صفحات سورية

الجمهوريات الملكية … أو خاصيات “السلطة القدرية”

null
ماجد الشيخ
لأول مرة ربما تتكشف او تبلغ الاستعصاءات السياسية ذروة أو ذرى جديدة غير مسبوقة في بلادنا، وفي القلب منها مجتمعاتنا الوطنية، في إستعادة “لأمجاد” مكوناتها البدائية البدئية، إستظهاراً لحوافز الدفاع عن مصالح أطرافها المتصارعة او المتخاصمة مع ذاتها او مع “آخر” محلي او إقليمي او دولي، مقولبة غرائز “جمهورها” في الشارع تحشيداً وتجييشاً له في معركة او معارك تصوّر على أنها “مصيرية” في الدواخل الوطنية، فيما “الخوارج” الاقليمية والدولية أضحت الدافع الابرز المكون لإصطفافات التحشيد والتجييش إلى هذا الجانب او ذاك، في إستثارة “الغرائز الجديدة” الناشئة من غياب الهم الوطني والانتماءات الوطنية وهوياتها الجامعة.
وفي غيبة العقل السياسي والفكر السياسي الناجز، الممتلئ بحيوية وإحيائية الثقافة المؤسسة للسياسة بمعناها غير الاصطفائي، القائمة على إرتياد المداخل والمخارج الكفيلة بتوفير مقومات التسوية او التسويات المطلوبة إزاء الازمات والاشكالات المثارة، فإن أنصاف التسويات او التوافقات المصلحية والمنفعية الطابع، القائمة على توازنات هشة او حلول وأنصافها المجحفة، لن تفضي إلا إلى تعميق شروخ التوازنات، وقيام علاقات تكاذب فاضحة، سرعان ما تنهار او تتكشف عن بؤس وعي شقي، لا يرى في تعمياته السياسية سوى رؤاه ومصالحه الاحادية وأنانياتها، تلك التي تعيد إنتاج نرجسية السياسة، وقيامها على حوامل المصلحة السلطوية الناجزة في تأبيد عصبيتها وعصبويتها في آن، وإستسقائها من دم المخمورين بنشوة الاثارة الغرائزية وإستسهالها العقيدي الانقيادي، المترسم شكلاً قطيعياً لوعيه المتولد من تخارجات قوى الهيمنة بمرجعياتها الاستبدادية التسلطية، المعممة لخراب العمران وهلاك مجتمع الانسان.
وفي ظل المعطى العربي الراهن، يبدو أنه لن يكون من السهل الحديث عن مشروع سياسي لدى أنظمة حكم تغرق في تغييب، بل وإستبعاد كل فعل سياسي جاد وحقيقي، في أروقتها العاملة على “تأبيد” شكل من أشكال سلطة تتناسل من طبائع إستبداد متغيرة، تنهل على الدوام من معين واحد: معين الواحدية السلطوية رغم تعددية مرجعياتها البطركية المنبثة في كامل البنى القائمة التي عززت وتعزز دوماً كاريزما السلطة وابويتها، مجسدة في زعامات فردية/نخبوية/طغموية، إستندت وأسندت في كل الاحوال ببنى بيروقراطية مدنية/إجتماعية/عسكرية/مخابراتية، شكلت للزعيم الفرد او للزعامات الفردانية الاحادية بمجموعها، شبكة أمان إستمرارية التشبث بسلطة “قدرية”، مارست فعلها ومؤثراتها التبادلية في تكوين شبكة أمان لكل أولئك الذين تحلّقوا ويتحلقون حولها، كونها “ضمانة الاستمرار” للزعيم الفرد او للزعماء الافراد، وبيروقراطيات السلطة العاملة على تكريس الهيمنة، وعصبية القوة وعنجهية السطوة والنفوذ وإفسادات السلطة والثروة.
هنا لا سياسة في أروقة سلطة كهذه، رغم تشدّقات “الضرورات” المفتعلة، هنا لا تتأسس الدولة إلا في غياب السلطة. هنا لا تنتج المواطنة دولتها، بل ان السلطة هي التي تسعى إلى “تصنيع مواطنة” تتلاءم ورؤيتها لذاتها. هنا لا تحمل السلطة اي مشروع سياسي، بل هي لا تمارس مطلقاً اي سياسة، إلا إذا كان المشروع السلطوي كماهية تسلطية، هو جوهر المشروع السياسي للسلطة في غياب الدولة. هنا تؤكد الزعامات الكاريزمية للسلطة ان “إنجازاتها” ليست أكثر من إشتغال على تنمية روح الخوف والشقاق والنفاق في المجتمع، وتغييب فرص التنمية الحقيقية المشغولة بهموم تطوير القدرات البشرية، وحجب رؤية الافق الحداثي التقدمي الديمقراطي أمام الدواخل الوطنية.
إن الفراغ او الافراغ التام للفضاء العام من السياسة، والعمل على تصحير المجتمعات، هو ما أغرى ويغري “بالتأبيد لسلطة الابد”، وهو ذاته الحيز الذي يدفع بإتجاه التوريث في أكثر من بلد عربي، في ظل إنسداد كامل للإفق الديمقراطي الذي لا يؤشر في كل حال إلى طريق واحد مغلق، بل إلى إنغلاق في العديد من المسارات التي يمكن أن تؤدي إلى خلق واقع ديمقراطي، ليس أولها طبيعة السلطة او النظام السلطوي الحاكم، بل بنية المجتمعات البطركية ذاتها في إمتناعها وتمنعها لأسباب كثيرة عن عدم إقحام قواها ونخبها المتنورة لممارسة السياسة، وخضوعها للبنى الامنية البيروقراطية للسلطات الحاكمة وأجهزتها، او إندماجها في بنى النظام و”مجتمعه” وأحزابه ونقاباته.
إن الوضع الذي أدى ويؤدي إلى تأبيد السلطة هو ذاته الوضع الذي يؤدي، بل ويشجع على التوريث. وهذا ما يكشف زيف مقولات ومفاهيم الاستقرار، تلك التي لا تتخارج عن كونها نمطاً من القبول والاستمرار تحت مسميات الاستقرار الزائف.
اي إستقرار هو ذاك الذي ينزع “الدولة” من سياقها الوظيفي المحدد، ليثبت بديلاً لها سلطة هجينة، إبتاعت وتبتاع هيمنتها، إنطلاقاً مما إمتلكت وتملك، وحازت وتحوز من تسلط القوة والعصبية، وهيمنة المال السياسي وإفشائه وتغوّله، وصولاً إلى هز وإضطراب عرش “الاستقرار الدستوري” بعد أن شهدت عروش السياسة والاقتصاد إهتزازات وإضطرابات مماثلة؟
وطالما إتجهت “الجمهوريات الملكية” إلى “تحصين” ذاتها بالقانون الاساس وتوفير غطاء “دستوري” لازم لتحولاتها “التوارثية” او “التوريثية”، عبر التلاعب بالدستور وببعض مواده، او المضي في لعبة “التعديلات الدستورية” الكفيلة بإدامة نظام السلطة وأدواتها، فإن هذا لن يغير من “قدرية” سلطة النظام في نظر أتباعه وأشياعه الذين يعتقدون ان “الاستقرار” الذي يمّنه النظام عليهم وعلى الوطن، يجب أن يكافأ بإعادة تكرار وإجترار سيرة ومسيرة الزعيم الفرد والاحتكام إليه، وإلى سلطة نظامه في إستمرار الحكم، والتمسك به زعيماً للأمة وقائداً للشعب، حتى ولو إقتضى الامر تغيير الدستور لا تعديله فحسب، قلب السياسة او تعديلها وتعديل مساراتها، وقلب الاقتصاد وتحويل مساراته، كل هذا من أجل ان يبقى الزعيم قائداً لمسيرة تفتقد المسير، ولدولة غابت او غيبت محدداتها، وإختزلت الامة في شخص زعيمها الفرد الواحد الملهم.
هكذا مع “جمهورياتنا الملكية” ما عادت السلطة وظيفة يؤديها موظفون ضمن واجباتهم تجاه العموم – عامة الناس -، للأسف هناك في أروقة بعض سلطاتنا يراد من الناس – عموم الناس – المواطنين ان يكونوا في خدمة موظفي السلطة او خصوصيي “السلطة القدرية” التي إستباحت وتستبيح كل الحقوق من أجل مصالحها الخاصة، فيما يراد للواجبات ان تبقى من “نصيب” العموم، عموم الرعايا الذين يستوون في نظر السلطة، كونهم خدامها وخدام سياساتها.
لقد ضاقت دساتير بعض البلدان بـ”طموحات” الزعيم الفرد وأفراد حاشية “دعاة الاستقرار”، إلى الحد الذي باتت “التعديلات الدستورية” لا تحمل سوى صكوك إشاعة تبريرات “الاستمرار”، من سوريا إلى روسيا إلى مصر إلى تونس واليمن وليبيا والجزائر.. والحبل على الجرار، وهي كلها بلدان لم تدع يوماً ان دساتيرها وأنظمتها الحاكمة إنما تريد ان تنحو نحو مزيد من الديمقراطية او الليبرالية المأخوذة من منابعها الصافية في سلوكها السياسي، حتى يمكن للتعديلات الدستورية التي سبق إقرارها او جرى الاستفتاء عليها او يفكر في إجرائها، ان تحقق او تقود إلى إنفتاح آفاق ديمقراطية واعدة، ذلك إن ما جرى ويجري على هذا الصعيد لا يختلف عن وراثة الاستبداد او إعادة تصنيعه دستورياً وإعادة صقل النظام وتصفيحه سلطوياً وتسلطياً، إنطلاقاً من الفرد إلى العائلة إلى الحاشية إلى هجائن الطبقات الاجتماعية المتفسخة وقياصرة المال والثروة المتحالفين مع قياصرة السلطة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى