التفاوض السوري الإسرائيلي

المفاجأة السورية

null

عبد الباري عطوان

الاعلان المفاجيء الذي صدر يوم امس في كل من دمشق وتل ابيب حول انخراط حكومتي العاصمتين في مباحثات سلام غير مباشرة بوساطة تركية يشكل انعكاسا صادقا لحالة الغموض في بعض جوانب السياسات السورية التي تستعصي علي الفهم، فهمنا نحن علي الاقل.

فالحكومة السورية، ظلت علي مدي السنوات الخمس الماضية تطرح نفسها علي انها زعيمة دول الممانعة في المنطقة العربية، وتقف في المعسكر المقابل لمشاريع الهيمنة الامريكية ـ الاسرائيلية، وتحتضن فصائل المقاومة الفلسطينية، وتنسج تحالفا استراتيجيا مع ايران العمود الفقري لمحور الشر وفق التصنيف الامريكي، ولذلك فان السؤال الذي يطرح نفسه حاليا هو عن اسباب هذا التحول السياسي السوري المفاجيء وما اذا كان تحولا جديا استراتيجيا، ام انه من قبيل التكتيك وشراء الوقت؟

التصريحات التي ادلي بها السيد وليد المعلم وزير الخارجية ومهندس الدبلوماسية السورية الحديثة اضافت المزيد من الغموض عندما قال ان بلاده مستعدة لمفاوضات مباشرة مع الطرف الاسرائيلي اذا ما احرزت مفاوضات انقرة التي ترعاها الحكومة التركية، ورجب طيب اردوغان شخصيا، التقدم المأمول.

البيان الرسمي السوري اكد ان الطرف الاسرائيلي اعرب عن استعداده للانسحاب الكامل من هضبة الجولان السورية الي حدود الرابع من حزيران (يونيو) عام 1967، وهو استعداد شككت فيه مصادر اسرائيلية مقربة من حكومة ايهود اولمرت. ولكن ما لم يقله البيان هو المقابل الذي يمكن ان تحصل عليه حكومة ايهود اولمرت اذا ما انسحبت من هضبة الجولان بالكامل، وهو مكلف بكل المقاييس لسورية.

توقيت الاعلان عن هذه المفاوضات غير المباشرة، التي يمكن ان تصبح مباشرة في اي وقت، محير ايضا، فعلاوة علي تزامنه مع نجاح امير قطر في انجاز اتفاق كان يبدو شبه مستحيل لتسوية الأزمة اللبنانية، وابعاد شبح الحرب الاهلية، وقعته القيادات السياسية اللبنانية جميعا دون أي تحفظات، فإنه يأتي في وقت يواجه فيه ايهود اولمرت رئيس الوزراء فضيحة رشاوي مالية يحقق فيها البوليس حاليا، ويعتقد الكثيرون انها ربما تؤدي الي الإطاحة به من موقعه الحالي، وتنهي حياته السياسية كليا.

ولا نعرف ما اذا كان المسؤولون السوريون الذين يشجعون هذه المفاوضات، ويتحمسون لتطويرها لكي تنتقل الي العلن، وعقد لقاءات مباشرة، قد اضطلعوا علي تفاصيل التجربة التفاوضية الفلسطينية، وخيبات الأمل التي اصابت سلطة رام الله من جراء تعثرها، حتي يستخلصوا الدروس والعبر قبل الوقوع في المصيدة نفسها، وهم الذين بنوا شرعية وجودهم علي التميز والتشدد في التمسك بالثوابت العربية بشكل عام، والسورية بشكل خاص.

فالسيد محمود عباس رئيس السلطة عقد اكثر من سبعة عشر لقاء مباشرا، ومعظمها مغلق، مع اولمرت في القدس المحتلة، كما زارت السيدة كوندوليزا رايس وزيرة خارجية الولايات المتحدة الراعية لهذه المفاوضات المنطقة اكثر من اربع عشرة مرة في الاشهر العشرين الماضية، ومع ذلك لم يحدث اي تقدم حقيقي في اي من القضايا المطروحة، بما في ذلك القضايا السهلة وشبه المحسومة مثل المياه والحدود. وفشلت هذه المفاوضات في تفكيك مستوطنة، او منع البناء في اخري، او حتي تفكيك حاجز في الضفة.

الأرجح ان الطرفين، السوري والاسرائيلي، يريدان شراء الوقت، وتخفيف الضغوط التي تمارس عليهما. فالطرف السوري يريد كسر عزلته العربية والدولية عبر البوابة الاسرائيلية، ويحاول التقرب من خلالها الي واشنطن، لامتصاص سموم الادارة الحالية المعادية تماما للنظام السوري، وهذا ما يفسر المرونة التي ابداها تجاه حوارات الدوحة، ومساهمته بفاعلية في انجاح الوساطة القطرية، واقناع وفد المعارضة بالقبول بالاتفاق.

اما اولمرت فيعيش هذه الايام اسوأ ايامه، ويريد من خلال فتح قناة التفاوض مع سورية تحويل الانظار عن ازماته الداخلية، والايحاء بأنه زعيم قوي قادر علي صنع السلام مع جيرانه، وسورية العدو اللدود علي وجه التحديد.

يظل هناك من يجادل بان الحكومة السورية ايضا ضعيفة، وظلت طوال الاعوام الثلاثة الماضية ترسل الاشارات والمبعوثين الي اسرائيل طلبا للتفاوض، وبلغ هذا الضعف ذروته عندما أغارت الطائرات الاسرائيلية علي ما يعتقد انها منشأة نووية قرب مدينة دير الزور في الشمال الشرقي، ونجحت في تدميرها دون ان يعترضها احد، تلاها نجاح الاستخبارات الاسرائيلية، حسب الرواية السورية، في اغتيال الراحل عماد مغنية قائد الجناح العسكري للمقاومة الاسلامية اللبنانية (حزب الله) في قلب مدينة دمشق، وفي منطقة تعتبر الاكثر تحصينا فيها. وفوق كل هذا وذاك الحصار الامريكي المفروض عليها والازمة الاقتصادية التي تعيشها بسبب الفساد والغلاء.

وسواء كان الخيار السوري التفاوضي من موقع ضعف او قوة، فإنه خيار ينطوي علي مقامرة، ربما تأتي بنتائج عكسية تماما. فدخول سورية في مفاوضات مباشرة غير مضمونة النتائج سيحرمها من ورقة قوية طالما استخدمتها بنجاح في وجه معارضيها، خاصة في لبنان، وهي ورقة الممانعة والتمسك بالثوابت القومية، واتهام الآخرين، بالتالي، بالتفريط بهذه الثوابت. النظام السوري يستطيع العيش لسنوات عديدة آمنا مستقرا مع بقاء هضبة الجولان تحت الاحتلال الاسرائيلي، مثلما كان عليه الحال طوال الاربعين عاما الماضية، ولكن الحال ربما لا يكون كذلك اذا قبل بسلام اعرج مثقل بالقيود الاسرائيلية المنتقصة من السيادة السورية، واصبح حاله مثل حال الأنظمة العربية الاخري التي لم تجن من السلام ومعاهداته غير الحنظل من خلال الرضوخ للشروط الاسرائيلية (الشيلوكية) المهينة. وحتي لو افترضنا ان الحكومة الاسرائيلية الحالية مستعدة، ثم بعد ذلك قادرة علي توقيع اتفاق سلام مع سورية يعيد اليها هضبة الجولان، فانها ستطالب بطرد الفصائل الفلسطينية وقياداتها المقيمة في دمشق، والتخلي بالكامل عن اي تحالف او دعم لحزب الله في لبنان، وفصم عري التحالف كليا مع ايران، والانخراط في عملية تطبيع ساخن مع الدولة العبرية، لأن التطبيع البارد مع مصر لن يتكرر حسب التصريحات الاسرائيلية، واخيرا القبول بالهضبة منزوعة السلاح، ووجود قوات وأجهزة مراقبة امريكية او دولية. هذا المقابل سيعني اعادة صياغة كاملة لسورية وتاريخها وسياساتها وتحالفاتها، ونسفا كاملا لسنوات من الخطاب الاعلامي والتربية السياسية. وهي عملية تغيير جذري وليست عملية تغيير تجميلية سطحية، ليس فقط للنظام الحاكم، وانما للبنية التحتية البشرية والاجتماعية والعقلية السورية. نشك ان يقبل النظام الحالي بالتغيير الجذري المطروح عليه حاليا، والذي هو اعمق من تغيير الجلد فقط، مثلما نشك في وجود مناخ حقيقي في المنطقة يدفع باتجاه السلام، بل ما نراه هو تهيئة كاملة لمسرح حرب اقليمية شاملة قد تبدأ باجتياح قطاع غزة، وتنتقل بعد ذلك الي لبنان لجر ايران وسورية الي مصيدتها. فالرئيس بوش وأد العملية السلمية اثناء زيارته الاخيرة للمنطقة، واعتمد اسرائيل حليفا اساسيا، وربما الشريك الذي يعتمد عليه في حربه المقبلة اذا ما تقرر اطلاق رصاصتها الاولي.

الرئيس الراحل حافظ الاسد ظل يكرر دائما بانه لن يوقع اتفاق سلام مع اسرائيل طيلة فترة حياته، ليس لانه ضد السلام، ولكن لانه يعلم جيدا مخاطره علي بلاده والمنطقة، والشروط المهينة المرتبطة به، وقد انتقل الي الرفيق الاعلي وهو علي العهد. ولا يخامرنا شك انه اوصي بالموقف نفسه، الي نجله الذي نقل اليه هذا الإرث الضخم، والسؤال الآن هو: هل سيتم العمل بهذه الوصية، او تمزيقها تحت عنوان الحفاظ علي النظام.. الأشهر القليلة المقبلة ستجيب علي هذا التساؤل.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى