القدس والجولان: السلام على السلام؟
ميشيل كيلو
أقر الكنيست الإسرائيلي بأغلبية 68 صوتا ربط انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من أي جزء من القدس والجولان باستفتاء شعبي يوافق خلاله ثمانون نائبا و80′ من الإسرائيليين على الانسحاب.
وكان الكنيست قد قرر عام 1981 ضم الجولان إلى إسرائيل وإعطاء سكانها العرب السوريين الجنسية الإسرائيلية رغما عنهم، الأمر الذي أثار موجة عارمة من المقاومة الشعبية، السلمية والمسلحة، لهذا التدبير الاستعماري، قدم جولانيون كثيرون خلالها أرواحهم، وتعرضوا لأذى شديد أبقى بعض بناتهم وأبنائهم لفترة تقارب الثلاثين عاما في سجون العدو، لكن هذه المقاومة لم تجد ما يكفي من الرعاية والاهتمام فبقيت مجهولة، مع أنها بلورت أشكالا من النضال ما لبثت أن بلغت ذروتها بعد أعوام قليلة: في الانتفاضة الفلسطينية الشاملة، التي بدأت عام 1987.
صار الجولان، في القرار الأخير، في مرتبة تساوي مرتبة القدس في نظر الصهاينة .هكذا، بدل أن يقرب مرور الزمن والحق العربي العدو من السلام، الذي لطالما أعلن رغبته في تحقيقه وتحدى العرب أن يجاروه في طلبه، نراه يذهب اليوم، بعد نيف واثنين وأربعين عاما على احتلال القدس والجولان، إلى جعل السلام ضربا من المحال، فمن المستحيل أن يوافق 80 ‘ من قطعان التعصب والعدوان والدم على التخلي عن أرض يزعمون أن الله وهبها لهم، وأن صك ملكيتها الإلهي يفوق في قيمته أي صك آخر، خاصة صكوك التاريخ، التي تكذب ادعاءاتهم وتقوض مزاعمهم.
كنا في البدء أمام عدو يقول إنه لن يعيد الأرض كاملة، وها نحن ذا أمام العدو ذاته وهو يعلن جهارا نهارا وبأعلى صوت أنه لن يعيد ذرة تراب واحدة من القدس والجولان، وسيواصل الاستيلاء على الضفة الغربية، ويربط تنفيذ قرارات دولية تلزمه بالانسحاب من الأراضي المحتلة بإرادة مستوطنين يستولون يوميا على هذه الأراضي ويغيرون طبيعتها وهويتها، مخالفين بذلك الأعراف والقوانين الدولية، وضاربين عرض الحائط بحقيقة أنه لا يحق لهم أو لغيرهم وضع إرادتهم فوق إرادة الشرعية الدولية أو في محلها، وأنهم ليسوا جهة تقرر صلاحية هذه القرارات وقابليتها للتطبيق، خاصة وأن سلوكهم الاستعماري/الاستيطاني يضعهم خارج أية شرعية تعارف عليها البشر منذ تكونت الدولة الحديثة، وتبلور ما يصار يعرف بالحياة الدولية.
إلى هذا، يعطي القرار المستوطنين حق تقرير مصير غيرهم، مصير الفلسطينيين والسوريين، ويؤكد أن حكومة الصهاينة، التي رسمت هوامش عنصرية وفاشية واسعة جدا لسياساتها تجاه العرب، قررت قطع أي حوار معهم حول الجولان والقدس، واعتماد العنف والاستيطان وسيلة تخاطب معهم، واتخذت هذا القرار كي لا يكون هناك عودة عنه، في حال خسرت الانتخابات القادمة، فكأنها تنزع بواسطته مصير الاحتلال من يد الحكومات وتضعه في يد المستوطنين، وتفرض على العرب والعالم التعامل معهم باعتبارهم جهة مقررة، لن تتم تسوية أي شيء دون إرادتها. ينطلق موقف الحكومة الصهيونية، الذي يعني القضاء المبرم على فرص السلام، من معرفتها بالمدى الذي بلغته النزعات الفاشية والعنصرية لدى الإسرائيليين، وإدراكها أن وضع مصير القدس والجولان في أيدي هؤلاء يعني حتمية استمرار الاحتلال وتغيير خيارات المنطقة، التي لن تبقى من الآن فصاعدا خيارات بين الانسحاب أو استمرار الصراع العربي/الإسرائيلي، وإنما ستكون بين استمرار التوسع الاستيطاني حتى الالتهام الكامل للأرض العربية أو الحرب. ومن يراقب التصريحات اليومية لحكومة العدو يجد أنها ما انفكت ترفع بصورة يومية سيف الحرب فوق أعناق العرب، وتهدد بإطلاقها من عقالها في غزة وجنوب لبنان، وفي غيرهما!.
هل اتخذ القرار الصهيوني من أجل تفادي الضغوط الأمريكية، كما سيقول لسان عربي سائد؟. أعتقد أن امريكا لا تستطيع ولا تريد ممارسة ضغوط على إسرائيل، وأن حاجتها إليها، بعد مآزق العراق وأفغانستان وباكستان ومشكلاتها المتعثرة مع إيران، قد تزايدت بدل أن تتناقص، وأن قيمتها كحليف تعاظمت ولم تتضاءل، على عكس ما يعتقد عرب كثيرون يظنون أن خلافا سينفجر بين واشنطن وتل أبيب، سيكون البوابة إلى تحقيق السلام واستعادة الأرض وإجبار العدو على الانسحاب منها، مع ما سيترتب على ذلك من تغيرات جذرية في المناخ الاستراتيجي للمنطقة وللعالم. هذه أوهام تتعارض مع الحقائق من جهة، وتبعث في نفوس العرب آمالا كاذبة حول قرب السلام من جهة أخرى، بينما تقترب بالأحرى احتمالات الحرب والأعمال العدائية، التي يمكن أن تنشب في أي وقت ولأي سبب، ما دام العقل الصهيوني الذي أملى القرار، قد اتخذ جميع الترتيبات الضرورية للحرب الشاملة، ويقول على لسان قادته العسكريين في جبهة لبنان وسورية إنه سيعيد العرب إلى العصر الحجري، إذا ما نشبت الحرب!.
لماذا اتخذت إسرائيل قرارها الخطير، إن كانت لا تخشى الضغط الأمريكي؟. أعتقد أن أساس القرار كامن في الوضع العربي، الذي بلغ درجة من التمزق والتردي تجعل أي عدو أو خصم، بما في ذلك حكومة أرتيريا، يستهين بالعرب ويتطاول عليهم، والدليل : دور هذه الحكومة في الصومال واليمن. الوضع العربي شديد السوء، وهو يدخل في أيامنا منعطفا خطيرا يضاف إلى مصائبه الخطيرة الكثيرة، التي كنا نظن أنه بلغ من خلالها درجة من التردي صار من الصعب معها أن يتردى أكثر، لكنه يواصل انهياره وترديه حتى بلغ مرحلة نوعية سمتها الأساسية تفكك العلاقات العربية / العربية تفككا تاما، واستعصاء المصالحات بين حكومات ونظم العرب ‘الشقيقة ‘، وبين الحكومات وشعوب’ها’، وحتى بين الشعوب ذاتها (مصر/الجزائر) (راقب الصهاينة الأزمة الجزائرية/المصرية باهتمام شديد، وأدلوا بتصريحات حولها كان يجب أن تثير قلق كل عربي، لو كان العرب ما زالوا قادرين على الشعور بالقلق!) بينما يسارع العرب إلى جوارهم القريب والبعيد يستعينون بدوله ضد بعضهم، ويحكّمونه في مصائرهم، ويربطون أنفسهم بخططه، كأنه لم يعد هناك مصالح ومشتركات عربية تلزم حكوماتهم، أو كأن مشروع الشرق الأوسط الكبير شرع يقوم بعرب وعربان جامعهم الوحيد هو العداوة والخصام والاقتتال!. في هذه الأجواء، التي تجعل من خطوة إسرائيل محاولة جديدة لإذلال العرب وإشعارهم أن إسرائيل تستطيع فعل أي شيء تريده، وأنهم أعجز من أن يفعلوا شيئا للدفاع عن أرضهم وحقوقهم، يطرح نفسه السؤال التالي : ترى، لماذا يجب على إسرائيل، وهي ليست مؤسسة خيرية بل كيانا عدوانيا/توسعيا/احتلالا، أن تمتنع عن الإفادة من الانهيار العربي؟. ولماذا لا تقرر إقامة شروط تجعل السلام مستحيلا مع عالم عربي لا يستحقه ولا يفعل شيئا لأجله، عالم عاجز عن فرضه بالقوة كما عن استجدائه بالضعف؟. وهل هناك ظرف أفضل للتوسع والاستيطان والحرب من الظرف العربي الراهن؟. إن إسرائيل ستخون نفسها ككيان عنصري توسعي عدواني إن هي أحجمت عن اغتنام الفرصة، وإعلام العرب والعالم بأن الأرض المحتلة صارت لها، خاصة وأن أوضاع العرب السيئة والتي تزداد سوءا تمكنها من ابتلاعها حتى آخر ذرة تراب!.
ليس ضعف العرب جديدا أو طارئا. إنه ضعف مزمن عجزت جميع أنماط النظم السياسية العربية عن مداواته، مع أنه أدى إلى قيام إسرائيل الأول عام 1948، وقيامها الثاني عام 1967(الكلمات ليست لي بل للجنرال موشي ديان وزير دفاع إسرائيل عام 1967!). لنحمد الله لأن اليهود لم يهاجروا بأعداد كافية إلى فلسطين. لو هاجروا، لكانت حدود إسرائيل اليوم على الفرات ومع جزيرة العرب ووادي النيل.
يا أمة ضحكت من عجزها الأمم!
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي