هل تتحقق “نبوءة” هودجسون؟
سعد محيو
المفكر البارز مارشال هودجسون سبق له أن شدّد في كتابه “إعادة التفكير في تاريخ العالم” (RETHKKING WORLD HISTORY 1993) على أن السؤال الذي يطرحه الغربيون حول أسباب تأخر البلدان الإسلامية مُغرض، لأنه يُنحي باللائمة على المسلمين أنفسهم لتدهورهم إلى هذا الدرك.
الاضطراب في تطوّر الحضارة الإسلامية، برأيه، حدث لا بسبب انحلال داخلي ولكن نتيجة لأحداث خارجية لا سابق لها. لذا، وقبل أن يُطرح السؤال المتعلق حول لماذا حدث ما حدث، يجب أن نفهم أولاً لماذا حقق الإسلام نجاحاً عظيماً طيلة ألف عام.
لماذا تذكّر هذا المفكر الآن؟
لأن ما يموج تحت سطح البحر العربي هذه الأيام، يشي بأن الحضارة العربية الإسلامية بدأت تتحفز بالفعل لنهضة جديدة تستند إلى ركيزتين داخليتين: الحرية والجيل الجديد.
الركيزة الأولى تحدثنا عنها قبل أيام في هذه الزاوية، حين تطرقنا إلى الحركات الاجتماعية السُوبرانية التي تتبرعم الآن في معظم البلدان العربية.
أما الركيزة الثانية، أي الحرية، فهي تشق طريقها بثبات، وإن ببطء، مستعيدة بشطحة قلم كل العصر الليبرالي الذي عاشه العرب في أوائل ومنتصف القرن العشرين.
فقد تم نفض الغبار بسرعة عن مسألة الحرية بعد تعليق دام حقبات طويلة لصالح أولوية التحرير، وبات الحل الديمقراطي على كل شفة ولسان في المجتمعات العربية، على قدم المساواة مع هدف التحرير. وعلى رغم أن هذه المناخات لا تتجسّد حتى الآن في كتل تاريخية واضحة أو في مشاريع سياسية محددة، إلا أن الأوضاع تبدو جاهزة لإعادة الاعتبار لمرحلة تفتح الحريات التي ازدهرت في حقبة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولوصل ما انقطع فيها بعد الإفادة من دروس فشلها.
بالطبع، لن تكون التحولات الكبرى المرتقبة في الشرق الأوسط العربي سهلة أو بسيطة. فليس من الممكن الآن، على سبيل المثال، الحكم على نتائج، أو استمرارية أزمة التحالف بين الغرب وبين الأنظمة السلطوية في الشرق العربي. لكن ثمة حقيقة لا يمكن القفز فوقها، وهي أن تضعضع التحالف السلطوي العربي الغربي، سيكون حتماً لصالح الشعوب العربية. فهو سيجعل الدول السلطوية تقف (ولو بعد حين) عارية في بلاط الأسرة الدولية. كما أنه سيعيد إلى حد ما التوازن في الصراع بين القوى العربية الحديثة وبين القوى التقليدية في الشرق الأوسط، من خلال ارتسام موازين قوى جديدة. وهو أخيراً سيعطي القوى الحديثة فرصة العودة إلى “مسرح عمليات” المنطقة، بصفتها قوى فاعلة ومؤثرة فيها.
لكن هنا قد يطرح سؤال آخر نفسه: ما الطبيعة المحتملة لهذه القوى: هل ستكون إسلامية معتدلة، أم ستميل إلى إحياء القومية العربية في حلة ديمقراطية، أم أنها ستركّز على مشروع الدولة في كل دولة عربية؟ أم لن يتحقق أي من هذه الخيارات فتقع القرعة على الخيار الذي تحبّذه “إسرائيل” والمحافظون الجدد الأمريكيون: إعادة تشكيل الشرق الإسلامي على أسس قبلية وطائفية، وبناء دويلات جديدة على هذا الأساس؟
ثم (وهنا الأهم): هل يفاجئ الجيل العربي الجديد الجميع، فيكسر من خلال نزعته الديمقراطية والحديثة قيود العوامل الخارجية المعيقة للتطور العربي، مؤكداً بذلك نبوءة مارشال هودجسون حول انبعاث الحضارة الإسلامية ونجاحها في تقويض المُعيقات الخارجية؟
الخليج
“الموجة الثالثة” حيّة وتركل
سعد محيو
تساءلنا بالأمس: هل يُفاجئ الجيل العربي الجديد الجميع، فيكسر بنزعته الديمقراطية والحديثة قيود العوامل الخارجية المعيقة للتطور العربي؟
قد يبدو أن ثمة صعوبة في الإجابة، لأن التغيّرات الاجتماعية السياسية في الشرق الأوسط العربي الإسلامي لا تزال “تحت الأرض” . وبالتالي، قد يكون من العبث التنبؤ بالسلوكيات المحتملة لجنين هو قيد الولادة .
بيد أن هذه الصعوبة ليست مُطلقة . إذ يكفي استقراء التجارب التي جرت خلال السنوات الثلاث الأخيرة في مصر (كفاية) وإيران (الانتفاضة الخضراء) ولبنان وسوريا ودول الخليج (التجمعات السُوبرانية الكثيفة) كي نعي بأن رياح التغيير بدأت تهب بالفعل في أشرعة السفن العربية . وهو تغيير مغاير لكل ما شهدته المنطقة على مدى قرن .
فالقوى الاجتماعية الجديدة، على تنوّعها الليبرالي والقومي والإسلامي واليساري، تبدو في معظمها ملتزمة حتى الثمالة بقضية الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان . وهذه نقطة تفترق فيها بحدة عن الحركات السياسية السابقة التي تأثّرت إلى حد كبير إما بالفكر الفاشي الإيطالي، أو القومي الألماني المتطرف، أو بديكتاتورية البروليتاريا الماركسية .
المثل الأعلى لهذه الحركات لم يعد غاريبالدي أو موسوليني أو لينين أو حتى غيفارا، بل بات “يوتيوب” و”فيس بوك” و”غوغل” و”هوت ميل”، التي توفّر لها القدرة على التنظيم والتواصل وممارسة الحق بالديمقراطية .
قد يقول البعض هنا إننا نبالغ كثيراً حين نُعطي تكنولوجيا المعلومات هذه القدرة الفائقة على التغيير . لكن تجارب الشعوب مع الثورات التكنولوجية لاتؤيد وجهة نظرهم .
فثورة المطبعة في القرن السادس عشر، كسرت احتكار الكنيسة للمعرفة وأطلقت العصور الحديثة . وثورة الترانزيستور مكنّت جمال عبد الناصر من توحيد الأمة العربية عبر الأثير وصولاً حتى آخر منطقة في الريف المغربي . وثورة التلفزيون دفعت محمد حسنين هيكل إلى القول إنه لو وُلد التلفزيون في عصر لينين لما احتاج هذا الأخير إلى عناء سنوات طوال لبناء حزبه البلشفي .
أجل، التكنولوجيا قادرة على إحداث تغييرات عميقة . وما شهدناه حتى الآن في المنطقة من تمخضات وانتفاضات وتفاعلات، ليس سوى رأس جبل الجليد المختفي تحت سطح البحر .
وحين تختمر الأمور وتنحسر المياه عن هذا الجبل، سيكون من المثير معرفة الطريقة التي ستتعامل معها “العوامل الخارجية” (الغرب): هل سيكون في مقدورها شن الحرب عليها، كما فعلت في السابق ضد الناصرية والبعثية، تحت شعار مكافحة الديكتاتورية؟
حتماً لا، الوضع بالفعل سيكون محرجاً للغرب، الذي سيُتّهم حينذاك بأنه يمارس الفعل الديكتاتوري ضد حركات ديمقراطية، ماسيفقده الورقة الشرعية الوحيدة التي يستخدمها لإحكام قبضته على العالم .
لقد تحدث صموئيل هانتينغتون عن “الموجة الثالثة” من الديمقراطية في العالم التي ضمّت إلى هذه الأخيرة ممتلكات جديدة في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية، بيد أن هذه الموجة جانبت في التسعينات المنطقة العربية، ليس فقط لأن الغرب رأى من مصلحته الحفاظ على الحكومات السلطوية الراهنة، بل أيضاً لأن القواعد الشعبية العربية لم تكن قد استفاقت بعد من غيبوبة الحقبات الاستبدادية المديدة .
الآن، كل شيء بدأ يتغيّر . والموجة الثالثة التي ظن الكثيرون أنها جاءت ورحلت من دون أن تمس الشرق الأوسط الإسلامي قيد أنملة، حيّة وتركل وتزمجر هذه الأيام في كل أنحاء المنطقة .
تريدون دليلاً؟ أنصتوا إلى “الهتافات” الهادرة، على الأثير السوبراني .
الحليج