العراق: غزو مبيت ومعلن!
ميشيل كيلو
كشف سفير بريطانيا السابق لدى واشنطن أن الأخيرة قررت شن الحرب على العراق قبل تسعة أشهر من بدئها، وكانت عازمة على خوضها حتى بمفردها، مهما كانت درجة المعارضة الدولية لها، مع علمها، بواسطة الاستخبارات البريطانية، أن صدام حسين كان قد دمر ما لديه من أسلحة دمار شامل، وأن العراق خلا منها قبل الحرب بنيف وعامين.
احتفت بعض الفضائيات بهذا الخبر وكأنه يكشف، أخيرا، سر ما حدث. وأوردت نبأ يقول إن مدعي عام المملكة المتحدة وأحد جنرالات جيشها الكبار حذرا رئيس وزرائها توني بلير من أن الحرب ستكون غير قانونية، وتجاهلت نبأ أكثر أهمية من هذا بكثير كشف ان بلير زار بوش قبل تسعة أشهر من الحرب، في الفترة ذاتها التي قررت أميركا فيها خوضها ضد العراق، لربط بريطانيا بالمشروع الامريكي وتدارس سبل وكيفيات مشاركتها فيه، بما يعني أنه اتخذ في تلك الفترة عينها قرارا موازيا لقرار بوش لشن الحرب ضد العراق. لذلك رفض قبول اعتراض المدعي العام ولجنرال، وضرب، شأن بوش، عرض الحائط بالتحفظات والاعتراضات التي حذرت من نتائجها المأساوية على بلاد الرافدين وأميركا وبريطانيا.
لئن كانت أميركا وبريطانيا قد قررتا خوض الحرب في حزيران/يونيو من عام 2002، فإنهما أعلنتا عن رغبتهما في شنها منذ أوائل التسعينيات، قبل أكثر من عشرة أعوام على دخول جيوشهم إلى بغداد. والآن، كيف مهدت أميركا علنا لاحتلال العراق؟. ثمة، وقائع دامغة تبين ذلك، منها:
ـ قبل سقوط الاتحاد السوفييتي بأشهر قليلة عام 1991، نشر الكونغرس الامريكي تقويما استراتيجيا للأوضاع العالمية الجديدة قال إن أميركا ستخوض خلال حقبة زمنية منظورة حربا متوسطة الشدة ضد قوى عظمى متوسطة القدرة كالعراق، وأن الحرب ستكون اختبارا للوضع العالمي الجديد، لسيطرة القطب الأوحد وطريقة إدارته للأزمات الدولية وقدرته على نسج تحالفات بقيادته ضد خصوم مفترضين. وبالفعل، نشبت بعد ذلك بأيام ‘حرب تحرير الكويت ‘، التي قصمت ظهر الجيش العراقي، ومهدت لحرب إسقاط نظام صدام حسين عام 2003 ولاحتلال بغداد.
ـ بعد حرب 1991، طرح مصير نظام العراق على بساط البحث، وبادر الرئيس العراقي نفسه إلى تقديم بدائل لنظامه، طالت أسلوب حكمه، والنفط ودور العراق الإقليمي، قبلت إدراجه في السياق الدولي الجديد، سياق القطب الامريكي الأوحد، لكن أميركا رفضت عروضه المتنوعة، التي وصلتها في فترات زمنية مختلفة، وتمسكت بغموض سياساتها الخلاق، الذي تحول فيما بعد إلى فوضى خلاقة، ومنعت حلفاءها من المشاركة، ولو نظريا، في بحث أموره. ويقال إنها رفضت عرضا فرنسيا قدم إليها قبل الحرب بأسابيع قليلة، يمكنّها من قلب نظام بغداد بواسطة ضباط في جيش العراق كانوا قد اتصلوا بباريس عارضين خدماتهم على واشنطن، مقابل تجنيب العراق كأس الحرب المسمومة. لكن بوش رفض بحث العرض، وأبلغ الفرنسيين إن العراق سيضرب وسيحتل حتى إن قام هؤلاء الضباط بانقلاب واستلموا السلطة.
ـ في الفترة بين حرب 1991 والعرض الفرنسي في أوائل عام 2003، نشر البنتاغون تقارير تقلل من قوة الجيش العراقي، وخرائط تبين طرق اختراق العراق عسكريا، والمدة التي سيستغرقها بلوغ بغداد. وكانت وزيرة خارجية بيل كلينتون مادلين أولبرايت قد قالت قبل ذلك بنحو عام :إن أميركا لا تقبل بقاء العراق (وليس صدام حسين!) على وضعه الراهن، ولا تريد إسقاط نظامه وحسب، بل كذلك ضربه وإعادة تركيبه ضمن صيغة جديدة ستنفذها هي وليس أي بديل عراقي، حتى إن كان من صنعها. وهي لن ترفع العقوبات عنه مهما كان حكمه مواليا لها، قبل مرور فترة طويلة من احتلاله قدرتها بما قد يصل إلى ثلاثين عاما!.
ـ من جابنه، أصدر الكونغرس منظومة قوانين ومراسيم تخول أميركا فعل كل ما يحلو لها ضد العراق: من فرض حصار عليه، إلى تحديد مناطق وسقوف جوية لطيرانه الحربي، إلى تعيين عدد وأسلحة وحداته العسكرية والمقاتلة وأماكن انتشارها في أراضيه، إلى أنواع المواد التي يحق لشعبه استهلاكها، والأطعمة التي يمكنه تناولها، بل وأقلام الرصاص التي بوسع تلامذته الحصول عليها، وكذلك الأدوية والأسمدة ومواد التنظيف والألبسة … الخ. هذه القوانين توجها قانون سمي جهارا نهارا ‘قانون تحرير العراق ‘، لم يعط أميركا الحق في طرد حكومته من بلادها، وإنما جعل ذلك واجب واشنطن، الذي ستحاسب إن هي قصرت في تحقيقه.
ـ قال وزراء دفاع أميركيون متعاقبون إن أمريكا قادرة على خوض حربين متوسطتي الشدة في وقت واحد دون أن تتأثر قدرتها على الردع وحماية المصالح القومية الامريكية في مختلف أنحاء العالم. حين كان هؤلاء يسألون عن مكان خوض الحربين، كان يقال بصراحة إن العراق أحدهما، بينما تبقى هوية الثاني سرية.
هذا ما كان يفعله أيضا جنرالات أميركا، المكلفون بالإعداد للحرب والعارفون منذ أشهر عديدة بتوقيتها وأهدافها. وتدل استعدادات متنوعة جدا قام بها الامريكيون أن العمل لها كان جاريا على قدم وساق، وبصورة يومية، والتحضيرات بلغت ذروتها لحظة إطلاق الصاروخ الأول فيها.
لم يخف الامريكيون أي سر من أسرار حرب كانوا قد قروا شنها ضد العراق، لاحتلاله وإرعاب العالم. ولم ينكروا إطلاقا عزمهم على تدميره ورده إلى العصر الحجري، كما قال جيمس بيكر خلال لقائه طارق عزيز في جنيف قبل الحرب بأيام قليلة. ولم يخادعوا ويقوموا بحيل استراتيجية لستر نواياهم، بل إن بريجنسكي، أحد كبار استراتيجييهم في العصر الحديث ومستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس البالغ الاعتدال جيمي كارتر، كتب عام 1973 (قبل الحرب بثلاثين عاما فقط لا غير!) يقول: إذا لم نحتل العراق، فإن سيطرتنا على المجال الأوروبي / الآسيوي ستبقى مهددة، وقد تنهار !. هل يجب التذكير بأن صدام حسين لم يكن حاكم العراق عام 1973، وأن واحدا من قادة الانقلاب البعثي الرئيسيين، المرحوم علي صالح السعدي، كان يقول لكل من يلتقيه في دمشق ثم في مدريد: لقد جئنا إلى الحكم في قطار أمريكي؟!.
لا أعرف بأي معيار كان حديث السفير البريطاني السابق في واشنطن حول قرار أميركا شن الحرب ضد العراق، مفاجأة لبعض الإعلاميين. أعرف أنه لم يقل جديدا، بل أكد فقط ما كان العالم بأسره يعرفه، إلا بعض قيادات العراق والعرب، التي بالغت كثيرا في قوته وهونت كثيرا من قوة خصمه (كما يفعل المسكين أحمدي نجاد اليوم)، وحين وقعت الواقعة وانكشفت عجزها عن فعل شيء، قالت إنها أخذت على حين غرة، أو تعرضت للخيانة!.
لماذا لا نرى، نحن عرب هذا الزمان، الأحداث والأخطار قبل وقوعها، حتى إن وجد من يحذرنا منها ويؤكدها لنا؟. ولماذا نحرص على لعب دور الضحية المستضعف بعد وقوعها؟. وهل هذا كل ما علمنا إياه تاريخ مأساوي حديث، بدأ بفلسطين وانتهى ببغداد، دون أن يوفر عربيا واحدا من بلاياه ومصائبه؟!. أخيرا، إلى متى سنلقي الذنب في ما يحدث لنا على غيرنا، ومتى سنقول بنزاهة إننا ساعدنا عدونا على سحقنا، بما ارتكبناه من حماقات ومارسناه من سياسات، وأن العبرة التي يجب أ ن نتعلمها من هزائمنا تكمن هنا بالذات: في عدم استخدام ما لدينا من قدرات لإلحاق الضرر بأنفسنا، وتحمل مسؤولياتنا عن أوطاننا على خير وجه، وترك الباقي على الله رب العالمين؟.
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي