جدل السياسي والمدني في التجربة المدنية السورية
وائل السواح
مع بداية ربيع دمشق في العام 2000-2001، بدأت ظاهرة جديدة تدخل إلى القاموس السياسي والثقافي السوري: المجتمع المدني. ومع دخول هذا المصطلح قيد الاستعمال، بدأ سجال بين السياسيين والمثقفين السوريين حول طبيعة هذا المصطلح وحدوده وتداخلاته.
وبدأ سؤال يؤرق عددا كبيرا من السياسيين والمثقفين السوريين: إلى أي مدى يمكن للسياسي أن يتداخل مع المدني فيؤثر عليه أو يتأثر به؟ هل المجتمع المدني مفهوم ثقافي-اجتماعي، أم أن فصله عن السياسة هو نوع من اختزاله إلى حدود العمل الخيري؟
لا يمكن اختزال السؤال بجواب بسيط. تحاول هذه الورقة إثارة السؤل، كما تحاول استعراض العلاقة الشائكة بين النشاط المدني والنشاط السياسي في أداء المجتمع المدني السوري، وأيضا في نشاط المعارضة السورية. وستحاول إلقاء الضوء على وجهتي النظر حول هذه القضية وحول سلوك الحكومة السورية تجاه هذا التداخل والحلول الراديكالية العنيفة التي اتخذتها حيال كلا المعارضة والمجتمع المدني في سورية.
إلى ذلك، ستحاول الورقة أن تلقي الضوء على جيل جديد من ناشطي المجتمع المدني السوري الذين يركزن على قضايا اجتماعية وتنموية ودعاوية وعلى الدور الكبير الذي لعبه هذا الجيل في قضايا من مثل إلغاء مسودة قانون الأحوال الشخصية المثيرة للجدل، وإلغاء المادة المتعلقة بما يسمى بجريمة الشرف، والحملة الوطنية لمنح المرأة حق إعطاء جنسيتها لأولادها، إضافة إلى عدد كبير من الحملات المدنية التي قامت بها مجموعات من الجيل الجيد للمجتمع المدني، الذي اعتمد أساليب ووسائل جديدة منها النيو ميديا والمدونات والفايس بوك وغيرها.
لا تعود فكرة المجتمع المدني في سورية، على خلاف الشائع بين بعض المثقفين، إلى بداية الألفية الجديدة ومجيء الرئيس بشار الأسد إلى الحكم في سورية.
فالفكرة وتطبيقاتها تعود إلى نهايات العصر العثماني وبدايات تأسيس الدولة السورية. وربما تعود بداية تشكيلات المجتمع المدني في سورية إلى التشكيلات الأهلية التي عرفتها سورية العثمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مثل نظام الطوائف الذي كان ينظم المهن والحرف في المدن الخاضعة للسلطة التركية. ولكن الكثرة الكثيرة تعتقد أن المجتمع المدني وجد كواقع مع النهضة العربية، وما رافقها من تشكيل لمنظمات أهلية ذات طابع سياسي حينا وثقافي واجتماعي في أحايين أخرى.
على أن عددا من منظري المجتمع المدني في سورية يفترضون أن فترة 45 سنة من حكم بلون سياسي وحزبي وإيديولوجي واحد، ومع غياب أي شكل من أشكال العمل الأهلي الطوعي ومع حظر كلي لأي نشاط سياسي مستقل عن الحكومة، ناهيك عن الوجود اليومي لقانون الأحكام العرفية، كان لا بد أن يؤدي إلى حرمان سورية من أي نشاط مدني. وكانت النتيجة أن الحياة العامة (والخاصة) في سورية كانت مرتبطة بشكل كامل بالحكومة ومعتمدة عليها، التي كان يهيمن عليها حزب سياسي واحد. وكان ذلك مقدمة لعودة المشاعر الطائفية والعائلية والعشائرية إلى الظهور والنمو من جديد بعد أن كانت طلائع المجتمع المدني عملت جاهدة إلى تهميشها وتقديم المدني على ما قبل المدني.
وكانت النتيجة أن المجتمع المدني السوري دخل في ثلاجة، واستبدلت به منظمات عقائدية غير مدنية، كانت تدمج بين السياسة والعمل المدني، وبين الإديولوجية والعمل المدني، فغاب المجتمع الواسع في الطبقية الضيقة، وذابت التعددية الاجتماعية الفسيحة في الواحدية العقائدية الضيقة.
من جانب آخر، كانت الطريقة الوحيدة لمعارضة الحكومة، في الفترة التي سبقت عام 2000، هي العمل تحت الأرض في مجموعات سياسية سرية صغيرة. ولكن العمل السري كان من شأنه خلق الكثير من المشاكل التي أدت إلى تراجع وتضاؤل الحياة السياسية في البلاد، وخصوصا بالنسبة للناشطين السياسيين الذين دفعوا حياتهم أو جزءا كبيرا من حياتهم ثمنا لنشاطهم السياسي. وبسبب الضغوطات الأمنية الهائلة، كانت القوى السياسية عاجزة عن عقد اجتماعات كبيرة (مؤتمرات) لاختيار قياداتها، مما حدا بالقيادات البقاء في مكانها لعقود كاملة أحيانا. لقد أدى ذلك إلى انعدام مقدرة القوى السياسية في القيادة والقواعد على التعامل العلني مع الفئات المجتمعية. وسوف نرى أن ذلك قد أثر على أداء المجتمع المدني نفسه بعد العام 2000.
كانت مرحلة الثمانينات من القرن الماضي، أصعب المراحل على السوريين بشكل عام وأشدها حلكة، حيث بدأت بالصراع الدامي بين الإخوان المسلمين والسلطة، وترافق ذلك مع حركة نشطة قامت بها النقابات المهنية: نقابة المحامين والمهندسين واتحاد الكتاب العرب والأساتذة الجامعيين. ولكن السلطة سرعان ما أنهت هذه الظاهرة، كما ألحقت بالإخوان المسلمين هزيمة نكراء، وأتبعتهم بأحزاب المعارضة اليسارية الصغيرة مثل الحزب الشيوعي المكتب السياسي (لاحقا – حزب الشعب الديمقراطي) وحزب العمل الشيوعي وبعض الأحزاب الصغيرة الأخرى، وبدأت بعدها بالضغط الشديد على كافة مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
على أن مطلع التسعينات جلب معه تغييرا طفيفا كان لا بد أن يكون مقدمة لتغييرات، مهما بدت بسيطة فإنها لعبت دورا تراكميا في بناء مفهوم المجتمع المدني. ولعل القاطرة التي بدأت بجر البلاد في هذا الاتجاه كانت احتلال الرئيس العراقي السابق صدام حسين للكويت، الذي ترافق مع انهيار الاتحاد السوفييتي وتحلل المنظومة الاشتراكية، واحتلال صدام حسين للكويت، ومن ثم في حرب الخليج الثانية ومشاركة سورية في قوى التحالف الدولي التي قامت بتحرير الكويت سنة 1991. لقد أدى قرار سورية المشاركة في تحرير الكويت إلى خروج سورية من حقبة الثمانينات المظلمة، ودخولها حقبة الانفتاح على الغرب والخليج العربي. وقد أدى تدفق أموال خليجية مهمة إلى تنشيط الوضع الاقتصادي السوري، وخروج البلاد من فترة الركود القاسية في مرحلة الثمانينات. غير أن ذلك لم يكن النتاج الوحيد لقرار سورية المشاركة في قوات التحالف، فقد وقع عدد مهم من المثقفين السوريين بيانا عبروا فيه عن معارضتهم الحرب “الأمريكية” في منطقة الخليج وخاصة مشاركة سورية في ذلك. وكان هذا أول تحرك مدني سوري مستقل منذ تجربة النقابات في العام 1980.
النتيجة الثانية، غير المباشرة ربما لحرب الخليج الثانية، كانت مؤتمر مدريد ومشاركة سورية في مباحثات السلام لأول مرة مع إسرائيل. لقد أسس هذان الحدثان لمرحلة جديدة في الحياة السياسية والمدنية السورية، شجع عليها إطلاق مئات من المعتقلين السياسيين على دفعات.
وبدأت حفنة من المثقفين السوريين الشجعان تتلمس طريقها للبحث في مسألة جديدة كليا في ذلك الوقت: المجتمع المدني. وكان حجر الأساس في حركة المجتمع المدني السوري المعاصرة بيان الـ 99. ففي وقت قصير إثر وفاة الرئيس الراحل حافظ الأسد، عبّد، تسعة وتسعون مثقفا سوريا الطريق أمام مثقفين وسياسيين آخرين للعمل العلني، من خلال توقيعهم ما سوف يعرف في التاريخ السوري المعاصر باسم “بيان التسعة والتسعين.” بعض الموقعين كانوا مفكرين وأكاديميين وكتابا وأساتذة جامعات، ولكن بعضهم الآخر كان سياسيا من أحزاب سياسية معارضة، وهو ربما ما أعطى البيان الشهير صبغة سياسية أكثر منها مدنية. ومع ذلك فقد كان هذا البيان الشرارة التي أشعلت الحريق. فلأول مرة منذ عقود يجتمع مثل هذا العدد من النخبة السورية على المطالب التالية: إلغاء حالة الطوارئ؛ وإصدار عفو عام عن جميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي والضمير والملاحقين لأسباب سياسية؛ إرساء دولة القانون، وإطلاق الحريات العامة، والاعتراف بالتعددية السياسية والفكرية وحرية الاجتماع والصحافة والتعبير عن الرأي.
لجان إحياء المجتمع المدني: التداخل بين السياسي والمدني
بدأت فكرة إنشاء جمعية لإحياء التراث المدني والمجتمع المدني بدعوة في منزل أحد المثقفين السوريين، في جلسة حضرها نخبة من المثقفين، ناقشوا إقامة جمعية لدعم فكرة ومبادئ المجتمع المدني، فكان تأسيس أول جمعية أهلية في هذا المجال، سميت “لجان إحياء المجتمع المدني.” وأعلنت الجمعية عن نفسها في بيان سمي – تيمنا ببيان الـ99 – بيان “الألف.” جاء رد السلطة تصاعديا. بدأ بنشر بعض الصحف اللبنانية ردودا سورية عنيفة على دعاة المجتمع المدني، ثم دعا نائب رئيس الجمهورية آنئذ، عبد الحليم خدام إلى اجتماع في مدرج جامعة دمشق في 18 شباط، 2001، “استنفر فيه أساتذة الجامعات والقيادة وعددا من الشخصيات وبدأ الهجوم شرسا على لجان أحياء المجتمع المدني على أنهم عملاء لسفارات الأجنبية ومدسوسون وما إلى ذلك.” وفي 28/2/2001، أدلى الرئيس السوري بشار الأسد بحديث إلى صحيفة “الشرق الأوسط” انتقد فيه شخصيا ظاهرة البيانات التي تدعو لإقامة مجتمع مدني. ههنا، بدأت الرسالة الأساسية للجان إحياء المجتمع المدني تتبدل، فبدت لجان أحياء المجتمع المدني كأنها الفئة المعارضة الجديدة لا بنظر نفسها فحسب بل بنظر السلطة أولا وللأسف بنظر الأحزاب المعارضة ثانيا. وراحت لجان إحياء المجتمع المدني تصدر بيانات سياسية وتشارك في التوقيع على بيانات أخرى مع قوى سياسية معروفة، كالتجمع الوطني الديمقراطي وحزب العمل الشيوعي وغيرهما.
منتدى الحوار الوطني: بداية هيمنة السياسي على المدني
النقلة النوعية الثانية في العلاقة بين المدني والسياسي جاءت من خلال تأسيس النائب رياض سيف لمنتدى الحوار الوطني، الذي يمثل اختصارا لظاهرة ربيع دمشق. وقد استند المنتدى لدى افتتاحه على خطاب القسم الذي ألقاه رئيس الجمهورية الجديد بشار الأسد، والذي طالب فيه بإجراء “تغييرات اقتصادية من خلال تحديث القوانين وإزالة العقبات البيروقراطية أمام تدفق الاستثمارات الداخلية والخارجية وتعبئة رأس المال العام والخاص معا وتنشيط القطاع الخاص ومنحه فرصا أفضل للعمل.”
عندما ألقى الرئيس السوري الجديد كلمته أمام مجلس الشعب، كان معظم القادة التقليديين للمعارضة في سورية لا يزالون في السجون أو في المنافي أو أنهم كانوا يستفيقون من حالة السجن التي امتدت بهم عقودا طويلة بعد خروجهم منها في نهاية التسعينات، ما جعل أية إمكانية للاستفادة السياسية من خطاب القسم ومن المناخ الإيجابي الذي أشاعه شبه منعدمة. كانت النتيجة أن تقدم المثقفون للعب الدور البديل، وعوضا عن الحركة السياسية، بدأت حركة المجتمع المدني، ليملأ الفراغ. بيد أن السياسيين الذين لم يبادروا للفعل السياسي المباشر تلقفوا ظاهرة منتدى الحوار الوطني ليحولوه إلى منتدى سياسي بامتياز. فتحولت لقاءات المنتدى الأسبوعية إلى جلسات حوار سياسية ساخنة، تم فيها استعراض مختلف الرؤى والبرامج السياسية، وتحولت بعض المداخلات إلى مجرد استعراض سياسي.
وتلقفت الصحافة العالمية والإقليمية حركة النائب سيف فقامت بتغطيتها وتضخيمها، ووصفت نيوزويك منتدى الحوار الوطني بأنه “بداية حركة التغيير القادمة في سورية حتماً.” وشبهت مقالات أخرى النائب سيف بـ “ليخ فاليسا” سورية. أما سيف نفسه فقد أعلن عن ولادة تنظيم سياسي أسماه “حركة السلم الاجتماعي”. وجاء الإعلان عن الحركة داخل”منتدى الحوار الوطني” كخطوة رمزية شكلت عمليا ذروة التداخل بين المدني والسياسي في ظاهرة ربيع دمشق.
لقد شعرت السلطة أن الأمور قد سارت بسرعة كبيرة في الاتجاه المعاكس لرغبتها، وهو ما عجَّل بالبدء في كبح نشاط المنتديات وكبتها، إذ وجدت السلطات السورية في انتشارها بداية لمقاومة سلمية وشعبية واسعة، كما وجدت في ازدياد شعبية سيف ونشاطه مؤشراً ينذر بتغيير مخيف.
منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي
العلامة الفارقة الثانية في علاقة السياسي بالمدني كانت تجربة منتدى جمال الأتاسي، الذي استمر أربعة أعوام كاملة في العمل العلني بعد إغلاق كافة المنتديات الأخرى. وقد جاء تأسيس منتدى جمال الأتاسي، كرد على الانتشار الكبير الذي حققه منتدى الحوار الوطني بإدارة رياض سيف، والاتجاه اللبرالي الذي انتحاه. وقد لعب حزب الاتحاد الاشتراكي دورا كبيرا في البداية لجذب الانتباه إلى المنتدى وحضر عدد من أعضاء الحزب جلسات الحوار بشكل دائم.
وبدأ المنتدى يلعب دورا جامعا لكل تيارات المعارضة السياسية في سورية. ولكن صراعا خفيا كان يدور بين اتجاهين سياسيين كانا يشكلان الفريقين الأساسيين المشكلين له. كان التيار الأول أقرب إلى حزب اتحاد الاشتراكي المعارض، بقيادة حسن عبد العظيم وهو تيار يمثل –عمريا– الشريحة المتقدمة في السن والأقرب إلى إستراتيجية الهدوء في التعامل مع السلطة، بينما يمثل التيار الثاني شريحة الشباب الأكثر حماسة والأشد رغبة في طرح القضايا الساخنة. وسوف نرى صراعا مماثلا لهذين التيارين يتكرر داخل حركة سياسية ستولد بعد قليل هي إعلان دمشق.
ويبدو أن النزاع حسم لصالح تيار الشباب، وبدأ المنتدى نتيجة لذلك بمقاربة القضايا الساخنة، وكانت الندوة الأخيرة حول “الإصلاح في سوريا “، شارك فيها 15 جهة سياسية وحقوقية ومدنية ، من بينها “الإخوان المسلمون” وحزب البعث الحاكم . وبسبب استحالة أن يقرأ المراقب العام للإخوان المسلمين علي البيانوني أو من يمثله الورقة، تبرع علي العبد الله عضو مجلس إدارة منتدى جمال الأتاسي لقراءة الورقة، في واحدة من أكثر الجلسات حضورا، في 7/5/2008. بعد نحو أسبوع اعتقلت السلطات السورية علي عبد الله، وجميع أعضاء مجلس إدارة المنتدى قبل أن يتم إغلاق المنتدى نهائيا. ويرى بعض المثقفين السوريين، وبينهم عضو مؤسس لمنتدى الأتاسي، أن قراءة ورقة البيانوني ليست سوى الذريعة المباشرة التي احتجت بها السلطة لإغلاق المنتدى. ولكن مثقفين سوريين آخرين يرون أن السبب هو بيان الإخوان وهم يعتقدون أن منتدى جمال الأتاسي قد تجاوز خطا أحمر بالسماح لورقة الإخوان المسلمين أن تتلى في المنتدى، حيث أن الجماعة لا تزال محظورة، ولا يزال القانون 49 للعام 1980 يحكم بالإعدام على أعضاء الجماعة ومناصريها.
اعتصامات
اتسمت الفترة ما بين 2004 و2006 بظاهرة مدنية طريفة هي ظاهرة الاعتصامات. لقد كانت هذه الاعتصامات ظاهرة مدنية-سياسية مشتركة. فكانت الدعوة تأتي من منظمات مدنية وحقوقية وقوى سياسية معا. كان أول اعتصام رئيسي تقوم به حركة المجتمع المدني في سورية يوم 8 آذار/مارس 2004، حيث اعتصم حوالي مئة شخص أمام مجلس الشعب السوري، بدعوة من لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية، بمناسبة مرور إحدى وأربعين سنة على إعلان حالة الطوارئ، الذي أعلن ببلاغ عسكري صبيحة يوم 8/3/2008، ولا يزال ساريا بدون توقف حتى الآن. وعلى الرغم من الطبيعة السلمية للاعتصام، فقد بادرت قوات الأمن إلى تفريق المعتصمين بالإقناع أو بالقوة.
غير أن حدة تعامل رجال الأمن ازدادت بشكل تصاعدي بعد ذلك، وصار استخدام الضرب. ومن ثم تم ابتكار طريقة جديدة لتفريق المعتصمين هي تسليط عناصر موالية للسلطة من اتحادات الشبيبة والطلبة، كما جرى في العاشر من آذار، 2005.
إعلان دمشق
بإغلاق منتدى جمال الأتاسي، آخر منتدى كان مسموحا به، ومع توقف ظاهرة الاعتصامات، تمت عودة مصطلح المجتمع المدني إلى الثلاجة من جديد وتحول المصطلح بحد ذاته إلى مصطلح سياسي، واختلط مضمون كلمة معارضة بكلمة المجتمع المدني، وصار استخدام المصطلح في الصحافة السورية من المحظورات، واستبدل به مصطلح المجتمع الأهلي.
في هذه الأثناء كانت حركة سياسية تتطور بهدوء من خلال نقاشات جرت بين أحزاب وشخصيات سياسية مستقلة، أدت في نهاية المطاف إلى ولادة تحالف سياسي واسع أعلن في دمشق في 16 تشرين الثاني/أكتوبر، 2005، تحت اسم “إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي. ووقع على البيان التجمع الوطني الديمقراطي في سورية (وهو تجمع يساري قومي، يضم حزب الاتحاد الاشتراكي العربي، والحزب الشيوعي – المكتب السياسي بزعامة رياض الترك، وحزب العمال الثوري، وحركة الاشتراكيين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي الديمقراطي)؛ والتحالف الديمقراطي الكردي في سورية؛ ولجان إحياء المجتمع المدني؛ الجبهة الديمقراطية الكردية في سورية؛ وحزب المستقبل، بزعامة الشيخ نواف البشير. أما الشخصيــات الـوطنيـــة المستقلة التي وقعت الإعلان فكانت النائب السابق المعتقل وقتها رياض سيف والشيخ جودت سعيد وعبد الرزاق عيد وسمير النشار و فداء أكرم الحوراني وعادل زكار وعبد الكريم الضحاك و هيثم المالح و نايف قيسية.
وخلال ساعات من إعلان الإعلان، سارعت عدة تنظيمات وقوى وأفراد في الخارج إلى تأييد الإعلان والانضمام إليه. ومنهم: جماعة الإخوان المسلمين وحزب العمل الشيوعي والمنظمة الأثورية وحزب الإصلاح السوري.
وما إن بدأ الإعلان بالنشاط حتى برز فيه تياران تجاذبا الإعلان في اتجاهين مختلفين: أحدهما يمثل التيار القومي والاشتراكي، والآخر يمثل التيار الليبرالي وفي 1 كانون الأول/ديسمبر 2007، عقدت على امتداد النهار الجلسة اليتيمة للمجلس الوطني، حضرها 163 عضوا من أصل 222 عضوا، شاركوا في انتخاب رئاسة للمجلس وأمانة عامة، وترأست المجلس الوطني.
فداء حوراني، بينما ترأس الأمانة العامة النائب السابق رياض سيف. وصدر عن الاجتماع بيان ختامي، تميز بلغة جديدة مختلفة عن الخطابات السابقة للمعارضة السورية بشكل عام، وتختط خطا جديدا في العلاقة بين السلطة والمعارضة يقوم على اختلاف في البرنامج السياسي والرؤية الإستراتيجية لمستقبل البلاد. فبينما كانت السلطة والمعارضة في الماضي تتبنيان نفس الخطاب القومي الاشتراكي التحريري، اتجه خطاب المجلس الوطني لإعلان دمشق ليتبنى خطابا ديمقراطيا-ليبراليا معتدلا.
لقد شكل إعلان دمشق حالة مختلفة في الخريطة السياسية السورية، ما كان للحكومة السورية أن تتحملها. وكانت النتيجة أن اثني عشر قياديا في إعلان دمشق قد حكم عليهم بالسجن ثلاث سنوات، خفضت بعد ذلك إلى السجن ثلاثين شهرا. ومهما كانت المقدمات فإن النتائج أثبتت أن التجربة قد انتهت قبل أن تنضج، معلنة بذلك النهاية الثانية لربيع دمشق. فهل كان من الممكن تجنب كل ذلك؟
هل كان من الممكن ألا يواجه ربيع دمشق المصير الذي آل إليه؟ هل كان من الممكن تجاوز حالة الاستعصاء هذه؟ نظريا نعم. يعتقد بعض المثقفين السوريين أن حركة المجتمع المدني التي بدأت ملامحها تظهر في العام 2000 قد أخطأت عندما خلطت بين مهامها كحركة مدنية وبين مهام سياسية كان على عاتق السياسيين والأحزاب السياسية الاضطلاع بها. وأنه كان من واجبها الانتباه أكثر إلى دورها كأداة مجتمعية مهمتها التركيز عل قضايا الثقافة والفكر والتنمية والتدريب والتأهيل والتعبئة وترويج مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وتعتقد وجهة النظر هذه أن حظ المجتمع المدني بالنمو والبقاء كان أكبر بكثير لو أنه، لم يحمل مهام الأحزاب السياسية ولم يطرح برامج سياسية في التصدي للحكومة، كما يقول أحد مؤسسي حركة المجتمع المدني في سورية.
ويرى بعض هؤلاء النقاد أن الخطأ الكبير كان يكمن أساسا في تدخل السياسيين في ظاهرة نشوء المجتمع المدني في سورية منذ نهاية التسعينات. وهؤلاء يرون أن السياسيين أرادوا استخدام المجتمع المدني كحصان طروادة لمهاجمة النظام السياسي القائم في سورية. ووضع أحد السياسيين ذلك بكلمات أوضح حين اعتبر المجتمع المدني فرقة استطلاع تتقدم الجيش المعارض بطبيعة الحال.
ويضيف هؤلاء أن دعاة المجتمع المدني الحديث في سورية هم هم السياسيون السابقون والحاليون. وبالنسبة لوجهة النظر هذه، فإن المشكلة أن المجتمع المدني لم يحاول التأسيس لثقافة مجتمعية ومواطنية، لذلك بقيت الحركة محصورة ببضع مئات من المثقفين تراهم أنفسهم في كافة المنتديات والمحاضرات والاعتصامات والبيانات ووسائل الإعلام والمحاكمات والنشاطات الثقافية، وهم أنفسهم الذين يشكلون القوى السياسية المعارضة في البلد. وبالتالي فإنه كان من المستحيل عمليا الفصل بين نشاط المعارضة السياسي ونشاط المجتمع المدني.
ولكن آخرين يرون أن ذلك لم يكن خطأ. ولكن الخطأ بالنسبة إليهم قصر المجتمع المدني واختزاله في مجموعة المنظمات غير الحكومية التي تأسست حديثا في سياق العولمة، والتي تنشط وفق رؤية عالمية للمنظمات غير الحكومية (م.غ.ح.) المتمركزة في الغرب أساسا. على العكس من ذلك، فالمجتمع المدني هو نسيج متشابك من العلاقات التي تقوم بين أفراده من جهة وبينهم وبين الدولة من جهة أخرى. ولئن كان البنك الدولي ومعه أنظمة النيو-ليبرالية في الغرب تريد من المجتمع المدني أن يلعب أساسا دورا تنمويا واقتصاديا، ليريح الحكومة من هذا العبء الاجتماعي، فإن رؤية البعض الآخر أن المجتمع المدني هو حركة المجتمع الاجتماعية والثقافية والتنموية التي تقع في الحيز الفعال بين الدولة من جهة والأسرة من جهة أخرى، وهو يقوم بهذا النشاط بمعزل عن الدولة ولكن ليس في مواجهتها.
المجتمع المدني: جيل جديد
منذ العام 2006 وحتى الآن، مرت الحركة السياسية السورية والحركة المدنية بمرحلة صعبة ومعقدة، خسرتا فيها عددا كبيرا من الناشطين المميزين الذين ذهبوا إلى السجون، بسبب آرائهم ونشاطاتهم السلمية. وبينما أدى تداخل السياسي والمدني إلى إضعاف كلا الفئتين الضروريتين لأي حراك مجتمعي سوري، اتسمت الفترة التي أعقبت اعتقالات 2006 و2007 بانفصال ضروري بين قوى المعارضة السياسية وقوى المجتمع المدني. وأدى نشوء تحالف إعلان دمشق في الداخل وتحالف جبهة الخلاص الوطني في الخارج، إلى فرز بين النشاط السياسي البحت والنشطات المدنية الأخرى.
وبرز في هذه الفترة جيل جديد من ناشطي المجتمع المدني الذين ليس لهم بالضرورة تاريخ سياسي معارض أو موال، قاموا سلسلة من النشاطات الأهلية التي اتخذت طابعا اجتماعيا واقتصاديا.
الحملة الوطنية لوقف “جرائم الشرف”
بدأت هذه الحملات الأهلية بالحملة الوطنية لوقف جرائم الشر: ” أوقفوا قتل النساء ــ أوقفوا جرائم الشرف.” فمنذ عقود طويلة يمنح القانون السوري العذر المحل للذكر الذي يقتل زوجته إذا فاجأها “في جرم الزنا المشهود.” وقد بدأت الحملة بمبادرة من مجموعة من الأفراد وهيئات المجتمع المدني، ووصل عدد الهيئات المشاركة في الحملة أربعا وعشرين هيئة، تختلف من حيث الحجم والنشاط والتأثير. وفي مقدمة هذه الهيئات كان مرصد نشاء سورية، ورابطة النساء السوريات، ومجلة الثرى، والجمعية الوطنية لتطوير دور المرأة، وجريدة النور الأسبوعية، وغيرها.
وقد حققت الحملة انتشارا ملموسا به في الأوساط الشعبية وبعض الأوساط الرسمية والدينية، وجمعت آلاف التواقيع لأشخاص يناهضون هذه الجرائم ويناصرون حقوق المرأة وقدمت على ست نسخ إلى مجلس الشعب السوري ومجلس الوزراء ورئيس الجمهورية وجهات أخرى كوزارة العدل ونقابة المحامين ووسائل الإعلام. واستطاعت الحملة استقطاب رجال دين مسلمين ومسيحيين ودروز، بينهم مفتي الجمهورية أحمد حسون والنائب الشيخ محمد الحبش.
وفي شهر تموز (يوليو) الماضي، أصدر الرئيس السوري بشار مرسوما يقضي بإلغاء إحدى المواد المتعلقة بجرائم الشرف في قانون العقوبات على أن يتم استبدالها بمادة تتشدد في عقوبة مرتكبي هذه الجرائم. وكانت المادة 548 من قانون العقوبات تنص على انه يستفيد من ضبط زوجته أو احد أصوله أو فروعه أو أخته بجرم الزنا المشهود من مادة الأعذار المحلة لارتكاب جريمة الشرف وموانع العقوبات, كما كانت تخلو من تحديد العقوبة بسنتين في الحد الأدنى.
حملة إلغاء مسودة قانون الأحوال الشخصية
الحملة الوطنية الكبيرة التي كان لها صدى واسع بين الأوساط المدنية كانت الحملة لإلغاء تعديل قانون الأحوال الشخصية. فينما كان الرئيس يصدر مرسوما بتعديل قانون جريمة الشرف، تسرب نبأ مفاده أن رئيس الوزراء السوري شكل لجنة سرية لدراسة قانون الأحوال الشخصية الناظم لعلاقات الزواج والطلاق والإرث في المجتمع السوري، للمسلمين، بينما احتفظت الكنائس المسيحية وطائفة الدروز بقوانين خاصة بكل طائفة من طوائفهم.
ولدى نشر نص مسودة القانون الجديد، قامت عشرات الهيئات الأهلية والمدنية ومئات الأفراد والمدونات والمواقع الخاصة بحملة عفوية لإلغاء المشروع الذي رأوا فيه الخطوة الأولى في طريق تفتيت المجتمع السوري وإعادته قرونا عديدة إلى الوراء. وكان من المفترض أن يتم تحويل مشروع القانون إلى مجلس الشعب السوري لإقراره، بصمت وبدون ضجة، ليكون ذلك خطوة إضافية، ولكن حاسمة، على طريق تعميق الراديكالية في داخل المجتمع السوري. ولكن تسريب المشروع أعاق ذلك.
وركزت حركة المجتمع المدني السوري على عدة نقاط مهمة في صياغة المشروع، منها صياغة المشروع في الظلام وبسرية لا تليق بمشروع قانون يخص ملايين السوريين، وعدم طرح هذا المشروع للنقاش العام – والمعروف أن مشروع القانون تم تسريبه تسريبا ولم ينشر على الملأ لمناقشته من قبل المختصين والمهتمين في الشأن العام، والنقطة الثالثة هي أن المشروع لم يسأل المرأة رأيها في مشروع القانون، بما في ذلك النساء العاملات في الحكومة من نائبة الرئيس ومستشارتيه والنائبات الثلاثين في مجلس الشعب.
وقد استخدم ناشطو المجتمع المدني الإعلام الجديد في حملتهم، من المدونات إلى الرسائل القصيرة إلى موقع الفيسبوك المحجوب في سورية، وغير ذلك من وسائل الإعلام الجديد.
وكانت النتيجة أن أصدر رئيس الوزراء نفسه قرارا بوقف العمل على تقديم المشروع إلى مجلس الشعب لمناقشته وإقراره. وفيما رحب بعض الناشطين في الهيئات المدنية والأهلية بهذه الخطوة، وصفها آخرون بأنها “نصف خطوة” وتساءل “لماذا الإيقاف بدلا من الإلغاء، والكل يعرف الفرق بين الكلمتين”، مطالبا بإلغاء المشروع كلية.
حملات أخرى
إلى جانب هاتيتن الحملتين الكبيرتين التين أبرزتا دور الطور الجديد من المجتمع المدني السوري، كانت هنالك حملات أخرى هدفت إلى تحقيق نتائج محددة في بعض المجالات، بينها: الحملة التي هبت للدفاع عن طفلة سورية اغتصبها أربعة شباب شمال حلب، وحملة تخفيض سعر المكالمات في الهواتف الخليوية، وحملة “خل بلدك نظيفة مثل الفل،” التي تبناها مثقفون وفنانون سوريون معروفون ومحبوبون من قبل عامة السوريين، إضافة إلى نحو ثلاث وعشرين منظمة ومدونة وموقع إلكتروني. تهدف الحملة إلى الحفاظ على نظافة البلد.
كفاح افتراضي ووسائل جديدة
تتميز الحالات السابقة كلها بسمات مشتركة، منها أنها غير سياسية ولا مسيسة؛ وثانيها أنها شملت عناصر من مختلف فئات المجتمع السوري؛ وثالثها اعتمادها على الوسائط الجديد في التواصل، مثل الهواتف النقالة، والبريد الإلكتروني، والمواقع الإلكترونية، والمدونات، ومواقع التفاعل الاجتماعي مثل الفيسبوك وتويتر. ولا بد من التنويه بعشرات المدونات والمواقع الإلكترونية التي ساهمت بكثافة وفاعلية في هذه الحملات، منها موقع نساء سورية، موقع الثرى، موقع المركز السوري للإعلام وحرية التعبير عن الرأي، موقع ألف، مركز التنمية للدراسات، مدونة هلوسات، وغيرها كثير.
خاتمة
النضال السياسي ضرورة لا بديل عنها لكل شعوب المعمورة. النضال المدني والأهلي ضرورة أخرى لا تقل عنها أهمية. وثمة ربط لا محيد عنه بين النشاطين، ولكن الرأي الراجح أن هذا الربط يتم بشكل موضوعي دون أن يعني تداخلا بين نشاطي الميداني. للنشاط السياسي ميدانه، وهو الحكومة والبرلمان والشارع. النشاط المدني ميدانه القضايا الثقافية والاجتماعية والتنموية والأخلاقية. مهمة المجتمع المدني الدفاع عن قضايا هي في الصلب سياسية مثل الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان، ولكن بوسائله المدنية غير السياسية. تلك هي الرسالة التي توصلت إليها مختلف قوى المجتمع المدني السوري والقوى السياسية المعارضة: بقي أن تقبل السلطة بهذه الحقيقة، وتعطي مزيدا من الحرية لنشاط هذه الفئات، دون تقييد ولا تهديد ولا وعيد.
*باحث سوري
نشرة الاصلاح العربي 5/12/2009