفلح خلالها كل المساعي الإسرائيلية للتوصل إلى تطبيع ثقافي. تقول رضوى عاشور في مقال لها نشر مؤخرا إن «موقف المثقفين المصريين والعرب في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين – المناهض للتطبيع – صار موقفا مُعتمدا من قبل الكثير من المثقفين الأوروبيين وفي أمريكا وكندا. وأصبحت مشاركة أكاديميين إسرائيليين، أو أي شخصية بارزة في محفل أكاديمي، أو ثقافي دولي تواجه بالمقاطعة والإدانة أو تثير معارضة».
الأمر يبدو مختلفا إلى حد كبير في دول عربية أخرى لم توقع اتفاقا للسلام مع إسرائيل، فهناك من يرى أن المثقفين في هذه الدول لا يحتاجون لمناهضة التطبيع، لأن العلاقات في الأصل مع إسرائيل محظورة. لكن هذا الحظر الذي يعتبر خطا أحمر، الذي على أساسه تم فصل أدونيس عام 1995 من «اتحاد الكتاب العرب» في سورية لحضوره لقاء في غرناطة ضم كتابا وسياسيين إسرائيليين، يبدو أنه أصبح خطا أحمر يشعل ويطفأ حسب الظروف.
فقد مر على الاتحاد مرور الكرام خبر إصدار دار نشر إنجليزية «كوما بريس» عام 2008 أنطولوجيا محورها المدينة بعنوان «قصص مدن من الشرق الأوسط»، أعدتها وقدمتها الشاعرة اللبنانية جمانة حداد. وهي تتضمن قصصا قصيرة تدور في عشر مدن مختلفة في منطقة الشرق الأوسط، بينهم كاتب تركي وثمانية كتاب عرب وكاتب إسرائيلي (كتب قصّة تل أبيب)، وبُررت مشاركته بأنه كاتب تقدمي يسخر في قصته من الجيش الإسرائيلي وينتقد سياسة بلاده!!
شتان بين ردود الفعل على حادثتين يمكن اعتبارهما تطبيعا، وقعت إحداهما عام 1995 وأخرى عام 2008. فواقعة أدونيس أثارت ضجة واسعة في أوساط المثقفين العرب، بين مؤيد لقرار الاتحاد على اعتبار أن سلوك أدونيس يندرج في إطار ما يطلق عليه «التطبيع الثقافي مع العدو الصهيوني»، ومعارض للقرار ومدافع عن أدونيس على اعتبار أن ذلك القرار لا ينقص من مكانته. واجتهد آخرون فقرأوا القرار قراءة سياسية. وشمل الاهتمام بفصل أدونيس كتابا من معظم الأقطار العربية وطرح الموضوع في نقاش حول مقولة التطبيع الثقافي. أما ردود الفعل على صدور كتاب «مدن من الشرق الأوسط» فقد اقتصرت على بضع مقالات صحافية ما بين مستنكرة وأخرى تبريرية جرت لفلفتها، ولم تثر القضية في أي مؤسسة ثقافية عربية لا رسمية ولا غير رسمية.
الكاتبة والأديبة ناديا خوست تستغرب هذا الأمر، منتقدة «اتحاد الكتاب العرب» في سورية، حيث تعتبر أن «دوره تراجع كثيرا، فقد كان له نشاط جاذب للمثقفين ضد الصهيونية». كان الاتحاد «أول من بادر لخرق الحصار على العراق، وأول هيئة عربية أرسلت معونات لأطفال العراق، قرطاسية وكومبيوترات. كما أسهم في عقد مؤتمر عربي في بغداد شارك فيه أكثر من 70 كاتبا اخترقوا الحظر الجوي. كما كان الاتحاد أول منظمة عربية تذهب إلى جنوب لبنان، إبان الانسحاب الإسرائيلي والنيران مشتعلة، ووصل الكتاب إلى خط التماس».
نشاط «اتحاد الكتاب العرب» الوطني «صار في السنوات الخمس الأخيرة أشبه بالإداري». تقول خوست وتضيف: «عام 1995 تمكنّا في الاتحاد من اتخاذ قرار بفصل أدونيس رغم مكانته الثقافية والأدبية، بينما اتحاد الكتاب اليوم لم يتخذ أي إجراء حيال كتاب (مدن من الشرق الأوسط)، مع أن النظام الداخلي للاتحاد يقضي بفصل أي كاتب يظهر مع كاتب إسرائيلي».
وشككت خوست في فاعلية الهيئة التأسيسية لمقاومة التطبيع التي أعلن عنها الاتحاد في سورية. وتقول خوست إن لجنة لمقاومة التطبيع يفترض أن تكون شعبية وواسعة، تضم كتابا ومثقفين وشخصيات بارزة لها موقف سياسي ضد التطبيع، لكن ما يفعله اتحاد الكتاب يبدو وكأنه يشكل هيئة مماثلة للجنة دعم الانتفاضة والشعب الفلسطيني ومناهضة المشروع الصهيوني، تمثل أحزابا ومنظمات وبعض المثقفين. وتتساءل خوست: «كيف لاتحاد ضاعت شخصيته وتحول إلى مؤسسة رسمية أو جزء من حزب أو وزارة ثقافة، أن يكون قادرا على جذب الشباب ضد التطبيع؟ كيف يكون فاعلا والمشكلات تنهشه من الداخل، وغير قادر على اتخاذ تدابير ضد أعضاء فيه نالوا جوائز مشبوهة؟!».
رئيس اتحاد الكتاب العرب في سورية، حسين جمعة، رد على انتقاد إعلان هيئة من منظمات وأحزاب لمقاومة التطبيع بقوله: المثقفون عموما متفقون على فكرة مقاومة التطبيع.
وكلٌ يجتهد بالشكل الذي يراه. وأضاف جمعة لـ«الشرق الأوسط»، لو نظرنا إلى الوطن العربي لوجدنا أن «هذا الشكل هو المعهود والمشهود والممارس في كل مكان، ولذلك أردنا أن نخرج الفكرة من الحيز النظري إلى حيز مؤسساتي لمنظمات غير حكومية عربية». وأوضح جمعة أن الهيئة التأسيسية ضمت كلا من: اتحاد الكتاب العرب، لجنة دعم الشعب الفلسطيني ومقاومة المشروع الصهيوني، الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين، مكتب مكافحة التطبيع التابع لاتحاد الكتاب والأدباء العرب، مؤسسة الوحدة، دار البعث، نقابة المحامين، اتحاد الصحافيين، نقابة المعلمين، مركز باحث للدراسات (لبنان)، مؤسسة فلسطين للثقافة، مركز الشرق للدراسات الدولية، مركز التوثيق وملاحقة جرائم الحرب، نقابة الفنانين، ملتقى الجولان العربي الدولي، وشخصيات اعتبارية. وتابع جمعة: «مهام الهيئة التأسيسية وضع خطة الفعاليات السنوية وتنفيذها ووضع دليل مكافحة التطبيع الثقافي وإقامة مؤتمر لمكافحته، ووضع ميثاق شرف المثقفين ضد التطبيع ومتابعة نشره وتعميمه وإطلاق موقع خاص بالمكتب الدائم وملاحقة الأفراد والهيئات التي تسهم في التطبيع الثقافي ومتابعتها في الإعلام وتقديمها للمحاكمات الشعبية والقانونية.. وقد اجتمعت اللجنة التأسيسية ثلاث مرات، وقررت تشكيل مكتب عربي لمقاومة التطبيع». وأوضح جمعة، أنه خلال المؤتمر الرابع والعشرين لاتحاد الكتاب العرب العام في ليبيا، طرح اتحاد الكتاب في سورية الفكرة وتم تبنيها. وعن القول بأنها ستكون هيئة دون جدوى إذا بقيت محصورة بالجهات السورية، قال جمعة: «الهيئة مفتوحة أمام كل من يؤمن بمقاومة التطبيع على الساحة العربية». وفيما يخص تمويل الهيئة فهي «ممولة من اتحاد الكتاب في سورية ومؤسسة فلسطين للثقافة، وكل من يسهم بجهده».
بعد كل هذا الكلام لرئيس الاتحاد، من غير المنطقي أن يستنكر – خلال حديثه عن التطبيع – ذهاب الممثلة هند صبري إلى إسرائيل، فيما يرد على سؤال حول سبب عدم اتخاذ أي إجراء حيال كتاب «مدن من الشرق الأوسط» الذي شارك فيه عضو في الاتحاد مع كاتب إسرائيلي، بأن أحدا لم يرسل إليه الوثائق اللازمة، أو ما نشر عن هذا الموضوع، وبالتالي لم تتح له فرصة الاطلاع!!
المفارقة أن يعلم رئيس «اتحاد الكتاب» بأخبار نشاطات فنانة مصرية شابة ترتبط دولتها بمعاهدة سلام مع إسرائيل، ولا يعلم بنشاط لكاتب عضو في الاتحاد الذي هو رئيسه!!
من هنا، فإن كل ما يقال لم يعد مهما دون نتائج عملية على الأرض. وهو ما أشارت إليه الصحافية ورئيسة القسم الثقافي في جريدة «تشرين»، رغداء مارديني، التي تؤيد تشكيل اتحاد الكتاب لهيئة عامة لمقاومة التطبيع الثقافي وتعتبره أمرا «مفيدا جدا ولو جاء متأخرا»، مع التأكيد على أن «النتيجة هي ما يجب أن نتوقف عنده ونتابعه بالتفصيل خوفا على مجتمعنا من الانهيار». لافتة إلى أن التطبيع بدأ يأخذ أشكالا متعددة يصعب ضبطها، ولا سيما أن الانفتاح الثقافي عبر التقنية المذهلة بات يحوط حياتنا وأفكارنا من كل جانب، وقد يكون اعتمادنا على فطرتنا التي عشنا عليها مهما، إلا أن ضبط الأفكار والثقافة المتسربة كالسم في الدسم تكون من خلال ضبط سيرة المروجين لها من أفراد وهيئات.
قد يأتي الترويج، حسب مارديني، مثلا «من خلال رواية أو موقع أو كتاب (والأمثلة على ذلك كثيرة) يهدف فيما يهدف إلى تفكيك بنية اجتماعية قامت أساسا على التشكيك بثقافتنا وتراثنا لتزرع في طياتها خطوطا عريضة لثقافة مبنية على تصنيع فخاخ ثقافية من أشباه المبدعين الذين تقوم بعض المؤسسات المشبوهة على نفخهم وتصديرهم كحاملي جوائز ومثقفين في الصف الأول لا يشق لهم غبار. وبما أن هذه الظاهرة استفحلت هذه السنوات، صار الحراك الثقافي المعرفي لها ضروريا نظرا لأهدافها البعيدة المعلنة وغير المعلنة». اليوم إذا كنا نريد أن نخلص إلى موقف، فلا بد من نظرة متأملة، ونرى ذلك المشهد العريض، الذي لا يقتصر على التطبيع مع إسرائيل، وإنما في العملية المجملة التي يقودها الغرب، بحيث تبدو إسرائيل واحدة من تفاصيلها.
فالتطبيع فعلا يسير في عدة اتجاهات ويشمل طيفا من المجالات الكثيرة، جوائز، مسابقات، مشاريع، ورش عمل، ترجمات، إعانات… إلخ، وكلها تصب في حركة تطبيع شاملة تنحو نحو تقبل الوجود الإسرائيلي كجزء من المنطقة، كي يصبح من الطبيعي التخلي عن مجرد «قطعة أرض» مقابل السلام، ولتبدو الحقوق العادلة عقبة في وجه ازدهار الشعوب. لذلك يرى الروائي فواز حداد أنه بات من «من الضروري، أن يفكر المثقفون العرب في النظر إلى قضاياهم دون استعارة وجهة نظر الغرب. إن الرشاوى التي تُدفع لهم، لا تعادل على الإطلاق، ما سوف نفقده وهو الإرادة في التغيير والتقدم فعلا، إلا إذا أردنا أن نسلم مقاديرنا للغرب، وهذه هي بداياته تبرز في التكالب على الظهور في صورة واحدة، كرفاق محتملين لهم في المستقبل».
الشرق الأوسط