حدود التأثير الإيراني في التسوية السورية – الإسرائيلية

د. مصطفى اللباد

تمثل التسوية السورية-الإسرائيلية حدثاً مهماً في توازنات المنطقة، ومرد ذلك أن دمشق تعد بموقعها الجغرافي الفريد مفتاحاً رئيسياً للنفاذ إلى معادلات المشرق العربي؛ وبالتالي كامل المنطقة. وأعادت الوساطة، التي تقودها تركيا منذ شهور بين كل من دمشق وتل أبيب، سورية إلى بؤرة المشهد الإقليمي من جديد، خصوصاً بعد زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى دمشق حاملاً عرضاً إسرائيلياً بالانسحاب من هضبة الجولان، مقابل توقيع معاهدة سلام مع الدولة العبرية. ومن طهران أعلن وزير الخارجية السوري وليد المعلم؛ وإلى جواره نظيره الإيراني منوشهر متكي، أنه «إذا كانت إسرائيل جادة في طلب السلام مع سورية، فلا شيء سوف يمنع المفاوضات». وتعاني دمشق عزلة عربية تقودها الرياض والقاهرة لأول مرة في التاريخ الحديث، وهو ما يجعل الغطاء العربي للمفاوضات مفقوداً على العكس مما جرى في مفاوضات مدريد السابقة.

كما تعاني سورية أيضاً اتفاقا نادرا أميركيا- فرنسيا على تحجيم دورها ومحاصرتها دولياً، ومن شأن هذه العزلة العربية والتحجيم الدولي أن يعمقا التحالف السوري-الإيراني، لأن العزلة والتحجيم المذكورين يصبان في تمتين التحالف الإقليمي القائم بين دمشق وطهران منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979. وبدوره يؤدي تمتين التحالف السوري-الإيراني إلى تصعيب فرص التسوية السورية-الإسرائيلية، ومرد ذلك أن هذه التسوية ستضرب مصالح طهران في العمق، كونها ستعزل الأخيرة عن بؤر النزاع في المنطقة. كما أن سورية، وفي حال سارت في عملية التسوية، فسوف تتراجع أولويات تحالفها مع طهران إلى الخلف مقابل تحسن متوقع في العلاقات السورية مع الغرب. ولما كانت الحال كذلك، يمكن القول بكثير من الاطمئنان إن إيران لا يمكنها إلا أن تعارض التسوية السورية-الإسرائيلية في هذه المرحلة.

عندما ينظر المتفحص إلى خريطة إيران يجدها مثل «قطة»، بحيث يكون رأسها وعنقها عند آسيا الوسطى وبحر قزوين ووجهها عند تركيا، في حين يمتد ظهرها عند أفغانستان وباكستان؛ أما بطنها الرخو فيكون بالضبط على طول وامتداد الخليج العربي. وبسبب تحالفات إيران الدولية مع روسيا، تعلم إيران أن طموحاتها الإقليمية في منطقة بحر قزوين وآسيا الوسطى ستصطدم بالمصالح الروسية التي تعتبر تلك المنطقة حديقتها الخلفية، وفي حين شكلت تركيا صاحبة المشروع الإقليمي المعاكس لإيران عازلاً أمام تمدد طموحات إيران من الشمال الغربي منذ ما يزيد على خمسة قرون، فإن المنطقة التي تطل عليها إيران من الشرق والجنوب الشرقي والتي تضم كلاً من أفغانستان وباكستان تفتقر إلى موارد الطاقة الاستراتيجية فضلاً عن أن باكستان والهند تشكلان عازلاً بشرياً وعسكرياً ضخماً أمام إيران. ولذلك يعتمد المشروع الإيراني الاستراتيجي على تثبيت الحضور في المنطقة العربية في الخليج وفي شرق المتوسط، بالاعتماد على رصيد إيران التاريخي فيها وامتداداتها الطائفية والسياسية في كليهما، وإطلالتها الجغرافية الكاشفة لمضيق هرمز، وليس آخراً على التحالف مع سورية التي تضمن له النفاذ إلى لبنان والإطلال على إسرائيل.

يأتي التحالف الإيراني-السوري على رأس أولويات مشروع إيران الإقليمي، فعن طريقه يمكن لطهران الآن ربط سلسلة جغرافية متصلة من النفوذ الإقليمي تبدأ من غرب إيران مروراً بالعراق وصولاً إلى سورية، التي تنظم سلسلة النفوذ الإيراني وصولاً إلى جنوب لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة. وهذه الإطلالة الأخيرة باتت إحدى الأوراق الممتازة بيد إيران لفرض حضورها الإقليمي سواء بحدود تماس مباشر مع إسرائيل، أو بضغط معنوي كبير على الدول العربية الرئيسة، خصوصاً في ظل تعثر عملية التسوية السياسية للصراع العربي-الإسرائيلي. ولأن إيران ترتبط تاريخياً وعقائدياً مع جبل عامل في لبنان، تمثل سورية أيضاً حلقة الوصل التي تربط لبنان المهم استراتيجياً وإعلامياً لإيران بسلسلة نفوذها الإقليمي. ومن شأن نجاح عملية التسوية بين سورية وإسرائيل أن يمثل سابقة لن تضعف التحالف السوري-الإيراني فقط، بل ستعزز حضور محور الاعتدال الذي تقوده مصر والسعودية في المنطقة.

يعتبر التحالف الإيراني-السوري مثالاً فريداً على التحالفات الإقليمية في المنطقة، باستمراره لمدة تربو على ثلاثة عقود على الرغم من التغيرات الجيوبوليتيكية العميقة التي عصفت بالمنطقة خلال هذه المدة. ويستمد هذا التحالف خصوصيته أيضاً من كونه الرافعة الأساسية لنفوذ إيران الإقليمي، بالتوازي مع مفارقة تراجع الدور السوري في جواره الإقليمي إلى أدنى مستوياته في ظل هذا التحالف. ويرجع السبب في ذلك إلى أن سورية لا تحتفظ وهي المتحالفة مع إيران –للمفارقة- بنفوذ جدي في العراق، كما أن حضورها في لبنان يتراجع لعوامل كثيرة وتحل محلها إيران المتحالفة معها والتي تملك فيه، على العكس من سورية، جذرا طائفيا راجحا. وهكذا ولأول مرة في تاريخ التحالف الإيراني-السوري يخرج أحد الطرفين بمكسب استراتيجي صاف في حين يخرج الطرف الآخر بخسارة استراتيجية صافية.

وعلى الرغم من الفوائد الاستثنائية التي تجنيها إيران من تحالفها مع سورية، فإنها تملك أوراقاً محدودة للتأثير على صانع القرار السوري في حال الانفتاح العربي على دمشق. ولكن المقاطعة العربية لسورية –كما حدث في القمة العربية الأخيرة- تجعل طهران الرابح الوحيد، إذ إن دمشق لن تجد في كامل المنطقة حليفاً سوى إيران. تمد طهران دمشق بنفط رخيص منذ ربع قرن، كما أنها الشريك التجاري الأول لدمشق، وهي ترتبط معها فضلاً عن كل ذلك باتفاقيات دفاعية وبالتحالف مع «حزب الله» في لبنان. ومجموع هذه الأوراق يجعل لطهران نفوذاً كبيراً في دمشق مقارنة بغيرها من الدول، ولكن الانفتاح العربي حيال دمشق يستطيع بسهولة نسبية منافسة المميزات الإيرانية سياسياً واقتصادياً. كما أن نجاح التسوية سيضمن تراجعاً في التحجيم الدولي المفروض على دمشق ويجعلها تستطيع أن تنوع في علاقاتها الخارجية، وبما يضمن مصالحها الوطنية المشروعة، المفاضلة السورية بين التحالف مع إيران ومميزاته من جهة، والعودة إلى الصف العربي والأسرة الدولية مع مكاسب عملية التسوية من جهة أخرى، تجعل النتيجة تميل لمصلحة الخيار الثاني، ولكن ذلك يبقى مرهوناً بشرط أساسي لا يمكن من دونه انعتاق سورية من تحالفها

الراهن مع إيران، وهو جدية إسرائيل في تحقيق التسوية والاستعداد لدفع أثمانها.
الجريدة الكويتية – 21/5/2008