الخيانة والوطنية وابتلاع السكين على الحدّين
موفق نيربية
عانت الحضارة الحديثة كثيراً من مسألة التخوين حتى قيّدتها في العديد من الدساتير بأنها محصورة بمشاركة الإنسان في شنّ الحرب على بلده أو تسهيل عمل الأعداء في أثنائها، والشيء بالشيء يُذكر، ويُذكِّر! فإن النظرة إلى المعارضين السوريين الذين تمثَّلوا الحداثة والعصر والاستقلال والديموقراطية، اتُّهِموا بالخيانة.
اعتبر الملك الشهير هنري الثامن في القرن السابع عشر كلّ من يشكّك في شرعية زيجاته العديدة وطلاقاته خائناً، وكذلك ابنته المستبدّة الأكثر شهرة إليزابيث الأولى، اعتبرت كلّ من يشكّك في عقيدتها أو شرعية سلطتها خائناً أيضاً يستحقّ الإعدام.
عانت الحضارة الحديثة كثيراً من مسألة التخوين حتى قيّدتها في العديد من الدساتير بأنها محصورة بمشاركة الإنسان في شنّ الحرب على بلده أو تسهيل عمل الأعداء في أثنائها، وأشهر من استعمل تلك التهمة لأغراض سياسية في إحدى أهمّ فضائح ومصائب القرن العشرين، هو السيناتور ماكارثي في الولايات المتحدة، الذي مارس مع لجنته وبدعم من السلطة أقسى أشكال القمع والتطهير والإرهاب بحقّ المثقفين الأميركيين في الخمسينيات، وقال عن عهد الرئيسين روزفلت وترومان إنه «عشرون عاماً من الخيانة»، وكان المقصود من تلك التهمة السماح بحرية النقد والرأي والتعبير في الفكر والأدب والفن خصوصاً.
منذ تلك الأيام جرى الخلط ما بين الوطن والحاكم، وأصبحت أيّ معارضة للأخير خيانةً للأول، إلى أن سادت سيادة الشعب.
في القرن الماضي، استعمل التهمة طغاة من مثل هتلر وموسوليني وستالين، وفي قرننا الرضيع هذا، مازال مثقفون عرب وسياسيون وحكام يستخدمونها ببساطة وخفّة لافتة، يشجّعهم على ذلك غياب حكم القانون، ويُقال إن في ذلك لذّة الاستعادة الساديّة لدماء شهداء التخوين، ولو صحّ ذلك لكان عاراً على أصحابه وجناية تعادل التحريض على القتل.
هنالك صمت على ما يجري في سورية، وهو يبعث على الأسى، فحين استطاع السوريون أن يواجهوا عشرات السنين من غياب الحريات الأساسية وذاكرتهم المسكونة بالسجون والكبت وأجواء الخوف، وعقد ممثلون لهم –أو لبعضهم- اجتماعاً مشروعاً دعوا فيه إلى التغيير السلمي «النابذ للعنف» والمتدرّج «المتأنّي الصبور» والآمن «حفاظاً على الجميع من احتمالات الفوضى»، باتّجاه الوطنية الديموقراطية… بادر النظام إلى الاعتقال والاستدعاء الأمني والملاحقة، وحرّك آلته الإعلامية رسمياً باتّجاه تنشيط تهمة الخيانة والعمالة وخدمة المخططات الأجنبية، وحين قال رياض الترك «شكراً للرئيس بوش» في مناسبة سؤاله عن ردّه على مطالبة البيت الأبيض بالكفّ عن ملاحقة المعارضين السوريين، ضمن سياق مليء بالانتقادات للسياسات الأميركية في المنطقة -وهو مَن قال سابقاً إنه سيكون بين أوائل من يحملون السلاح في وجه الأميركيين لو اجتاحوا سورية- هاجموه بأشنع الأشكال، وحرّكوا بعض آلتهم العمياء، التي يُخشى أن تُنتج بعماها ما لا تُحمد عقباه.
المعارضون للنظام، بآلامهم وسجونهم وملفاتهم الشرعية، لم يفكروا بتخوين خصومهم.
رياض الترك يقول رأيه الشخصي، ويكرر ذلك. هو مَن هو، ولغته هو، أو هويّته وطريقته في التعبير، فلعلّ ما يُزعجهم هو وجود شخص أصبح رمزاً وطنياً –معارضاً، عربياً، سورياً- في وقت من المطلوب فيه ألّا تكون رموز ولا شخصيات قادرة على الفوز في أي انتخابات نيابية «حرة بالطبع». هذا مختلف عن وجود من قد يعتبره أخطأ التعبير في كلماته أو توقيتها أو طريقة توظيفها، لو كانت المسألة جدلاً في هذا المستوى، ولكن ما يُطرح فيه تشويه… يستبطن التخوين، أو يُشهره!
الأشدّ مضاضةً يحدث مع بعض ذوي القربى، الذين رغم أن البيان الصادر عن المجلس الوطني -الذي تمّت صياغته بإجماع القوى والأفراد المؤتلفين تحت عباءة إعلان دمشق- يقول: «هدف عملية التغيير هو إقامة نظام وطني ديموقراطي عبر النضال السلمي، يكون كفيلاً بالحفاظ على السيادة الوطنية، وحماية البلاد وسلامتها، واستعادة الجولان من الاحتلال الإسرائيلي. ونحن إذ ندرك أن عملية التغيير هذه تهدف أيضاً إلى الحفاظ على الاستقلال الوطني وحمايته، فإنها تحصّن البلاد من خطر العدوان الصهيوني المدعوم من الإدارات الأميركية والتدخّل العسكري الخارجي وتقف حاجزاً مانعاً أمام مشاريع الهيمنة والاحتلال وسياسات الحصار الاقتصادي وما تفرزه من تأثير على حياة المواطنين ومن توترات وانقسامات خطيرة». يحدّثونك عن الوطنية!
في مايو 1916، حكمت محكمة عرفية تأتمر بأمر حاكم سورية التركي جمال باشا «الملقّب في التاريخ السوري الحديث بالسفّاح» على مجموعة من السياسيين والمثقفين بالإعدام شنقاً حتى الموت، وحرمت الدولة التي سوف تنشأ قريباً من «نخبتها» المؤسِّسة، الأمر الذي ربّما كان له الأثر الكبير في تعزيز نقاط ضعف مسارها حتى الآن. كانت تهمة أولئك الروّاد الأذكياء المنفتحين «المختلفين» هي الخيانة وخدمة أهداف العدو، ولم يكن لديهم عقدة الغرب والغريب، وتمثَّلوا الحداثة والعصر والاستقلال والديموقراطية، فاتُّهِموا بالخيانة… والشيء بالشيء يُذكر، ويُذكِّر!
لو يُفكّر السوريّون –والعرب- بعمقٍ في تلك الحادثة وآثارها عليهم، لارتعشوا كلما مرّت أمامهم تلك الكلمة، وتعوّذوا بالله تطيّراً.
* كاتب سوري