عن معرض الكتاب في بيروت: الكثير من الشيء ذاته!
حسام عيتاني
تمدد معرض الكتاب العربي هذا العام ونصب المنظمون لنشاطاته خيمة كبيرة عند المخرج حَوَت أجنحة مشاركين جدد والكافتيريا. ولعلنا لا نظلم المعرض في عامه الثالث والخمسين إذا قلنا إن الخيمة تلك هي جل الجديد الذي حمله.
دور النشر الرئيسة عادت الى الأماكن ذاتها الى تركتها قبل حوالى العام وهي عين الأماكن التي كانت تعرض فيها كتبها قبل عامين وثلاثة وأربعة… ديكورات الدور هي ذاتها مع إضافة بدت شديدة البذخ مثّلها جناحان تابعان لدولة الإمارات العربية المتحدة مقارنة بتواضع المساحات التي بسط فيها الناشرون كتبهم وتواضع مكوناتها المكانية والجمالية التي لم تزد عند بعض الناشرين عن طاولات بلاستيكية نثرت عليها كتب وألعاب أطفال وعلّاقات مفاتيح وملصقات لصور مطربات وأشياء أخرى كثيرة مما تيّسر زجه في معرض للكتب.
ولعله سيكون من الإسراف في التطلب حصر ما يُسمح به للمشارك في المعرض بالكتب وحدها وسيكون من التعسف إرغام العارضين على التزام معايير تراعي مستوى معيناً من التناغم مع مناخ يُفترض أنه يُقدِّم الثقافة على التجارة. فأحوال الناشرين (وهو اصطلاح يضم كل العارضين ومنهم من لم يلج عالم النشر والكتب من باب)، كأحوال الزوار والمشترين، تُخيّم عليها أزمات الاقتصاد وتناقص القراء ووطأة الرقابات المتعددة، الأهلية والحكومية. فلا بأس، إذاً، في ترك متنفس للتبادل والمقايضة في واحد من آخر الفضاءات اللبنانية المفتوحة على قدر معقول من الحرية.
بيد أن ثمة ما يتعين فعله وقوله في سبيل الحفاظ على الفضاء هذا، إذا كان توسيعه متعذراً الآن. ربما يمكن البدء من مكان أشار إليه الشاعر عباس بيضون الذي حض على مأسسة النـــشاط الثقافي اللبناني الأبرز عبر نقل «النادي الثقافي العربي» الذي أطلق المعرض في خمسينات القرن الماضي، المسؤولية عنه الى هيئة مستقلة يكون النادي شريكاً فيها لكنها تعمل على الإعداد للمعرض طوال السنة. لم تلق الفكرة هذه ترحيباً من النادي.
وليس سراً أن المعرض يحتاج الى إعادة نظر وتقييم جذرية من جوانبه كافة، الإدارية والمالية والتنظيمية، الى جانب تلك المتعلقة به كمحفز للحياة الثقافية والفكرية في لبنان والعالم العربي. فالندوات التي تعقد على هامشه تبقى باهتة وفي أحيان كثيرة يكون عدد حضورها أقل من عدد المتكلمين. وبدا في معرض العام الحالي أن المنظمين أخذوا بملاحظات وجهت إليهم في شأن نوعية من شارك في بعض ندوات العام الماضي، إلا أن هذا يبقى أقل من جعل المعرض متعدد النشاطات ومتعدد أوجه الجذب والاهتمام، فعلاً.
وربما تكون الأزمة الاقتصادية العامة هي السبب في قلة العناوين الجديدة في عامنا هذا. فأكثر الناشرين عادوا الى منصاتهم بقديمهم. ناشرون آخرون تميزوا في الأعوام الماضية بالمغامرة وبتحدي انكماش سوق الكتاب العربي، بدا هذه السنة انهم خسروا التحدي وانزووا في أجنحتهم أمام عتو موجات الصعوبات.
لكن الأهم أن العناوين الكثيرة المعروضة، ظلت تتأرجح بين نازعين عربيين كبيرين: التراث والحداثة. إلا أن العناوين تشي بالكيفية التي فهم فيها جمهور القراء والكتاب والناشرين، ومن وراء هؤلاء العرب كلهم، وهم المعنيون بإنتاج الثقافة واستهلاكها، مسألتي التراث والحداثة. فالأول يُقدم مادة خاماً من دون مقاربة نقدية حقيقية، والثانية تظهر كاستجابات لدوافع خارجية إذا لم نشأ القول انها تقليد «براني» لحداثة لم يبلغ شواطئنا منها سوى أفكار مجتزأة وناقصة.
يقتضي الإنصاف القول إن الكتب السجالية لم تغب عن المعرض لكن أكثر عناوينها كان من القديم الذي أدى قسطه إلى الثقافة العربية واحتل المكان الذي يستحق أو قوبل بالتجاهل العام الذي لا يستحق، في حين يُخيل للمار بين ردهات المعرض وصفوف منصات العارضين أن الكتب الجديدة السجالية تبدو غائبة. ولا يدخل في الباب هذا نوع من الكتابات الساعية الى استفزاز المحرمات والتابوات العربية والدينية، استفزازاً مجانياً سطحياً، فالكتب هذه عاشت في العقدين الماضين فترة مجد زال، أو هو في طريقه الى الزوال، بعدما اتضحت حدود «لا فعلها» المتنكر كفعل المكبوت.
وإذا رغبنا الإيجاز لقلنا إن المعرض، أي عناوين كتبه وتكرارها بصيغ هي أقرب الى صيغة «الواحد ذاته» على ما يقال في اللاهوت، ينشئ صورة قريبة من الدقة للتكوين الثقافي – المعرفي لعالمنا العربي اليوم. فالتراث بكل مفرداته يتصدر الحيز المعرفي سائراً في دوائره المقفلة ومعيداً إنتاج ذاته من دون تنقيح تقريباً. الإبداع الأدبي، بأشكاله الروائية والشعرية، ليس غائباً لكنه موجود بخفر.
الترجمات، أكانت من كتب الغرب القديمة التي يعاد إصدارها بالتعاون مع مؤسسات ومنظمات رصدت الأموال للغاية هذه أو من جديد كتاب وروائيي العالم، حاضرة أيضاً. بيد أن الحضور هذا لا يفصح عن المدى الذي يفتح فيه العالم الواسع أمام القارئ اللبناني والعربي المحاصر بأكداس من المعرفة المضادة، إذا جاز التعبير، القاتلة في نهاية المطاف للتطلب المعرفي ولنهوضه حاجةً للإنسان.
وتجوز إضافة ملاحظة قد تبدو هامشية وهي تلك الآتية من قلة الكتب التي تعالج شؤون الأقليات في العالم العربي. على رغم وجود عدد من دور النشر المتخصصة في نشر الأدبيات المسيحية على سبيل المثال أو تلك التي تهتم بشؤون مذاهب إسلامية مختلفة، يمكن ببساطة تلمس قلة عناوينها الجديدة أمام سيل مدهش من الكتب المعادية لليهود وكل ما يمت إليهم بصلة. نلمس هنا، من دون مواربة، واحدة من صعوبات «الوعي» العربي الذي يبحث عن تحديد ذاته وتعريفها من خلال التناقض مع الآخر. ففي هذه الساحة تمّحي الفوارق الدقيقة ويندمج اليهود بإسرائيل بجرائم الاحتلال في كلٍ تطفو على سطحه «بروتوكولات حكماء صهيون» المعروضة في العديد من دور النشر هي و «دراسات» تثبتها وتؤكد صحتها.
عليه، قد تكون أقل مشكلات المعرض هي تلك التنظيمية المرتبطة بالمساحة والجمال، مقارنة مع كشفه أهوال مشكلات المعرفة والعقل العربيين وما يجري تغذيتهما به.
الحياة