صفحات مختارة

زواج وطـني في دولــة طائـفيـة

بقلم سلام الكواكبي
ذكرت بعض المصادر الإعلامية أن أنصار النائبة الشابة نايلة التويني متخوفون على مستقبلها السياسي بعد زواجها من شاب يعتنق ديناً آخر. وقبل الخوض في هذه “الإشكالية”، يجدر التنويه بأن ما “اقترفته” هذه النائبة الشابة هو ثمرة لثقافة عائلية أسس لها جبران الجد ورسّخها غسان الأستاذ والتي إن هي عمّت المجتمع اللبناني، لكانت أمراضه القائمة على منابت طائفية ومذهبية أقل إيلاماً وأرقّ وقعاً. نحن إذاً في إطار عملية “إرثٍ” ثقافي حضاري إضافة إلى حمل شعلة الصحافة القائمة على أسس وطنية رغم ما يمكن أن يكتنفها من شوائب ذات أبعاد طائفية من هنا ومن هناك.
وقلق “المناصرين” على مستقبل نايلة السياسي هو تعبير صارخ عن مرض هيكلي يكتنف بعض مكونات المجتمع اللبناني خصوصاً والعربي عموماً والمتعلق بالهوية الدينية التي تتجاوز أهميتها ورمزيتها الهويات الوطنية التي لها وحدها أن تؤسس وتبني دولة حديثة تُخرج المنطقة من غيبوبتها الحضارية والثقافية والتحديثية.
فمن يدّعي مناصرة النائبة تويني مستنداً إلى انتمائها الديني / المذهبي، فهو يساند رمزية دينية / مذهبية طوّع لها عقيدته وجعلها سقف انتمائه. أما أن تكون المساندة والانتماء إلى ما يمكن أن تمثله نايلة كشابة أولاً في منظومة سياسة كهلة حتى الثمالة، أو إلى ما تحمله كمشروع وطني يجمع حوله أفراداً من مختلف التكوينات والذي حاولت أن تعبّر عنه، رغم الهفوات المرتبطة بالعمر وبنقص الخبرة، من خلال مداخلاتها ومن خلال حملتها الانتخابية، فهي أمور “معوّقة” بالفهم اللبناني للمناصرة وللمساندة سياسياً على الأقل.
الانتماء إلى مدرسة التويني الصحافية، على حداثة عهدها بها، يشكّل لنايلة غنى ثقافيا على أقل احتمال، ويفتح الباب واسعاً أمام الاستزادة بالبعد الفكري للمشروع “العائلي”، والذي جسّده الجد الأكبر المؤسس والجد الراعي وحاول المرحوم الإبن أن يخوض غماره ولكن لم يسعفه القدر وأعداء حرية الكلمة في إكمال مسيرته فيه.
والخطوة الطبيعية بالعرف الإنساني، ولكن الاستثنائية بالعرف اللبناني، التي خطتها نايلة بزواجها المدني هي تعبيرٌ محمودٌ عن إعلان دخولها هذا المعترك المليء بالألغام الفكرية والثقافية. وهذه الخطوة تطمئن ولو بنسبة ضئيلة، إلى استمرارية خطٍ توينيٍ بامتياز، مهما اختلفت معه سياسياً بعض الأطراف، فلا يمكن لها إلا أن تحترمه وتتوافق على رمزيته المهمة. هذا بالطبع إن كانت تلكم الأطراف تحمل مشروعاً وطنياً بكل أبعاده ومستلزماته وبرامجه وليست فقط صاحبة زعامة سياسية أو عائلية تستنزف البلد ومجتمعه منذ الاستقلال.
فالمناصرون الحقيقيون لمستقبل حداثي علماني لبلدٍ عانى ما عاناه من دولة الطوائف وملوكها، هم المناصرون الحقيقيون لنايلة في حبها وفي زواجها. والمواقف السياسية التي ستتبلور في ادائها وفي خطابها مع التجربة والأخطاء، هي التي ستشكّل لها قاعدتها السياسية إن أرادت الاستمرار في طريق تدل كل المؤشّرات على أنها تخوض غماره. إن اختلفنا معها أو مع بعض رؤيتها السياسية، لبنانيين كنا أم سوريين، فلا يمكن هذا الخلاف إلا وأن يتحوّل اتفاقاً وحماسة لما أقدمت عليه. وهي واعية تماماً إلى أن ما “جناه” قلبها وعقلها، سيؤدي إلى فقدانها جزءاً ممن لا يرون فيها إلا ابنة طائفتها وممثلة طائفتها في “غابة” دولة الطوائف، وهنا عظمة وشجاعة الحدث، حيث أنه يمكن أن يمر مرور الكرام في حالات أخرى لا تمسّ الشخصيات العامة، ولكن نايلة تويني أضحت شخصية عامة على صغر سنّها، وهي ستتصدى، إن أرادت، لردود الفعل التي ستعبر عن خلفيات عقيمة فكرياً، وستبني على هذا الحدث مشروعها غير المكتمل حتى الآن. وسيكون للشباب اللبناني، “إيقونتهم” الشابة التي ستعيد لهم الحماسة لطرح مشروع الزواج المدني من جديد رغماً عن أنوف بعض زعماء الطوائف الدينيين والسياسيين والميليشيويين. وهذه الخطوة، الضرورية في بناء الدولة المستقبلية، تشكّل تحدياً كبيراً على من اختار تبنيه أن يتحصّن من هجمات التخلّف، ولها أن تكون الرائدة في مجلس النواب الجديد بطرح المسألة الطائفية من وجهة النظر الشبابية وأن تعتبر هذا الهمّ الوطني قاعدة انطلاق بالنسبة لها لبناء مشروعية سياسية مستندة إلى همٍّ حداثي وطموحٍ توفيقي بعد أن شكّلت لها الخلفية العائلية إرثاً فكرياً أسس لشرعية كانت ضرورية في العرف السياسي المحلي لتمكنها من وضع قدمها في ساحة السياسة غير التقليدية المنتظرة من جميع الأطراف التي ما زالت مؤمنة بدورٍ طليعي للمشهد اللبناني في الإطار العربي الساعي إلى التغيير رغم هنّاته وتناقضاته.

(باحث وكاتب سوري مقيم بين باريس وحلب – حفيد الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، صاحب كتاب “طبائع الاستبداد”.)
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى