التفكير في زمن التكفير
سلام الكواكبي *
إنه عنوان كتاب لنصر حامد أبو زيد يكاد يكون الصديق الوفيّ لكل من أعمل العقل في شؤون الحياة بشكل شبه يومي، وخصوصاً من رجال الدينأو ممّن لهم تبحّر علمي في المسائل الدينية. أضحى الكلام لأهل الاختصاص ممنوعاً إلا إذا كانوا مؤطّرين في مفاهيم أو في قوالب أجازتها قلّة من المتشددين، ضعيفي العلم، أودوا بالعالم الإسلامي وبفكره النقدي إلى مصائر أقل ما يقال فيها إنها سوداء.
لقد دُعي الدكتور أبو زيد إلى ندوة في الكويت في الأسبوع المنصرم، فماجت نفوس المكفّرين الذين لم يقرأوا بالتأكيد سطراً مما كتبه، مستنداً إلى المعرفة الدينية والفلسفية والاجتهادية، لا إلى كتب «البسطات» التي انتقلت الآن لتغزو كل معارض الكتب العربية، إلى جانب كتب الجنس والطبخ، شارحة كل صغيرة وكبيرة في أمور الدين والدنيا بالاستناد إلى اجتهادات سلبية لأولئك المكفّرين المتعمّمين الذين نصّبوا أنفسهم حراساً وجلادين على عقول البشر. ولقد توصل هؤلاء إلى الضغط على السلطات الحكومية التي منعته من الدخول، على الرغم من حمله تأشيرة صادرة عن السلطات نفسها.
هللت بعض الأقلام التي تركب موجة التكفير والتي تساند من يلعب دور الإله في منح أو منع البشر «بركة» الإيمان من عدمه. ولقد راعني ما قرأته وسمعته من تعليقات خطتها أقلام كويتية وجدت مثلاً أن أبا زيد «الزنديق» كما يقول نبيل العوضي (جريدة الوطن الكويتية في عدد 17 كانون الأول) قد «طعن أفضل الأنبياء والرسل». وهنا دعوة صريحة وتحريض فجّ على القيام بالاعتداء الجسدي على أبو زيد لأن الواقع العربي والإسلامي قد أهّل البسطاء من المتدينين إلى اعتبار ما يصدر عن أفواه أولئك المتعممين كأنه فتوى ربانية تبيح لهم القيام بإيقاع الحدّ. وهم على ذلك يتصوّرون أنه أنيط بهم تنفيذ الحدّ من ضمن الفرائض الأساسية. إن انتشار الجهل وتعزيزه على أيدي بعض من رجال الدين ومن يلوذ بهم من وصوليّي المرحلة، أضحى جانحة تضرب مجتمعات العرب والمسلمين وتمنع عنها أية فرصة لتعزيز إمكاناتها الضعيفة أصلاً في الحوار وفي البحث والاجتهاد.
إن منع المفكرين أو الحجر على الكتب أو حجب الإنتاج العملي، أضحى حدثاً شبه يومي في الحياة العربية والإسلامية المعاصرة. فمن جهة، تقوم السلطات الشمولية بحجب الفكر الحر والدعوات العلمية والسلمية للإصلاح والتي تتقدم بطروحات شاملة تحمل مشروعات وطنية من دون أن تقصي أحداً عن المساهمة بها، ومن جهة أخرى، تطوّر شكلاً جديداً من الأصولية الدينية بالاعتماد على وسائل الاتصال الحديثة كالفضاء التلفزيوني والإنترنت. وقد حلّت الفضائيات الدينية محل التفكير والبحث والعلم، وأضحت تنتج، كمطاعم الوجبات السريعة، متعمّمين ينصبّون أنفسهم قضاة وحكاماً على الأذهان، وتتمخض عنهم مدارس بحالها ويصبحون أيضاً مؤثرين وفاعلين في المجال العام وفي الكتابة الدينية وفي تفاصيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والجنسية. ويستند أولئك إلى مدارس دينية فقدت الكثير من وهجها التاريخي، لخضوعها لسلطات سياسية تستخدمها لإضفاء الشرعية على أنظمة تمارس التخلف وترسخه وتمنع عن مجتمعاتها كل أنواع التحرر الاجتماعي والسياسي. وفي وقت تقوم بعض الجهود بمحاولة فتح أو تعزيز الحوار بين القوى السياسية والفكرية المختلفة في البلدان العربية، بمن فيهم الإسلاميون والشيوعيون والليبراليون، يمثل صمت الإسلاميين العقلاء، وأظنهم كثراً، عن مثل هذه الممارسات إحباطاً لمشاركيهم في الحوار كما يقول صلاح الدين الجورشي في جريدة العرب القطرية. إنه امتحان واقعي وصريح يجب أن يكون التصدي له شبه ملزم لكل من يحلم أو يسعى أو يعمل على إنجاح مثل هذه الحوارات بهدف بناء مجتمعات تدخل في العصر الحديث.
فليتوقف العقلاء، الذين ما زلت أظنهم كثراً، عن التصدي لموضوع المآذن في سويسرا أو منع النقاب في فرنسا أو ما شابه ذلك من تفاصيل لا تقدم ولا تؤخّر في حياة أممهم ومجتمعاتهم. وليتصدّوا مثلاً للمجموعة المسلمة الإسبانية التي قررت في كاتولونيا أن تحاكم أبناء الطائفة المسلمة من الإسبان وقامت بالفعل بتنفيذ بعض الأحكام بشكل إجرامي. فعلى المسلمين أن يتنبّهوا إلى الخلل في ممارساتهم وفي مرجعياتهم المزوّرة قبل أن يحاسبوا الآخرين على ما يصنعونه بهم أو ما يخيّل لهم بأنهم ضحايا له.
ولا أجد تعبيراً أكثر عمقاً وحسماً في توصيف ما جرى وما يجري إلا ما ورد على لسان المفكر أبو زيد في إجابته لي على رسالة تضامن قصيرة حيث قال: «هذه ضرائب تخلّف لا يدفعها إلا نحن، لكن الأمر ليس بهذا السوء. فلقد عقدت الندوة في موعدها وألقيت محاضرتي بالتلفون من القاهرة، بالإضافة إلى التعليق على ما حدث. دخلت بصوتي إلى الكويت، شكراً لمنتدى الثقافة والتنوير، وتحية لأحمد البغدادي وطالب مولى وكل المثقفين الكويتيين. لم ولن يدرك هؤلاء أن عصر المنع والمصادرة قد ولّى إلى الأبد. إنهم يعيشون في العصور الوسطى».
* كاتب سوري