صفحات مختارة

قبل الفوات… فلنسرع الى الحداثة السردية الرقمية

عمر إدلبي
في ظل التطور التقاني المذهل الذي تشهده البشرية، يثور السؤال عن مدى مواكبة الفن عموماً والأدب خصوصاً لهذا التطور؟
ومن الضرورة بمكان الاعتراف أن المنجز الفني والأدبي ومرجعيته المتمثلة بالعلوم الإنسانية تعيش حالة من فقدان التوازن أمام هذا المد الجارف التي تشهده إنجازات العلوم التطبيقية في شتى المجالات. التقدم الحاصل في مجالي الإعلام والبيولوجيا يبدو برهاناً أكيداً على انعدام التوازن سالف الذكر، مع التأكيد في كل الحالات أن الإنسان العربي قطف ثمار التقدم الهائل هذا في التوجه نحو المزيد من الانبهار والشعور بالنقص، أو المزيد من الأصولية بأنواعها، أو المزيد من الاستلاب.
وفي ظل التغير الذي حصل في دلالات مفاهيم هامة شكلت عبر التاريخ مرتكزات للعقل البشري، من قبيل مفهوم المكان، ومفهوم الزمن، صار لزاماً على العقل البشري تغيير النظرة إلى العلاقة التي تربط بينهما، هذه العلاقة التي عبرت عنها “نسبية” أينشتاين ذات يوم، وأحدثت آنذاك ثورة في العلوم من جهة، وثورة أكبر وأعمق في النظرة إلى الكون من جهة ثانية.
أما الآن، فإن البشرية تجد نفسها أمام حالة من زوال الحدود بين المكان والزمان، وبالتالي أمام فرصة لاكتشاف أبعاد كونية، لم تكن بالحسبان، إلا في مخيلة البشر، والمبدعين منهم على وجه الخصوص.
وفي هذا المضمار، فإن الانتشار الواسع للنص الثقافي والأدبي منه على وجه الخصوص الذي أتاحه التقدم التقاني، من خلال شبكة تراسل المعطيات الرقمية العالمية (الانترنت) قد وضع النص الثقافي أمام تحديات كبيرة تتمثل بما يلي:
1ـ ضرورة البحث عن آليات إنتاج للنص الثقافي متوافقة مع آليات إنتاج النص الرقمي، تتيح للنص الثقافي إبراز منجزه هو، لا الاكتفاء بالتجلي عبر الوسائط التي يتيحها النص الرقمي.
2ـ العمل ضمن فضاءات تخيلية بكر، تأخذ بعين الاعتبار اتساع الفضاء الزماني والمكاني للخيال، الذي أتاحته رحلات العقل العلمي وأدواته في فضاءات واسعة جديدة.
3ـ إنجاز معماريات جديدة للنص الثقافي، تتسع لنتاج التفاعل بين الثقافة المكتوبة والشفهية والثقافة الالكترونية الرقمية.
ولعل في بروز ظاهرة النص المفتوح ما نجده استجابة أولية ـ وليست كافية ـ للانتقال بالنص الأدبي إلى وضعية التفاعل الخلاق مع المنجز التقاني الرقمي، وذلك من حيث الأفق المفتوح لكليهما، فيما تبرز النصوص الأدبية المنشورة في مواقع الكترونية على شبكة الانترنيت بحلة متمايزة عن نظيراتها المتجلية على الورق، وهو تفاعل آخر بين كلا المنجزين يشهد حضوراً لافتاً في السنوات الأخيرة.
فقد قدم الإعلام الرقمي مجالاً واسعاً لظهور النصوص السردية عبر نوافذه، وفي هذا الكثير من التجديد الذي يستدعي منا التوقف عنده باهتمام وجدية، وهذا ما دعا الدكتور سعيد يقطين للقول: “إن تطوير فهمنا للنص يمر من تطوير فهمنا وضبطنا لمختلف العلاقات النصية، وفي الممارستين معاً لابد لنا من وضع مختلف الإنجازات قيد الاهتمام والبحث والتساؤل . إننا الآن أمام مرحلة جديدة من إنتاج وتلقي (النص الإلكتروني)، وأي تطور في فهم النص المكتوب يساعدنا على فهم وتحليل النص الإلكتروني، كما أن أي تطور في نظريات النص والتفاعل النصي يمكن أن يتحقق من خلال الاستفادة من إنجازات مختلف العلوم، ومن بينها الإعلاميات التي على المشتغلين بالأدب أن يولوها المزيد من العناية والاهتمام، ليس من باب الموضة كما يمكن أن يتوهم المتوهم، ولكن من باب العلم بالجديد والضروري من المعارف التي تمكننا من إثبات الحضور، والمواكبة والتقدم”.
وفي هذا البحث نكرس جهدنا لقراءة حضور النص السردي الروائي بهيئته الالكترونية، للوقوف على أهم منجزات هذا التفاعل، وأبرز مشاكله.
جدل السردي/ الالكتروني:
تعتمد لغات البرمجة في الحواسب الالكترونية (الكمبيوتر) على تمثيل الحروف والكلمات والرموز والصور المتحركة والثابتة والأصوات بواسطة سلاسل من الثنائيات، هذه الثنائيات تعتمد الرقمين (1و0)، ومن تكرار هذه الثنائية ومضاعفاتها يبنى النص الرقمي بكافة تعبيراته، السمعية والبصرية والمكتوبة. وبهذا تبدو لغة النص الرقمي متمتعةً بصفتين متناقضتين ظاهرياً، فهي بسيطة من حيث مركبها، ومعقدة من حيث تركيبها، ونزعم أن هاتين الصفتين ينطوي عليهما النص السردي هو الآخر، إذ أن النص السردي هو نتاج معقد من تآلف عناصر بسيطة يقوم عليها بنيانه، ولا يتشكل حضوره إلا بهذا التآلف المعقد المبدع.
ومن تفاعل هذين النصين( السردي والالكتروني) وظهور عدد كثير من الروايات في مواقع الكترونية، صارت لعملية إنتاج النص السردي الرقمي وتلقيه وتسويقه قواعد مختلفة عن مثيلاتها في إنتاج وتلقي وتسويق النص المكتوب على الورق، ويمكن أن نبرز أهم السمات التي يتميز بها النص السردي المنشور الكترونياً بالسمات التالية:
1ـ عالمية النص السردي الرقمي، وهي سمة تضع منتجي السرد المعاصرين أمام مهام غاية في الصعوبة، في الوقت الذي تقدم فيه فرصاً جدية للوصول بنصوصهم إلى حيث لا يمكن للنص السردي الورقي أن يصل.
2ـ كسر نمطية عملية التلقي، ولا سيما على صعيد الاستفادة مما يسمى بالروابط التشعبية، التي تتيح لمتصفح النص السردي الرقمي من خلال (الممرات المستقلة) التنقل وفق خطته هو لا خطة الروائي من مقطع سردي إلى آخر، وذلك باستخدام الوصلات التشعبية، التي غالباً ما تكون موضحة بلون خاص للخط، (يستخدم اللون الأزرق غالباً).
3ـ فصل الأيديولوجية عن متن النص، إذ تقوم عملية تركيب النص السردي الرقمي وإقامة الممرات المستقلة، أصلاً على فصل متن النص عن روابطه، مما يمكن من إزاحة الدلالات الأيديولوجية وترحيلها من المتن الروائي إلى الهوامش، وهذا ما يتيح إبعاد الحمولة الأيديولوجية عن القارئ، إن أراد ذلك.
الرواية التفاعلية الرقمية:
أمام ضآلة التجارب العربية الناضجة والمؤثرة في ميدان النص التفاعلي نجد أنفسنا مضطرين للإشارة إلى تجربة سردية عالمية غير عربية، لم نعثر للأسف على نظير لها في السرد العربي المعاصر، وما اختيارنا هذه الفقرة لنختم بها مقالنا، إلا محاولة للتأكيد أن المحكيات العالمية قطعت أشواطاً من الحداثة، بات يخشى معها على حداثتنا السردية أن تبدو غاية في التقليدية، وهو اعتراف ضروري لنبدأ في تشخيص مشكلات سردنا، الشكلية منها والمضمونية، فمن غير الجائز أن ننفق المزيد من الوقت على محاورات واستعراضات نقدية واصطلاحية سجالية عقيمة في معظمها، ونظل أسرى تخلفنا العلمي في ميدان الثورة الرقمية الثقافية، مما يتيح المجال واسعاً أمام بقاء آليات إنتاجنا السردي أسيرة تخلف أنظمتنا السلطوية (السياسية والاجتماعية والثقافية والروحية) في الوقت الذي يتجه فيه المنجز الإبداعي السردي العالمي نحو تحقيق المزيد من التقدم، على طريق الخلق والدهشة!!
التجربة العالمية التي نحن بصدد الحديث عنها هي تجربة الروائي الأميركي (روبرت أريلانو) في روايته التفاعلية (شروق شمس69)، التي تعتبر تطوراً هاماً في مفهوم إنتاج النص الروائي الرقمي، إذ أنّ هذه التجربة الروائية المنشورة مجاناً على موقع الكتروني تتيح للمتلقي أن يشارك في كتابة هذه الرواية عبر رابطة تشعبية تشير إلى إمكانية تفاعل القارئ مع الرواية بإضافة مشاركته إليها، وتنص هذه الدعوة على مايلي: “لا تنس إضافة مغامرتك إلى سجل ضيوف رواية (شروق شمس69)، هذه فرصتك لتغيير الماضي”.
وما هو مثير للاهتمام أن الروائي أريلانو يقوم بصياغة مساهمات القراء وإضافتها ضمن فصول جديدة إلى الرواية، وبهذا تتحول الرواية إلى نص يتعدد منتجوه، ولا يقف عن حدود ما هو معروف في النصوص السردية الرقمية العربية التي تعتبر مثل هذه المساهمات من القراء مجرد آراء أو ردود.
إن التفاعلية التي تتيحها هذه التجربة يقف وراءها فكرٌ ينظر إلى الآخر من موقع الشريك، بما هو منتج للعمل الفني قبل أن يكون مجرد متلقّ تقليدي، (يسمع ويفهم أو لا يفهم، لا يهم) مما يعطي هذه الرواية إمكانية الانفتاح على عوالم متخيلة غاية في تنوع مرجعيتها، ويغير بشكل كلي مفهوم الروائي الخالق المستبد، وما يتيحه هذا التغير من دخول سمات جديدة على النص الروائي، لم يتح المجال بعد لدراستها بجدية.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى