زيارة سعد الحريري إلى دمشق: إستتابة وتجديد دور,أم اتقاء شر؟!
د.نصر حسن
وأخيرا تشكلت الحكومة اللبنانية برئاسة سعد رفيق الحريري ,وستنال الثقة اللبنانية بعد شهور طويلة ,تنفس خلالها اللبنانيين الصعداء و رائحة الدم والبارود , وبعد حروب أهلية علنية مرة وخفية مرات , وبعد فوضى سياسية وسلسلة من الاغتيالات هدرت دماء وراح ضحيتها خيرة العقول المستنيرة لتصفية الأجواء الداخلية من معكرات استمرار دور النظام السوري غير المباشر بعد انسحابه المهين على خلفية اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري , مرحلة عصفت فيها التجاذبات والتنافرات الداخلية والخارجية , كان سيدها الفراغ والتفريغ وسيطرة أمراء الطوائف (الديمقراطيين) وسيول السجال والخلافات على تشكيل الحكومة وحقائبها ووزاراتها والثلث المعطل وتنجيح الراسبين بالانتخابات وتراشقات إعلامية من شتى العيارات بين الأوصياء الداخليين والخارجيين , وأيضا بعد حربين إقليميتين ومثلهما داخليتين ,بمحصلته أرجع لبنان مرة أخرى إلى حضن المصالحات العربية الإقليمية الدولية , هنا لابد من القول أن معادلة الحكم في لبنان بأدواتها المحلية والإقليمية وما يطلق عليها (سين – سين ) ,ونضيف ( أ – إ ) لا تزال نشطة وسيدة الموقف تتحكم بخفايا وخبايا الأمور من ألفها إلى يائها في لبنان الشقيق !.
قال (إدغار موران) : ,, إن جميع الفنون أنتجت روائعا , إلا السياسة فقد أنتجت مسوخا ,, لعله التوصيف الدقيق لحال السياسة العربية والسورية على وجه التحديد , فمن خلال معطياتها وأفعالها في سورية ولبنان وخارجهما ,قد خلت من أي عنصر أخلاقي ,ومارست وظيفتها بشكل وقح وسافر في نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي , وبصرف النظر مؤقتا عن أهمية المعايير الأخلاقية في ممارسة العمل السياسي ,لا بد من الإقرار بشبح تبرئة وتجديد دور النظام السوري في لبنان ,ومشاركته اللعب الفاجر بأوراق داخلية وإقليمية ودولية , عبر القمع المنظم واتخاذ الضعف والتضعيف وسيلة وغاية ، أو بكلمة أخرى تحويل القمع والضعف والإضعاف نسقا سياسيا ثابتا لتبرير الحاجة الدولية إليه , الأمر الذي يؤمن له عوامل البقاء في حكم سورية بالقمع والضعف والفساد والحديد والنار .
فالنظام السوري رغم كل ما يظهر فيه من تسلط وفوضى وضعف ومشاغبة على المستوى الإقليمي والدولي , مازال يمثل رغبة إقليمية دولية على اعتباره حكم أقلية (علماني) وسط محيط أكثرية سنية مقموعة مهمشة وغير مرغوب ديمقراطيا فيها, هذه هي إحدى مفارقات السياسة في شرقنا العربي الذي أسس ثوابته الأسد الأب وسار عليها مطمئنا الأسد الابن , تلك العوامل جعلها النظام السوري ركيزة ثابتة في عمله, هدفها الأول والأخير هو المحافظة على استمراره في الحكم ,إذ رغم كل هذا الفساد والفشل والقمع في سورية لازال النظام مرغوبا فيه وبدوره وباستمراره في الحكم ,إحدى مفارقات السياسة العربية والدولية أيضا ,هي تغطية النظام ودعمه بصراحة على اعتباره يمثل حكم أقلية طائفية في سورية, بصراحة ووضوح هذا هو بيت القصيد في بقاء النظام وسبب دعمه واستمراره,وكل ماعدا ذلك ثانوي يندرج في سياق المتحولات العربية والدولية وما أكثرها وما أغربها وما أخطرها على العالم العربي الحسي والافتراضي في آن؟!.
فالصور المتناقضة التي تعاملت فيها دمشق مع الحرب اللبنانية منذ عام 1975 وتشاطرت بيروت مع ارييل شارون منفذ حروب الإبادة ضد المدنيين ,وصولا إلى اليوم واضحة للبنانيين وغيرهم , حيث يفسر النظام السوري المرة تلو الأخرى مسوغات تحالفاته الظرفية وانقلابه على اللاعبين المحليين وتغيير رتوش الصورة ، توهموا كل بدوره أنهم يستغلون دمشق لمصلحتهم، لكنه مابرح يؤكد أن رهانه الثابت الأساسي كان من ناحية أولى على حماية حكمه من أكثرية عربية في سورية ولبنان وحتى خارجهما, ومن ثانية، طمأنة أهل الحل والعقد في الشرق والغرب، والأهم في إسرائيل (بيضة القبان )السياسي العربي، إلى أن في دمشق شريكا فاعلا يعتمد عليه عند الحاجة , يعرف حدوده فلا يتجاوزها ,وواقع الجولان المحتل مثالا صارخا !وأكثر من ذلك هو قادر بفعالية على احتواء وترويض الحركات الإصلاحية العربية، التي قد تشكل في يوم من الأيام خطرا على إسرائيل ، تلك رسالة مؤداها بأن أمن الجيران لا يمكن أن يتحقق إلا عبر سلطة في دمشق قمعية فالتة مطمئنة مسنودة إقليميا وممسكة بكل أوراق الإصلاحيين والسلفيين وترويضهم وضبطهم في طابورها !,لهذا السبب كانت هناك موافقة عربية وغربية عامة على التفويض السوري بالوصاية على لبنان الشقيق الأصغر, ومن ثم ترسخ هذا التفويض ومعه الإقرار بأهمية هذا الدور الثابت في شرق مضطرب تلفه صواعق التطرف والعنف والفوضى الخلاقة .
على أن تبني النظام اللفظي الغوغائي وأحيانا التصعيدي لخطاب الممانعة ، هو أداء تنفيسي تضليلي متفق عليه سمح للنظام بكسب رضا واسع في صفوف الشعوب العربية البائسة المهمشة والمحبطة من تكرار الهزائم وفشل النظام السياسي العربي وعجزه عن فعل شيء في وجه الاحتلال وعدوانية إسرائيل وتدخلات النظام الفارسي وغيرهما ,رغم أن تموضع النظام السوري إقليميا مع طهران أعطى الحكم في دمشق شبهة سيئة يهمه اليوم أن يبعدها عنه , ولاسيما بعدما دخل العالم العربي خندق الاستقطاب المذهبي الحاد بين الشيعية السياسية ممثلة بإيران، والسنية السياسية ممثلة بالنظام السياسي العربي , واحمرار أعين المجتمع الدولي مؤقتا على النظام الفارسي .
قد يكون النظام لعب بمهارة يحسد عليها على مستوى رجل الشارع العربي!، لكنها لا تنطلي على إسرائيل ولا على لوبياتها المتعددة، وبالذات في عواصم الحل والعقد ، استخدم النظام قاسم الثورية المشترك في وجه الإمبريالية والصهيونية مبررا لـممانعته المجلجلة اللفظية،وكذلك مبررا لتحالفه الاستراتيجي الغريب بعض الشيء كحكم (قومي عربي علماني اشتراكي) مع نظام ثيوقراطي مذهبي فارسي !.
ولكن الإشكالية هنا، أن إسرائيل لم تكن قلقة البتة على امتداد نصف قرن من هكذا نظام , رغم أنه نظريا لا يعترف بوجودها كدولة ,إذ يسميها في إعلامه الرسمي العدو الصهيوني ويمترس كل المشاغبين الممانعين على حدود فلسطين المحتلة من شمالها حتى غزة ، ويقرع كل يوم طبول التحرير وينتقد كل المتخاذلين عن حمل السلاح ضدها !, بل إنه خلال العقدين الأخيرين كان يمرر السلاح إلى حزب الله حصرا ، حيث ساعدت العلاقة الخاصة جدا بين دمشق وطهران على حصر حق السلاح فيه كمقاومة إسلامية وفق فقه اتفاق الطائف, ليتسرب معها هذا السلاح إلى المنطقة الحدودية المتاخمة لحدود فلسطين المحتلة, وسهولة اللعب فيه من قبل الأطراف الإقليمية الفاعلة التي تضغط على الزناد عندما تحتاج تنشيط مخططات تفكيك وتدمير هياكل العالم العربي أو ما تبقى منها.
أكثر من هذا، كانت إسرائيل عبر أصدقائها الدوليين في غاية الحرص على إفهام ذوي الأمر في العواصم الغربية على أن أي بديل للحكم الحالي الوديع في دمشق خط أحمر مرفوض وممنوع ، وأنها تتفهم جيدا سقف مطالبه ومبررات ممانعته ، ولا تطلب منه عندما يبالغ في المشاغبة ,أي المزايدة تحريريا على باقي العرب سوى تغيير سلوكه حسب حرارة المحيط العربي ومتطلبات إخراج فصول جديدة من اللعبة الدنيئة في المنطقة , وهذا ما تبين صراحة في حث تل أبيب واشنطن على التخلي عن الضغط على النظام السوري, وقبول الحوار معه واعتماده رسميا أحد أهم ركائز السياسة الصهيونية في العالم العربي .
وبالرغم من غبطة مخططي السياسة الليكودية الإسرائيليين والأمريكيين اليمينيين باحتلال العراق وبالهجمة الفارسية على المنطقة العربية انطلاقا من سورية أولا ولبنان ثانيا والعراق ثالثا وفلسطين رابعا واليمن خامسا والخليج العربي سادسا والحبل على الجرار …, كل ذلك لدى إسرائيل يعتبر خيرا على خير ! بما أنه لا يمكن إلا أن يخدم غاية إضعاف العرب وإثارة الفتنة المذهبية المطلوبة بين الحركات الإسلامية السنية والشيعية،واستمرارا لهذا النهج طور أصدقاء إسرائيل الدوليين رغبتها في دفع مفهوم وصفوه ((فصل دمشق عن طهران )), للبدء في تحجيم إيران وحصرها في دورها أولا ,ولتغطية نظام دمشق ثانيا ,معززا بتقديم مغريات للنظام السوري على طريق تهذيبه بدل الضغط عليه وتغييره , وبالفعل سارت الدبلوماسية الدولية قدما بهذا الاتجاه , وما تشكيل الحكومة اللبنانية وزيارة رئيس الوزراء سعد رفيق الحريري الغريبة بعض الشيء إلى النظام السوري قريبا ,بعد كل تلك الفصول الدموية الدرامية بينهما ,سوى بعض النتائج العملية لذاك السياق .
ومع كل ما يعتري المسار الفلسطيني من تعثر وغياب رؤى جديدة حول عملية السلام, التي ترقد مهملة في غرفة الإجماع العربي المنهار ,ومع كل ما يجري في العراق من صراع دموي يتعمد إخراجه على أنه مجهول الهوية , رغم أنه واضح المسار والهدف, ومع استمرار سجال إيران مع المجتمع الدولي الذي أربك الصورة العربية في الشرق بعض الشيء , فارتضى المرتبكون وهواة الاستقرار العربي والدولي بالإجماع , على قبول ملك الحلول العربية , رجوعا إلى تبويس اللحى ونسيان الشجون والكرامة , مكررين الرقص الجماعي على أشلاء الضحايا , ابتهاجا بعودة الروح الضالة إلى التضامن العربي !على مبدأ نجاعة عصبة الجماعة رقصا أو حربا !.
على الجانب الآخر , ليس خافيا أن حلف النظام السوري مع النظام الفارسي استراتيجي ,ورغم كل ما يفعله النظامان على طريق التمايز الشكلي ,لا يزالان يحاولان اللعب كفريق واحد في لبنان وفلسطين مظهريا على الأقل , همها المشترك المتبادل هو تحقيق أكبر قدر من المكتسبات على حساب مشروع قيام الدولة السيدة المستقلة في لبنان الشقيق !,وتقاسم غنائم الدماء اللبنانية والعراقية والفلسطينية قبل بدء التفسخ الاضطراري فيهم من أجل الدفاع عن النفس والمذهب الذي تفرضه الفوضى الخلاقة هنا أو هناك ، فالصورة الدرامية في لبنان وفلسطين والعراق واليمن وأماكن أخرى , تعكس بُعدا آخر وانشطارا آخر للصراعات المستعرة في الاجماع العربي .
فدمشق المستتيبة التي تحررت من محور الشر ولو مؤقتا , والتي لعبت طويلا للمحافظة على جاذبية قمعها وضعفها وتضعيفها الآخرين بل وحتى تصفيتهم , في عيون أهل الحل والعقد لإقناعهم بفضائل ومحاسن المحافظة على دورها واستمرارها في السلطة ، عملت طويلا كذلك لإضعاف شعبها وأشقائها وإنهاكهم وحتى تغييبهم لتعزيز مكانتها الإقليمية على حسابهم .
من نافل القول ,أن زيارة سعد رفيق الحريري إلى سلطة دمشق سوف تصلح ما أفسده البارود ,أو تمثل مرحلة جديدة في العلاقات بين لبنان ونظام دمشق المتمرس والمتمترس في دوره ووظيفته , فالخلافات بينهما عميقة ولا تحلها زيارة أو حتى زيارات !.
أهي استتابة وتجديد دور ؟ أم اتقاء شر ؟ أم عودة الوصاية وعقدتها ؟! فهل انحدر الحال العربي إلى هذا الحد من السوء ؟!,حيث انعدمت المعايير والقياسات ,وخلت من أي معنى الخلافات والمصالحات !,وتقذمًًُّت المقامات إلى هذا الحد الذي ضاعت فيه الأصول والفصول والأهداف والأوصاف ؟!.
ورخصت الدماء العربية إلى هذا الحد المهين ؟! أم أن الأمور دخلت طورا جديدا لم يعد للقائمين على الوضع العربي الرسمي فيه أي رأي أو خيار , سوى التنفيذ والتمثيل الرديء في الفراق كما اللقاء ؟!.
أم أن اللعبة الدنيئة وصلت نهايتها؟! وأصبح الجميع بالهوى سوى تائهين …على استحقاق مفترق طرق عربي استراتيجي خطير!.
خاص – صفحات سورية –