اعتقال معن عاقل وحصانة العمل الصحفي..!
جديع دواره
اعتقال الصديق والزميل الصحفي معن عاقل أثار في نفسي الكثير من الشجون، ليس فقط لأننا قضينا زهرة حياتنا كشابين في مقتبل العمر ( كل مرحلة العشرينات تقريبا) نعسُّ تحت سقف واحد في سجن (صيدنايا) كمعتقلي رأي (في تسعينات القرن الماضي)، بل لان الصحافة عادت لتقاطع حياتنا مرة أخرى خارج أسوار السجن، وترغمنا على تجرع كؤوس أكثر مرارة واشد خيبة في فضاءات- كنا وما زلنا- نريدها أرحب من باحة سجن صيدنايا.
كنت دائما (أهتُّ) معن بسبب حصوله على الوظيفة في جريدة الثورة الرسمية، ليس لأني أرى في الوظيفة عملاً مشينا كما قد يخطر للبعض انطلاقاً من كوني “مناضل قديم”، بل على العكس فان تجربة معن في العمل الصحفي بجريدة الثورة وفي دورية (فرصة عمل) الصادرة عن هيئة مكافحة البطالة (سابقا)، كانت تؤكد ان هذه المؤسسات المتهمة بالرسمية، لم تقفل أبوابها أمام العمل الجاد والمهني، وتعزز القناعة بأن إشكالية الإعلام الرسمي تكمن إلى حد بعيد في العقلية الخشبية لمعظم القائمين عليه، موظفي “الحكومة”، الذين تحولوا إلى حراس بوابة من النوع الرديء، وذلك خلافاً لرغبة القيادة السياسية في البلد التي طالما اشتكت من ترهل وضعف الأداء الإعلامي لمؤسسات ضخمة يصرف عليها مئات الملايين، وتضم جيشا ضخما من الموظفين، والنتائج تكاد تكون متواضعة وفقيرة “مكانك راوح..”
جريدة الثورة لم تحول معن إلى رقم يقبض راتبه أخر الشهر(وكفى المؤمنين شر القتال) كما معظم الـ1600، موظف العاملين بمؤسسة الوحدة، بل عمل-كما القليل غيره- بجرأة وكتب عشرات التحقيقات الجريئة والمهنية، وترشح عن تلك الأعمال أكثر من مرة لنيل جائزة الصحفي المتقصي(تمنحها مؤسسة ثومسون) وموضوعاته عالجت قضايا في صميم الشأن العام، مثل الفقر وعمالة الأطفال وسيارة شام والبقرة الشامية وعمل الجمارك والمرفأ ومعمل الألماس واكتشاف النفط في اللاذقية..أعمال تنبض حرارة وصدقا، والاهم أنها تنطلق من الحرص على الوطن وثرواته من الفساد والمفسدين.
البارحة كان يتصل بي ويعيد الاتصال بحثا عن مكان عائلات فقيرة أتت من حلب لينتهي بها المطاف في خيم بائسة قرب دمشق، كان يعرض الصور التقطها لأقدام أطفال عراة في منطقة غزال(تجمع سكاني قرب دمشق) وكأنه وجد كنزاً صحفي، والبارحة بعد أن أتى من البادية، كان يتكلم ويتكلم حتى تملّ كلامه عن الخراب الذي حل بالبادية وأهلها، بسبب التصحر والرعي الجائر..
بعد هذا، لا اعرف كيف يمكن لي أن اصدق التصريح الغامض لنائب رئيس اتحاد الصحفيين ومدير التحرير في جريدة الثورة السيد مصطفى المقداد بان القضية جنائية..! هل يمكن للشخص أن يخون ذاته، إن تجردت من كل عاطفة شخصية فاني واحتراما لمهنتي لا يمكن أن اصدق هذا التصريح “الرمادي” الذي يفتقر إلى قرائن، فليكشف المقداد عما في جعبته، وإلا سيكون تصريحه بمثابة طعنة في الظهر، لا بل مؤامرة ضد صحفي- رهن التحقيق- كان حتى البارحة من أكثر المتحمسين لمواجهة الفساد والمفسدين، وأكثرهم رهاناً على العمل المؤسساتي، من داخل مؤسسته جريدة الثورة.
حين حصل معن على وظيفة رسمية، وحرمت منها لأسباب أمنية، وحين استطاع السفر ولم استطع(رغم أننا نتمتع قانونيا بكامل حقوقنا المدنية) اعتقدت ان عمله في مؤسسة صحفية رسمية جعله محصناً، لكن اعتقاله اليوم ومن داخل مبنى جريدة الثورة التي أعطاها الكثير من وقته وجهده وحياته، ودون تفسير ومسوغ حتى الآن، أتى ليسقط أخر أوهامي حول الحصانة، والفرق بين من يعمل بالصحافة الرسمية وغير الرسمية.
وما يثير السخرية والمرارة معا، أن تبادر مؤسسته إلى فصله من العمل بعد 48 ساعة على اعتقاله، بدلاً ان تقف إلى جانبه، على الأقل ريثما تتضح الصورة والحيثيات، كما يفترض بتقاليد العمل الصحفي، خاصة انه عضو في اتحاد الصحفيين العرب وعضو في اتحاد الكتاب العرب، وله عشرات الترجمات وأكثر من مجموعة قصصية، هذا إذا تركنا كل تاريخ عمله الصحفي جانبا، فتوقيف أي شخص بصرف النظر عن الأسباب، يبقى توقيفاً وشبهةً، والقاعدة القانونية والأخلاقية تقول بان المتهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم قضائي مبرم، وليس باتصال تلفوني..!
حقا انه لشيء مؤسف ومخيب في وقتٍ يتطلع فيه الجميع إلى استثمار نجاحات السياسة الخارجية وتجاوز الكثير من المحطات الصعبة التي مرت بها البلد، في انفتاح داخلي وتوسيع هوامش الحريات وعلى رأسها حريات العمل الصحفي، وتعديل قانون الصحافة، يأتي اعتقال صحفي موظف في مؤسسة رسمية منذ نحو عشر سنوات بهذه الطريقة ليعيدنا إلى المربع الأول، رغم كل الرهانات المعقودة على دولة المؤسسات التي نتطلع إليها.
افهم الصحافة بحثا عن الحقيقة، ممارسة للحرية ومؤشرا عليها، وحارسا لها، ومعن عاقل اتخذ من صفحات الجرائد مسرحاً لهموم الناس ومكاناً لرواية حكاياتهم وآمالهم بشرط إنساني أفضل، حَلمنا معاً بان تتحول الصحافة إلى سلطة رابعة فعلاً لا قولاً وشعارات، صحافة فاعلة نابضة بالحياة لها دورها ووزنها، صحافة عادلة منصفة متوازنة، لا تأكل أبنائها.
خاص – صفحات سورية –