الطلبة أدرى بشؤون دنياهم: “رجع التلامذة للجد تاني”
جورج كتن
الانتفاضة حية ومتطورة، بدأت بملايين خرجوا للشارع احتجاجاً على سرقة أصواتهم، وتواصل احتجاجها ضد النظام الديني المستبد، ولا أحد يعلم متى وكيف وإلى ماذا ستنتهي. آخر تجلياتها التظاهرات الطلابية في الجامعات وخارجها في يوم الطلبة الوطني 7 ديسمبر، التي أظهرت أن حركة الاحتجاج الإيرانية تزداد تجذراً مطورة أهدافها وأساليبها وشعاراتها، غير مقتصرة على جامعات طهران بل آلاف الطلبة في مدن: تبريز، أصفهان، مشهد، كرمنشاه، شيراز، خرمشهر، همدان وغيرها..
لم تعد شعاراتها مركزة حول العملية الانتخابية، فالهتافات الآن تتحدى أسس النظام الإسلامي وتطالب بإقالة المرشد. وشعار “الموت للديكتاتور” كبديل عن “الموت لأميركا” لم يعد خافتاً بل الأكثر شيوعاً، وبصيغ أخرى “الموت للمستبد إن كان شاهاً أو مرشداً أعلى” أو “خامنئي قاتل وحكمه باطل”، كذلك “جمهورية إيرانية وليس جمهورية إسلامية”.. كما هتفوا: “تخلوا عن تخصيب اليورانيوم وإفعلوا شيئاً للفقراء” و”أين إيرادات النفط؟ -ذهبت للباسيج”، وأحرقوا صوراً لنجاد وخامنئي، وحملوا أعلاماً إيرانية حذفت منها كلمة “الله”، واستخدموا وسائل مبتكرة منها إرسال سيديات صوروها بأنفسهم للفضائيات العالمية بعد منع السلطة مراسليها من تغطية المظاهرات لخشيتها من انتشار صور قمعها وتعريض قادتها للملاحقة الدولية.
في مظاهرات يوم القدس سبتمبر الماضي كانت الشعارات “أعطي حياتي لإيران وليس لحماس أو حزب الله” و”إنسى فلسطين، فكر في إيران”. وفي نوفمبر الماضي ذكرى الاستيلاء على السفارة الأميركية: “أوباما، هل أنت معنا أم معهم؟”. الحركة الطلابية كانت على الدوام في مقدمة الاحتجاج الشعبي خلال التاريخ الإيراني الحديث، تحدد الشعار قبل تبنيه من الحركة الشاملة. ومع الحركة الطلابية يضعف الامل في إصلاح النظام ويتوسع مفهوم تغييره، لم تعد المسألة موسوي أم نجاد بل رفض كلي للنظام الثيوقراطي، والحركة لم تعد معزولة كما في التسعينات بل محاطة بالعطف الشعبي والمشاركة كلما كانت الاوضاع تسمح بذلك. فالكتل الشعبية وإن لم تعد للشارع بكثافة فالحركة الطلابية تمثلها وتعبر عن طموح أغلبيتها.
قدم الطلاب المعتقلين والشهداء في كل المراحل، خاصة في العام 1978 عشية الثورة لقلب الشاه. وحددوا الملامح الاولى للحركة الإصلاحية في تظاهراتهم عقب نهاية الحرب مع العراق. وفي العام 1999 أطلقوا أول اعتراض واسع ضد النظام الديني، وفي 2002 تظاهروا ضد حكم إعدام هاشم آغاجاري، وكانوا على رأس الحملة لمقاطعة الانتخابات في العام 2005، وإثر كل قمع للتظاهرات المتوالية يعودون جيلاً بعد جيل ليمثلوا الطليعة الشجاعة للمجتمع الساخط الآمل في التغيير. وقد وعى الطلبة أن الطريق طويل ولكن الهدف قابل للتحقيق.
تحركهم الاخير أدى لاعتقال ما يزيد عن 200، خمسهم من الطالبات، مما يدل على مشاركة المرأة الأكثر تضرراً في ظل النظام الديني. لم يفت ذلك من عزيمتهم فالتهديدات والاعتقالات والمحاكمات لم ترهبهم، واعتقال قادتهم لم يقلل من اندفاعهم. أما التهديد باعتقال رموز حركة الاحتجاج، موسوي خاتمي وكروبي، فلن تؤثر على الحركة فهؤلاء حدوا نسبياً من طموحها لتخطي إصلاح أو “إنقاذ” النظام. والطلبة يحضرون الآن لحركتهم القادمة في مناسبات لهذا الشهر، الاول من محرم ويوم عاشوراء، فهناك 20 مناسبة رسمية في العام على الاقل يطلق فيها النظام مسيرات عامة موجهة تستفيد منها المعارضة والحركة الطلابية لإبقاء جذوة الاحتجاج مستمرة.
من بين أبرز من تحدث عن الحركة الطلابية مؤخراً محمد خاتمي: “الطلاب نيابة عن كل الشعب الإيراني، تصدوا للاستبداد وللحكومة المنقلبة على الشرعية.. فالاستبداد ظاهرة تاريخية قبيحة”. وقال موسوي:” في تاريخنا المعاصر كانت الحركة الطلابية حاملة لواء التغيير وعملت كباعث للحراك الشعبي”. أما خامنئي فقد اتهم الحركة، بعد أن مزق طالب واحد صورة للخميني، بالسعي لقلب النظام الإسلامي، فيما يحاول إعلام النظام تحويل ذلك لقميص عثمان لاستثارة الناس ضد الحركة. أما أحمدي نجاد ففضل الخطاب الغيبي، فادعى التواصل مع الإمام الغائب الذي كلفه بتمهيد الارض لعودته القريبة بملاحقة الكفار في أراضي المسلمين و”تحرير فلسطين”!، وأعلمه أن حركة الاحتجاج أوجدها الأمريكان لتخريب مهمته ومنع عودة الإمام!!!. أية عقول يُضحك عليها في القرن الواحد والعشرين؟؟
استخدم الحرس الثوري والباسيج كل الوسائل المتاحة في مواجهة الانتفاضة، مع الابتعاد قدر الإمكان عن القتل المباشر، فميزة العصر الراهن أن الرأي العام العالمي لم يعد يتسامح مع قيام الأنظمة المستبدة بمجازر، فقد أصبح لعدالة العولمة أثر ملموس يتزايد مع الزمن في لجم القتل المبرمج للمعارضين. السلطة حجبت المواقع وإغلقت خدمة الماسيج وإوقفت صحف، وإطلقت الرصاص فوق الرؤوس واستعملت الغاز المسيل للدموع وأسلحة تخدير وبخاخات للفلفل الحاد وهراوات وسلاسل حديدية… رأس حربتها، الباسيج، المفترض أنها ميليشيا تطوعية لم تعد تتحرك مجاناً إذ منحت مكافآت مالية لتشجيعها على ضرب المتظاهرين. إيرادات النفط الإيرانية المتوقع أن تبلغ 60 مليار دولار لهذا العام كان المفترض توجيهها لتحسين الاوضاع المعيشية المتدهورة للناس، لكنها تنفق على الباسيج إضافة للتسلح المبالغ به ولدعم الحركات المسلحة في المنطقة المأمول أنها توسع النفوذ الإقليمي للنظام.
السلطة فشلت حتى الآن في منع التغطية الإعلامية الدولية للحركة، وفي الاعتقال المسبق لقادة الطلاب لمنع انطلاقها، وفي منع الناس من مشاركة الطلاب تظاهراتهم، وفي إسكات المعارضة بحجة الوحدة الوطنية وعدم تعكير التوجه لامتلاك سلاح نووي. كما أن نشاط النظام الخارجي لم يعد يعني شيئاً للغالبية الرازحة في الفقر والحرمان من الحريات الفردية والجماعية، فضعف النظام يتزايد طرداً مع تزايد تدخله في المنطقة، ونفوذه الإقليمي الذي وصل لليمن والصومال والسودان بعد لبنان والعراق وفلسطين، لا يظهر أنه ذو فائدة له داخلياً. وكلما ازداد قمع الحركة ازدادت تجذراً، وهو تكرار لتجربة الشاه مع الحركة الشعبية المنتهية بإسقاطه. ربما تكون ميزة الشعب الإيراني أنه لا يمكن إرهابه فهو يزداد تصلباً كلما اضطهد أكثر!!.
إلى أين يتجه الحكم الديني المطلق بعد تفكك عماده، طبقة رجال الدين التي دبت الخلافات في أوساطها حول دور المرشد الاعلى، هل يحكم بشكل مطلق أم أن دوره استشاري؟ كلمته التي كانت مطاعة لم تعد محترمة، لذلك ازداد اعتماده على أجهزته العنفية. وربما نشهد الآن تحول اليد العليا لهذه الاجهزة، وللحرس الثوري بشكل خاص الذي أعطي الدور الاكبر في الحد من الانتفاضة رغم وصايا الخميني المحذرة من تدخل العسكر والحرس في الشؤون السياسية فيما هم حالياً يتدخلون يومياً.
هل يسعى العسكر لاستثمار الاوضاع الراهنة لنقل السلطة لقادتهم؟ هذا ما ستبينه الايام القادمة، فالانتقال من حكم “الحزب” الديني إلى حكم العسكر حدث بسلاسة في الانظمة القومية –البعث مثلاً- التي بدأت بانقلاب يسيره الحزب، ثم أصبح الحزب أحد أدوات العسكر المتحكم بالسلطة. سيتضح إن النظام الثيوقراطي أصبح أمره محسوماً والسؤال هو من يسبق ليرثه؟ نظام ديمقراطي علماني –من النموذج التركي-، أم حكم العسكر مع واجهة من رجال الدين؟
الثورة الإيرانية مرت منذ انطلاقها بثلاثة عهود: أولها جمهورية إسلامية تعتمد توازناً بين سلطة- جمهورية- منتخبة مباشرة من الشعب ومؤسسة دينية- إسلامية- تحكم من خلال المرشد الاعلى والهيئات الملحقة به. ثانيها المرحلة التي تلت الحرب مع العراق وموت الخميني التي تميزت باختلال التوازن فيها تدريجياً لصالح هيمنة شبه شاملة للمؤسسة الدينية، مع جعل الدور الشعبي هامشياً وشكلياً كما في انتخابات حزيران. المرحلة الاخيرة افتتحت منذ منتصف هذا العام وستشهد سباقاً بين التغيير الديمقراطي الشعبي والتغيير الانقلابي العسكري.
الثورة الإسلامية الإيرانية كانت نموذجاً في المنطقة للانتقال من الاستبداد المدني للاستبداد الديني، وأثارت “صحوة!” الإسلام السياسي الذي ما زال يعيش في نشوة انتصاراتها الملتبسة. تآكلها الآن، وربما إرسالها قريباً إلى متحف التاريخ، سيكون نموذجاً وبداية لانحسار “صحوة!” الإسلام السياسي بعد “تعملقه” بالسلاح والمال الإيراني “الحلال” على حساب الشعب الإيراني، وتكريس نهائي للدين والتدين كمسألة فردية تهم الإنسان وحده في علاقته بربه، لا تتدخل في أسلوب حياته وحياة مجتمعات المنطقة، وتترك شؤون الدنيا للناس لمعالجتها فهم أدرى بها من الكهنوت الديني المدعي احتكار الشريعة.
* الشاعر أحمد فؤاد نجم.
– ديسمبر 2009
خاص – صفحات سورية –