السلاح والوطنية والشراكة العرجاء
سليمان تقي الدين
يظهر أن الوثيقة السياسية لـ«حزب الله» لم تنجح في طمأنة الفرقاء الآخرين لوظيفة السلاح ودوره في مواجهة أي عدوان إسرائيلي والدفاع عن لبنان. كما أن انضمام الحزب إلى المدافعين عن النظام السياسي الطائفي تحت عنوان «الديموقراطية التوافقية»، وعدم المسّ بركائز النظام الاقتصادي، لم يُقابَل بالترحيب من قوى وأركان الطبقة السياسية.
حفلت خطب العديد من النواب بتناول موضوع السلاح بصورة عبثية لأن هذا الموضوع هو البند الوحيد الذي من أجله تشكّلت هيئة الحوار الوطني ومن خلالها يجري التوافق على السياسة الدفاعية للبنان ودور المقاومة فيها.
لكن التهديف على السلاح كان أكثر حدة على لسان رأس الكنيسة المارونية من دون أن يكون لأي من المتعاملين مع هذا الملف أية اقتراحات أو أفكار بديلة لحماية لبنان الذي يهدّده قادة الكيان الصهيوني الذين يتمتعون بأقصى ما يمكن من التسلح والتفوّق على مجمل منظومة الأمن العربية، ويتصرفون بعدم احترام للقانون الدولي وللاتفاقات والقرارات، بما فيها القرار 1701 الذي يعتبره بعض اللبنانيين سند الشرعية الدولية المأمون.
أما الذرائع التي تُساق ضد هذا السلاح التي تبدو في ظاهرها شرعية ومشروعة، كالحرص على مرجعية الدولة والهواجس من الوظيفة السياسية الداخلية، فهي لا تأخذ بالاعتبار مشروعية تفكير الآخرين وهواجسهم المتمثلة في عجز الدولة العسكري وحق الموجودين على خط المواجهة مع إسرائيل بسبب موقعهم الجغرافي في أن يدافعوا عن أنفسهم ويحتاطوا لأمنهم جراء سياسة العدوان الإسرائيلي التاريخية والمتمادية. أما البُعد الإقليمي لهذا السلاح فلا جدوى من تأكيده أو إنكاره لأن المشروع الإسرائيلي ومن خلفه المشروع الغربي هو الذي يفرض ترابط المشكلات والأزمات ويمنع فصلها وحلها على قاعدة احترام المصالح الوطنية لشعوب المنطقة.
غير أن هذه المعطيات لا تشكّل في أي مكان إشكالية وطنية كما يحصل في لبنان، إلا لأن الوطنية اللبنانية لم تتحقق بعد ولم تتبلور إرادة واحدة موحدة للتعامل مع القضايا الأساسية التي تنهض عليها وحدة الدولة والمجتمع. وليس من قبيل نكء الجراح التذكير مع المذكّرين بأن «مقاومة لبنانية» أو هي وصفت نفسها كذلك تجاوزت الدولة والإجماع اللبناني في وجه الوجود الفلسطيني ودفع أكلافها اللبنانيون غالياً وكان يمكن أن تعالج في إطار الدولة والحوار لو كانت هناك رغبة واردة بأن يتساوى اللبنانيون في الغرم والغنم. كما أن «مقاومة استقلالية ثانية» أو هكذا وصفت نفسها قد تسبّبت بأربع سنوات من الأزمات التي شارفت حدود الحرب الأهلية، لأنها أرادت أخذ البلاد إلى جهة فريق ولم تحفظ للشركاء الآخرين في الوطن حقهم في المشاركة، وهي في حقيقتها ما مهّد الأجواء لحرب تموز 2006 وتداعياتها.
على هذا المستوى من فهم المشكلة الوطنية تبدو مسألة سلاح المقاومة (الجنوبي) فصلاً من فصول أزمة الكيان اللبناني ومظهراً من مظاهر حالته المرضية الأصلية التي رافقت تكوينه وأنشأت إدارته السياسية على فكرة تجميع «المقاطعات التاريخية اللبنانية» وترتيب انتمائها إلى لبنان على مسافات تاريخية متباعدة، أو على أفضليات متفاوتة في تجسيد الهوية اللبنانية.
ومن أطرف أو أظرف ما ابتكره العقل التسووي السياسي اللبناني بدعة الدعوة إلى اللقاء بين مسيرتي التحرير جنوباً من إسرائيل والتحرير شرقاً من سوريا، والموازنة بين المعاناة من الاحتلال الصهيوني وطبيعته وأهدافه وتلك مع الوجود السوري الذي أسهم في عملية التحرير جنوباً وفي حفظ وحدة البلد، ولو كان «سلكه الكهربائي هذا ملطخاً بإفرازات الذباب».
قد لا يكون المرء ملتزماً طروحات سلاح المقاومة من حيث آفاقها البعيدة، أو من حيث دورها في تغيير الأوضاع من حولها وكحد أدنى في لبنان، وقد كشفت بوضوح في الوثيقة السياسية حدود هذا الدور، لكن ذلك يرتب أعباء على الآخرين لكي يبلوروا أجوبتهم ودورهم في الدفاع عن الوطن وبناء الدولة، سواء أكانوا عن يمين المقاومة أو عن يسارها. أما الذين ما زالوا يعتقدون أن تحفظاتهم على المقاومة هي موقف تاريخي يتولى «المجتمع الدولي» أو تتولى «إسرائيل» فك عقدته لكي ينعموا بنموذج لبناني من نوع آخر، فهم يؤجّلون المشكلات ويفاقمونها.
ثمة طريق واحد غير ملكي وغير معبّد وغير سهل هو المقاومة بمعناها الشامل والوطني الذي يحتوي جميع الطموحات والتطلعات الشريفة لدى جميع اللبنانيين. هذا قدر اللبنانيين المحتوم لأنهم لو أرادوا لا يستطيعون أن يفكوا هذه الشراكة لوحدهم. وربما بعد تجربة عجز هذه الطبقة السياسية، لن يستطيعوا أن يصنعوا الشراكة الكاملة بمعزل عن بُعد عربي يدعمهم في هذا الاتجاه.
السفير