إحياء منصب أهل الذمة في أوروبا
د. برهان غليون
صوت الناخبون السويسريون يوم الأحد 29-11-2009 على قانون اقترحه حزب الشعب المسيحي يدعو إلى حظر بناء المآذن، في انتهاك واضح لمبادئ مساواة الدولة بين الأديان واحترام حرية العبادة. وبالرغم من الانتقادات الكثيرة التي وجهت لهذا القانون في أوروبا والعالم، حرك هذا القانون نوازع عميقة في العديد من البلاد الأوروبية للسير في الطريق ذاتها.
وكانت الحكومة الفرنسية قد تبنت في الفترة نفسها تقريبا، بطلب من رئيس الجمهورية ومبادرة من وزير الهجرة إريك بيسون، طرح خطة لنقاش مسألة الهوية الوطنية تهدف كما قال الوزير إلى بلورة اقتراحات تؤدي إلى صوغ برنامج عمل “يرسخ هذه” الهوية و”القيم الجمهورية”، ويعزز افتخار الفرنسيين بانتمائهم للأمة الفرنسية. ومن المفروض أن تعقد اجتماعات على مستوى محافظات فرنسا الـ96 ودوائرها الـ342، إضافة إلى “محافظات ومقاطعات ما وراء البحار” يشارك فيها نواب وأعضاء من مجلس الشيوخ وأعضاء مجالس محلية ووزراء وسياسيون، وفرنسيون من أصول أجنبية، ومنشطو جمعيات وتنظيمات نقابية وشركاء قطاع التعليم، وممثلو الديانات وغيرها، بالإضافة إلى الناس العاديين الذين خصصت لهم الوزارة موقعا لوضع تعليقاتهم فيه.
ما يؤرق قطاعات الرأي العام الأوروبي، الذي يبدو أنه يكتشف مسيحيته بشكل أكبر كلما سعى إلى تأكيد قيمه العقلانية والدفاع عن حداثته العلمانية، هو الحضور المتزايد للإسلام، أناسا ومؤسسات ورموزاً، في الحياة العامة. ويبدو هذا الحضور المتزايد بفعل تطور أوضاع المسلمين أنفسهم واستقرارهم كما لو كان مصدر تهديد للهوية الأوروبية نفسها، ومن ورائها للهوية الوطنية الخاصة بكل قطر من أقطارها. وهذا ما تشير إليه بشكل واضح مبادرة الحكومة الفرنسية الجديدة. والتحدي الذي يواجهه هؤلاء هو كيف يمكن نزع الحجاب عن وجوه المسلمات ووضعه على المسلمين كجماعة، بحيث لا يعود من الممكن رؤيتهم في المشهد العام، بالرغم من وجودهم الذي لم يعد هناك مهرب منه. وحجب الإسلام عن عيون الغربيين يذكر، ويا للمفارقة التاريخية، بنصاب أهل الذمة الذين لم يكن هناك ما يوازي وجود الأقليات القوي فيه، واحتلالهم مناصب ومواقع اقتصادية وعلمية، سوى غيابهم الشكلي، حضورهم، واختفاء معالم حضورهم ورموزهم في الفضاءات العمومية.
والواقع أن من يتحدث في الصراع على الهوية يتحدث عن الصراع على الثقافة، وما تشمله من أنماط تفكير وعيش وسلوك. فليس هناك وجود لهوية من دون ثقافة خاصة مرتبطة بها تغذيها بالقيم والمعايير والمفاهيم والرموز. وكل هوية هي في الأصل هوية ثقافية، وليست الهوية الوطنية سوى تابع لها وأحد مشتقاتها. وهذه الأخيرة لا تعني شيئا آخر إذا فصلت عن الثقافة سوى الجنسية أو التابعية الإدارية كما نقول في لغتنا العربية. ومن الممكن داخل دولة واحدة أن تتعدد الهويات الثقافية، لكن القاسم المشترك الأعظم هو احترام القواعد والمبادئ والقيم الأساسية التي تقوم عليها الحياة السياسية المشتركة. وهذا الاحترام هو المقوم الرئيسي للثقافة الخاصة بالجماعة الوطنية، والتي تجعل منها جماعة وطنية شاملة للجماعات الأهلية. وهي ثقافة لا تتجاوز المبادئ والقواعد والقيم الأساسية.
وفي فرنسا، كما هو الحال في كل الدول والمجتمعات، ثقافات متعددة، تخفي هويات خاصة متعددة أيضا، حتى في دائرة المنتمين لجماعة إثنية واحدة. فللأرستقراطية ثقافتها وللبرجوازية ثقافتها وللطبقة العمالية ثقافتها، وللاشتراكيين ثقافتهم، ولليمين الليبرالي وغير الليبرالي ثقافته أيضا. ولا يمنع وجود هذه الثقافات من تكوين عقد اجتماعي واحد وتنمية حياة مشتركة، ولا يقلل من ذلك وجود التناقضات والتوترات المستمرة بين هذه الهويات جميعا، وأحيانا تفجر الصراعات العنيفة في ما بينها. والسبب في هذا التعايش هو الاعتراف الضمني بأن هناك ما هو عام، أي ما تم التفاهم من حوله كقواعد ضرورية للعيش المشترك، وهناك ما هو خاص، أي ما هو حق في الاختلاف، على مستوى القيم والسلوك والأذواق والاختيارات الشخصية والجمعية. ولا حياة لمجتمع سياسي من دون هذا التمييز الأول بين ثقافة خاصة لا غنى عنها لقيام واستمرار أي هوية جمعية، حزب أو جماعة أو طبقة أو جمعية مدنية أو شخصية حقيقية أو اعتبارية، وهوية عامة تغطي حقل المشترك بين الجميع، وتشكل صلة الوصل بين الجماعات المختلفة، وهي ما نسميه الثقافة الوطنية. والثقافة الوطنية في المجتمعات الديمقراطية هي باختصار ثقافة المواطنة، أي تمثل قيم الحرية والمساواة والأخوة التي تعني حرية الأفراد أيضا في الاختلاف، الثقافي والفكري والإثني، ومساواتهم الأخلاقية والقانونية من وراء هذا الاختلاف، وبالرغم منه، والتزامهم جميعا بالتضامن في ما بينهم في ما يتعلق بالحفاظ على الدولة والنظام الديمقراطي ومصالح البلاد العليا وأمنها واستقرارها. في ما عدا ذلك تشكل حرية الاختلاف وبالتالي وجود هويات خاصة مصدر الشرعية الأول للنظام الديمقراطي.
ينزع اليمين في كل البلدان والمجتمعات إلى المطابقة بين الثقافتين، ثقافة المواطنة التي تتعلق بقيم كبرى تعنى بالشأن العام وتخص حقل المصالح العامة للجماعة ككل، والثقافة الأهلية أو المدنية التي تميز شروط حياة الجماعات وأسلوب تفاعلهم مع بيئتهم الاجتماعية والطبيعية، وتكون شخصيتهم الخاصة. وهو في نزعته هذه لا يعمل في الواقع إلا على تسويد إحدى الثقافات الخاصة، ثقافته هو، وفرضها على الجميع بوصفها ثقافة كونية جامعة. وهدفه غير المعلن الحفاظ على الوضع القائم وتجميد حركة التاريخ. وهذه هي في الحقيقة رسالته الفكرية وأساس وجوده أيضا كتيار محافظ.
بالعكس، تنزع التيارات التحررية التي تعكس أفكار وتطلعات نخب أو جماعات صاعدة تسعى إلى تغيير أوضاعها الدونية والخروج من تحت السيطرة أو الهيمنة الطبقية أو الخارجية، إلى زعزعة الثقافة التقليدية الراسخة، وإضعافها من خلال فصلها عن الثقافة الوطنية، أي العمومية التي تؤسس للاجتماع السياسي والدولة، وإبراز خصوصيتها أو طابعها النسبي والجزئي. وهي في نزعتها هذه تميل إلى فتح مفهوم الثقافة العمومية، وإدخال عناصر جديدة إليها، من ثقافتها الخاصة. هذا ما قامت به الثورة الفرنسية عندما أعلنت الجمهورية وأسست لثقافة المواطنية التي أكدت قيم الحرية والمساواة والأخوة لجميع مواطني البلاد، بصرف النظر عن أصلهم ودينهم وجنسهم ومكان ميلادهم، في مواجهة قيم التراتبية الطبقية والسلطة المطلقة والهيمنة العقائدية للكاثوليكية.
ما تسعى إليه التيارات اليمينية التي تقف من وراء الحملات المتعددة الموجهة ضد الإسلام والمسلمين، هو ردع الجاليات الإسلامية وإجبارها على التستر على وجودها، وعدم التظاهر بما يبرز حضورها المادي أو الرمزي، حفاظا على الوضع القائم، وتحسبا لتزايد دور المسلمين، حتى لو استدعى ذلك التراجع عن القيم الجمهورية والديمقراطية التي بنيت عليها سمعة أوروبا وازدهارها المادي والأدبي معا. وهذا من علامات أزمة الوعي الأوروبي في عالم تقلب العولمة توازناته الراسخة التي كرست لأكثر من ثلاثة قرون الهيمنة الثقافية والسياسية الغربية.
“الوطن” السعودية