الطائفية…تنوير أم تعصُّب؟!
وهيب أيوب
تجتاح المجتمعات العربية من أقصاها إلى أقصاها ومنذ سنوات، موجة من التطرف والتعصّب الديني والطائفي والمذهبي، لن تكون نتائجه إلا تمزيق وشرذمة تلك المجتمعات وأوطانها شرّ تمزيق.
نلحظ في السنوات الأخيرة في الجولان ظاهرة جديدة على مجتمعنا لم يعهدها من قبل، تتمثل في حملة متصلة الحلقات تحاول ترسيخ هوية ضيقة وأحادية الاتجاه ألا وهي الهوية الطائفية، من خلال المحاضرات الدينية في مراكز عديدة وفي المدارس عموماً، بحجة توعية وتنوير الجيل الجديد على حقيقة دينهم وطائفتهم، بمن فيهم الأطفال الصغار من طلاب مدارس وروضات، ولا أدري هنا كيف يتغاضى الأهل عن المضامين التربوية لأي نشاط يؤخذ إليه أبناؤهم بشكل دوري وفي سن مبكر بحيث تغدو هذه المحاضرات مجرد غسل دماغ وقولبة تحدُّ من تفتح ونماء طفولتهم البريئة، وتقتصر على ارتدائهم “الزي” الديني وتحفيظهم أنهم “دروز”… دون أي إدراك منهم لما يفعلون.
باعتقادي إن ما يجري من غرس لمعتقدات بطريقة تلقينية هو اعتداء صارخ على الأطفال وتكوينهم النفسي والتربوي، سيكون لها الانعكاس الخطير على مستقبل حياتهم وتكوين شخصياتهم حين بلوغهم. وسيكونون أقرب إلى التعصّب منه إلى الإيمان.
ومع ذلك فلكل فئة الحرية أن تدعو وتحاضر كما تشاء، بشرط ألا تفرض رؤيتها وتعاليمها وأسلوب تربيتها على الآخرين، وانخراط المدارس في هذا المشروع هو أقرب إلى فرض هذا النشاط التلقيني على حساب تنشئة مبنية على حرية الاختيار يؤمن بها كثيرون من أهالي الطلاب.
لقد رأينا بعض ظواهر العنف والتعصّب في ممارسة البعض بالاعتداء على أناس من خارج البلدة، كان دافعها الأساسي أنهم ليسوا من الطائفة، مُغلفّة بحجج وتبريرات بتنا نعرفها جميعاً. إضافة لبعض الحوادث المشابهة وعلى ذات الأرضية أثناء الرحلات الطلاّبية خارج الجولان.
ثم إزالة بعض الأعمال الفنية وتخريب بعضها الآخر.
فإلى أين سيقودنا هذا الشحن والتعبئة الطائفية؟ وليفكر جميع العقلاء منا إلى أي كارثة ستردي بمجتمعنا. ولتنظروا فقط ماذا حدث ويحدث بين دُعاة التعصّب الطائفي بين فلسطيني عرب الـ 48.
لقد تميّز أهل الجولان منذ الاحتلال وحتى اليوم بانتمائهم القومي والوطني، وهم يُستقبلون بكل حفاوة واحترام وتبجيل أينما ولّوا وجوههم، وهذا ليس مصادفة، فتعبير أهل الجولان عن أنفسهم في جميع المحافل والمناسبات كان نموذجاً يُحتذى.
المسألة الهامة الأخرى، أن الذين ينصّبون أنفسهم قيّمين على الدين والأخلاق، ربما يجهلون هم أنفسهم جوهر الدعوة التي كان مسرحها الأساسي كما هو معروف الدولة الفاطمية في مصر.
وللذين يجهلون تاريخ تلك المرحلة أقول لهم، إن ما ميّز العصر الفاطمي هو ازدهار العلوم والفنون والآداب والفلسفة، وازدهرت في حينه الفنون على أنواعها، في الرسم والنحت بما فيها تصوير الأشخاص والحيوانات وغيرها، وأكثر ما اشتهرت به الدولة الفاطمية هو الانفتاح على جميع الأفكار والفلسفات والمذاهب الأخرى، وكان الناشطون في الدعوة الفاطمية “التوحيدية” يناقشون جميع الفئات دون تعصّب بمن فيهم الملحدين، بحيث كان أبو حاتم الرازي وحميد الدين الكرماني من نشطاء الدعوة، وقد ناقشوا حينها كتب الطبيب والفيلسوف الملحد الشهير أبو بكر الرازي. لهذا كان شعار أحد كبار الدعاة: على الإنسان اختيار ما يريد اعتناقه بحرية كاملة، دون أي ترهيب وتخويف، ويختصر بقوله: ” وهل في العدل سوى التخيير”. وكانت مكتبة دار الحكمة تضم مختلف أصناف المخطوطات والكتب التي وصل تعدادها إلى المليوني كتاب، منها أكثر من 64 ألف كتاب في شتى أنواع الفلسفة اليونانية والهندية والفارسية وغيرها، إضافة إلى كتبٍ في الأدب والشعر والفن والموسيقى، وكانوا يناقشون بعض الكتب في قاعات المكتبة. ومن الكتب الأدبية التي كانت تتداول حينها: “العقد الفريد” لابن عبد ربه، وفي الكتاب شتى أنواع الشعر والنثر عن مختلف المواضيع بما فيها وصف مجالس اللهو والطرب والشراب، وكتاب “الأغاني” لأبي فرج الأصفهاني، ورسائل بديع الزمان الهمذاني، وكتب “سقط الزند” و “اللزوميات” لأبي العلاء المعري، والمعروفة آراؤه وشعره القادح في الدين والمتدينين، وكتاب “يتيمة الدهر” لأبي منصور الثعالبي، وتحتوي هذه الكتب الأدبية على كل ما يحرّمه رجال الدين عندنا الآن، وهم لا يمكن أن يقتنوها أو يقرؤوها.
هذا هو لبُّ المشكلة اليوم مع بعض رجال الدين، الذين لم يستوعبوا حتى أسس الدعوة وجوهرها، فيتحدثون عن القشور ويرمون باللب جانباً. لهذا فإنك ترى اليوم بعضهم يخرقون التعاليم الأساسية لجوهر الدعوة والعقيدة دون أي محاسبة أو حتى مُساءلة، ويحاسبون الآخرين على القشور ويفتون بها ويصدرون الأحكام والعقوبات.
المسألة الأساسية الثانية، أن الدعاة والنشطاء أثناء الدعوة الفاطمية كانوا متعمقين ومتبحّرين في شتى العلوم الطبيعية والفلسفة واللغة، ومنهم فلاسفة بكل معنى الكلمة، وهو ما لا نجده اليوم عند أي منهم في مجتمعنا. فكيف يستطيع التنوير من يفتقده؟
من هنا نرى، أن معظم الدعوات وحتى الفلسفات قد تم تشويهها وتسطيحها من قِبل الأتباع والمُنتمين إليها بوعي أو بغير وعي. وقد حذّر الدعاة حتى في حينه من هذا الأمر بعد أن رأوا أن هناك من يُحرّف الدعوة ويفسدها، لهذا حذّر كبير الدعاة من أن يكون سلطة وحكماً ومحاسبة من أحد على الآخر، ويبقى حساب الجميع عند الله فقط. ويضيف أن الإيمان ليس بحاجة إلى سيفٍ يعينه.
لهذا فأنا أنقل لكم اليوم كلاماً من صلب الدعوة والرسائل التي اطلعت عليها، أنه ما من أحد مؤهّل للحكم على الآخر أو إصدار أي تعاليم وفتاوى، فكل فرد وبحسب الرسائل مسؤول عن نفسه وسلوكه، وإن نظرته للتوحيد نابعة مما يسّرت له نفسه وعقله ومعرفته، وما على الذين ينظرون إلى ما يرونه فساد وانحراف، إلا الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة لا أكثر ولا أقل. فهم قد يُصيبوا وقد يُخطئوا، فليس في دعوة الموحدين “الدروز” أي سلطة لطبقة رجال الدين على باقي “الطائفة” أو ما شابه.
وإن أعظم الجهاد، هو مجاهدة النفس التي بين جنبيك. فبالسلوك الحسن والنموذج القدوة خير تربية وقدوة للآخرين.
خاص – صفحات سورية –