لتبقَ أعيننا على العراق!
ميشيل كيلو
يقال إن موعد تخفيض عدد القوات الأميركية في العراق، أو إعادة انتشارها، صار قريباً. ويقال إن خمسين ألف جندي أميركي سيبقون هناك لأغراض تموينية وتدريبية. استخدم صيغة المبني للمجهول، لأنني لا اصدق أن أميركا ستترك العراق، وإن خفضت أعداد أو بدلت وظائف جيشها فيه. إذا بقي خمسون ألف جندي أميركي خارج المدن، في أماكن يستطيعون منها التدخل في الشأن العراقي دون أن يكون بوسع أحد العمل ضدهم، فهذا يكفي لاعتبار العراق بلداً محتلاً، أو غير مستقل، أو محدود السيادة، أو خاضعاً…، حتى إن نظمت معاهدة أو اتفاقية شكل تبعيته لواشنطن، التي ستسمى على الأرجح تعاوناً أو مشاركة استراتيجية، أو… أو….
هذا وجه من الموضوع. أما الوجه الثاني، فهو عراقي، إنه أفعال بأيدي أبناء العراق لصالح أجانب، أو بأوامر وتوجيهات من أجانب أو تحت إشراف أجانب. هذا الوجه الثاني هو الوضع العراقي، الذي سينبثق من الانتخابات النيابية، التي كان يقال إنها ستتم في كانون الثاني القادم، ويقال اليوم إنه تم تأجيلها إلى منتصف آذار من عام 2010، ولا يعلم أحد إن كانت ستجري حقاً.
يجب أن تبقى أعين العرب على العراق بسبب هاتين القضيتين: علاقته مع أميركا، ونمط علاقاته مع جيرانه، الذي ستتمخض عنه انتخاباته النيابية. هذان الأمران سيقرران مصير العراق إلى زمن بعيد، وكذلك مصير بلدان عربية وأجنبية مجاورة له كالسعودية وسوريا وإيران، وبعيدة عنه موزعة على بقية الإقليم العربي، الأقرب فالأبعد.
ومع أن علاقة العراق المستقبلية مع أميركا تتسم بالغموض، فإن علاقته مع جيرانه واضحة إلى حد يسوغ التنبؤ بأن جماعات قريبة من إيران ستفوز في الانتخابات، وأن وضع العراق وأمنه وسلامه ومستقبله سيتوقف أثر فأكثر على نمط العلاقة بين واشنطن وطهران، التي سهلت الاحتلال الأميركي لأفغانستان ولبلاد الرافدين، وتعاونت معه رغم فترات خلاف وصدام محدودة حكمها سقف شديد الانخفاض، فلا يستبعد أن يتطور هذا التعاون الوظيفي إلى مشتركات لها دور في تسوية الخلاف الكبير حول دور إيران الإقليمي، الذي تعترف أميركا بشرعيته في العراق أيضا، لكنها قررت أن لا تجلس إلى طاولة المفاوضات مع طهران قبل تحسين وضعها على الأرض في منطقة الشرق الأوسط، حيث تخوض حربين: واحدة في العراق وأخرى في المحور الباكستاني / الأفغاني، وإيران لاعب مقابل في المكانين، فلا تفاوض معه ما دام وضعه قوياً أو يتقوى، ولا بد من إضعافه أولاً لجعل حصته تتضاءل خلال التفاوض.
خلال السنوات الماضية، أدى تعاون أميركا وإيران الوظيفي في العراق إلى ما يأتي:
ـ قلص الطابع العربي الغالب على العراق، وأحل محله خلطة هويات دينية واتنية هي المادة الأولية لاستقطابه خارجياً ولحرب أهلية مستمرة داخله.
ـ بدأت صفحة من التاريخ معاكسة لتلك التي عاشها العراق خلال نيف وألف عام، وجعلت منه ركيزة الوجود العربي في المشرق، وحامل الحضارة العربية / الإسلامية الرئيس.
ـ حوّل العراق من جدار حماية إلى نقطة اختراق للمشرق العربي، وقد يحرفه على المدى الطويل عن هويته الأصلية ودوره التاريخي كامتداد للجزيرة العربية ووادي النيل وشمال أفريقيا.
ـ أسقط عروبة المشرق وحوّله إلى مشرق أقليات وطوائف لإيران اليد العليا فيه، فلا فلسطين ولا دول سيدة ومستقلة، بل شدّ وجذب وتمزق وتشرد وموت. هذا هو مصير الوجود العربي في كامل المنطقة، فإن تلاشى تحت ثقل التناقضات المذهبية كان خيراً، وإن قتلته السيطرة الخارجية والتمزق الداخلي كان أحسن، وفي الحالتين تحقق أميركا ما تريده، بمعونة جمهورية إيران الإسلامية.
ليس مؤكداً أن خروج أميركا من العراق ـ إن تم فعلاً ـ سيؤدي إلى استقلاله، خاصة إن تم تسليمه لإيران، التي لطالما وزعت خرائط تعتبر المساحة بين البصرة وتخوم بغداد الجنوبية أرضاً إيرانية. ولن يؤدي تسليم العراق لإيران إلى استقلاله، بل إلى تغيير طابع وهوية المشرق العربي، وهو عملية بدأت في فلسطين قبل قرن، يبدو أن محطتها الثانية هي العراق، الذي سيقلب تغيير طابعه وهويته طابع وهوية المنطقة برمتها، لن يصمد بعدها العرب أو العربان في وجه أي خطر كان.
إذا خال أحد أن في هذا مبالغة، ذكّرته بمؤتمر عقد عام 1989 لتحديد صورة العراق بعد البعث، قال إن العرب يشكلون 19 % فقط من سكان العراق، ولن يحصلوا على نسبة أكبر من أعضاء مجلس النواب، الذي سينتخب. وذكرته أيضا بارتباط العروبة، منذ عام 1991 إلى اليوم، بالوجود السني دون غيره، وبتصنيف العراقيين إلى كرد وشيعة وعرب، فالشيعة ليسوا أو لم يعودوا عرباً، مذ قررت حركات سياسية مدعومة أميركياً وإيرانياً قبول فهم للقومية يتطابق مع فهم الحركة الصهيونية لها، يعتبر العامل الديني أو المذهبي كافياً وحده لتأسيس أمة!
يقف العراق أمام مفترق طرق. إذا لم يتم تقاسم وظيفي أميركي / إيراني فيه يبقيه تابعاً بدرجتين مختلفتين لدولتين أجنبيتين بدل تبعيته الراهنة لدولة واحدة، فإن ابتعاده عن أميركا سيضعه أكثر فأكثر في جيب إيران. المصيبة أن هذا التطور سيحدث بإرادة بعض أبنائه، ممن يعتقدون أن إلحاقه بإيران هو سبيله إلى الحرية والاستقلال، وإلى إسهامه في دور يلبي إرادة الله في بناء قطب إسلامي وازن يصحح تشوهات السياسات الدولية، يعيد للمسلمين كرامتهم ويخرج الأغراب من ديارهم!
ليست انتخابات العراق القادمة شأناً محلياً سيقرر هوية نواب برلمانه. إنها انتخابات ستعين أيضا مصير العراق وجيرانه، والوجهة التي ستذهب المنطقة إليها، وستعكس هوية ونمط السياسات والدول التي ستمسك بأمره في المستقبل القريب، الذي يقاس بالأسابيع لا بالسنوات أو العقود. بعد الانتخابات سيكون بوسعنا القول: لقد بدأ العراق يخرج من محنته، أو: لقد بدأت المنطقة العربية بأسرها، وخاصة مشرقها، تغرق في محنة لن تخرج منها في المدى المنظور!
لتبقَ أعيننا على العراق. ولنستعد بكل جدية للقيام بما يحفظ عروبته، دفاعاً عن أنفسنا!
المستقبل