استراتيجية ثالثة لأفغانستان
ميشيل كيلو
ليست الاستراتيجية التي أعلنها الرئيس الأمريكي باراك أوباما بخصوص الحرب في أفغانستان هي الأولى التي يتبناها هناك، فقد سبق له أن أجرى قبل أشهر قليلة تبديلا في القيادة العسكرية أتى بالجنرال ماك كريستال إلى موقعه الحالي كقائد عام لقوات حلف الأطلسي، وقد قيل يومها إنه سيطبق استراتيجية جديدة بلورتها حكومة أوباما، تقوم على تقييد القصف الجوي، والتقرب من السكان، وتحسين شروط حياتهم، ورفع كفاءة الإدارة المحلية .
هذه هي، إذن، الاستراتيجية الثانية، التي تعتمدها الإدارة الجديدة خلال أشهر قليلة بصدد الحرب في أفغانستان، وهي تثير الملاحظتين الآتيتين: أولا: إن الأولى لم تكن كافية، أو إنها فشلت في تحقيق هدفها : فصل السكان عن طالبان وتأليبهم ضدهم . ثانيا: إنها تتسم بقدر كبير من الحذر يكاد يقارب الخوف، وتعد، بعدد العسكريين الذين سترسلهم إلى الميدان والتكلفة المالية المرتفعة التي تتطلبها، بداية ثانية للحرب وانخراطا واسعا فيها أملاه فشل الوجود الأمريكي والأطلسي في الحد من نشاط طالبان، وفي الحفاظ على زمام المبادرة العسكري خلال السنوات الماضية، ويقر القادة والجنرالات الكبار الغربيون أن المبادرة صارت في يد الجهة المقابلة، جهة طالبان، التي تسيطر على نصف مساحة أفغانستان، وتقوم بعمليات نوعية تتسم بقدر كبير من الجرأة والخيال، بينما تغرق حكومة قرضاي في فساد لا شفاء منه، وتحظى بكراهية متزايدة من بسطاء المواطنين، الذين تريد أمريكا فصلهم عن “التمرد”، ويدفعهم قرضاي الفاسد والمتعجرف إليه بكلتا يديه .
في الترتيب الزمني، هذه هي الاستراتيجية الأمريكية الثالثة في بلاد الهندكوش، باعتبار أن الأولى اعتمدت قبل عام ،2002 وطبقت خلال حرب إسقاط نظام طالبان واحتلال أفغانستان . والثانية مع قيادة ماك كريستال قبل أشهر، بينما أعلن أوباما الثالثة يوم الأربعاء في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول الحالي، بعد تردد استمر قرابة ثلاثة أشهر، عاد عليه بانتقادات شديدة من الجمهوريين، وعرضه لضغوط قوية من المؤسسة العسكرية، أدت في نهاية الأمر إلى إقناعه ( انصياعه) .
ليس ما تعيشه أمريكا في أفغانستان جديدا، فقد تعرض لمثله كل من غزا تلك البلاد الحرة : من الإنجليز في القرن التاسع عشر، الذين أرسلوا جيشا مكونا من خمسة عشر ألف رجل إلى هناك، فلم ينج منهم غير رجل واحد فقط، إلى الروس السوفييت، الذين أرسلوا قرابة ثلاثمائة ألف مقاتل، فكانوا أسعد خلق الله حين انسحبوا بعد أن ذاقوا الأمرين، إلى الأمريكيين، الذين سيبلغ عديد قواتهم مائة ألف رجل، بعد دخول ثلاثين ألفا منهم الحرب تطبيقا للاستراتيجية الجديدة،لا يستبعد أن يكون هدفهم الوحيد بعد حين الانسحاب بأسرع وقت من أفغانستان، العصية على الاحتلال والإخضاع .
ومع أن أمريكا تستخدم خبرات متنوعة جمعتها في حروبها الآسيوية والأمريكية اللاتينية، وتستعمل أسلحة طلقة أولى برية وجوية، وتنفق أموالا طائلة وبلا حساب من أجل قتل طالباني واحد، وتصرف ثلاثمائة ألف دولار سنويا على كل جندي من جنودها، فإن نتيجة الحرب خلال السنوات السبع الماضية لم تكن لصالحها، إذ تقلصت المساحات الأرضية التي تسيطر عليها، وانتزعت مدن كثيرة من يد قواتها، وتزايدت بسرعة أعداد القتلى من جنودها، بينما تعاظم فرار القوات الأفغانية إلى طالبان وتخليهم عن أسلحتهم لمقاتليها، وعجز جنرالات البنتاغون عن إيجاد طرق فاعلة يحتوون بمعونتها قوة طالبان، مع أنهم لا يعرفون كيف يحدون من تورطهم في حرب تتسع أكثر فأكثر وتنتقل من أفغانستان إلى باكستان، ومن الأخيرة إلى الأولى، في حين لا تجدي أحدث تقنيات الحرب في مواجهة تقنيات بدائية، ويمارس الشعب الأفغاني حصارا خانقا على الغزاة، وتبث محطات التلفاز صور أطفال ويافعين يرفضون مد أيديهم لمصافحة جنود الغزو، ويعبر المعارضون لطالبان عن
خوفهم من عودة هؤلاء، فكأنهم يفصحون عن عدم ثقتهم بانتصار الأمريكيين، رغم تغيير تكتيكاتهم وكثافة حضورهم العسكري وطول فترة وجودهم هناك .
ليست زيادة الجنود دواء ناجعا بالضرورة لأمراض الحرب الفاشلة، فقد جرب الأمريكيون زيادة القوات في فيتنام، حتى بلغ عدد جنودهم هناك خمسمائة ألف . لكنهم اكتشفوا بعد حين أن زيادة أعداد المقاتلين تعني زيادة أعداد القتلى في الميدان والمحتجين في الداخل الأمريكي . كانت زيادة أعداد الجنود، بناء على طلب الجنرالات، حلقة مفرغة أدت إلى تراخي تصميم الجيش على النصر، وحطمت معنويات المقاتلين، الذين حققوا أول الأمر إنجازات عابرة، ثم اكتشفوا أن نشاط العدو لم يتراجع بل تصاعد، وأن خسائر الصديق لم تتضاءل بل تعاظمت، وأن لحرب العصابات آلية يصعب عليهم فهمها وتطوير بدائل تحد من فاعليتها، وأن زمام المبادرة يبقى في يد العدو، مهما فعلوا وقدموا من تضحيات . في هذه الدائرة الشيطانية، لا يجد العسكريون وسيلة للخروج من المأزق غير المزيد من الغرق فيه، فلا عجب إذا تعالت أصواتهم بعد فترة مطالبة بزيادات جديدة في القوات، لتحقيق انتصار يزعمون أنه صار وشيكا، أو لرد هزيمة يقولون إنها غدت أكيدة .
جاء حين من الزمن بدا خلاله أن أمريكا تعلمت درس فيتنام، لذلك وجدناها تسارع إلى الانسحاب من أي تورط عسكري خاسر أو مكلف، كما فعلت في لبنان ثم في الصومال . لكنه يبدو أن سهولة احتلال العراق أقنعتها بقدرتها على الانخراط من جديد في نزاعات وحروب ظافرة، وزاد من اقتناعها أنها نجحت بعد الاحتلال في شق صفوف السكان ودفعهم إلى محاربة بعضهم بعضا، بالنيابة عنها . هذه الوصفة: احتلال فحرب أخوة، التي طبقها الجنرال بتريوس في العراق، يريد ماك كريستال تكرارها في أفغانستان، باعتبارها جوهر الاستراتيجية الجديدة . فهل تنجح هنا كما نجحت في العراق، بسبب تاريخية الخلافات بين مكونات الشعب الأفغاني، أو أنها ستفشل بسبب اختلاف ظروف البلدين ومواقف الشعبين وخوف الأمريكيين من الهزيمة؟ . هذه هي الإشكالية التي ستقرر مصير الحرب، وليست زيادة أعداد القوات الأمريكية غير تدبير القصد منه منع انهيار الوضع العسكري ريثما يكون قد تم تدريب أعداد كافية من الأفغان تستطيع أفغنة ومواصلة الحرب، وتغطية انسحاب أمريكي يحفظ ماء وجه واشنطن، فلا تظهر بمظهر قوة خسرت أمام مقاتلين هم الأكثر تأخرا وتخلفا في العالم، من جميع النواحي .
هل ستنجح استراتيجية مبنية على مجهول هو استعداد الأفغان لأن يقتتلوا لفترة تكفي لتحقيق نصر أو لتجنيب هزيمة والقيام بانسحاب “مشرف”؟ . ومتى نجحت استراتيجية مبنية على مجهول، تقوم على تكليف الآخرين بأدوار لم يأخذ أحد رأيهم فيها ولا يعرف إن كانوا موافقين أصلا عليها، سبق لما يماثلها أن فشل في فيتنام؟
لن تكون استراتيجية أوباما الأخيرة آخر استراتيجيات أمريكا الأفغانية . ومع أنها قد تحقق نجاحا عابرا، فإنها ستتحول، كما حدث في أماكن وحالات مماثلة، إلى عامل جذب لمزيد من الجنود، إلا إذا حال الرأي العام الأمريكي والعالمي بين واشنطن وبين مواصلة حربها العبثية ضد شعب ستجلب له المدارس والجامعات والمشافي والمصانع والمزارع والطرق والمعونات والاستثمارات قدرا من الحرية فيه إنقاذه، ولن تنجز الطائرات والمدافع والصواريخ أي شيء غير دماره وموته، وانتصار طالبان .
الحليج