أبعاد ظاهرة الحجاب و النقاب
سيد القمنى
-1-
البُعد التاريخي
سبق لي معالجة موضوع الحجاب من على أرض المقدس و المأثور الإسلامي ، من وثائقه المعتمدة و تاريخه العقدي بصحيفة القاهرة تحت عنوران : ” مكانة الحجاب بين فضائل العرب ” ، و أعدت نشره في كتابي ( الحجاب و قمة الـ 17 ) . و لأن الفارق بين الحجاب و النقاب هو فارق في الدرجة و ليس فارقاً في الكيف و النوع ، فسأتناول الظاهرة هذه المرة من منظور العقل وحده وفق شروط القراءة السسيوبوليتيك التاريخية ، لتوصيف الظاهرة و تحديدها مفهومياً و رصد أهدافها و منطقها ، إذ لا شك أن ظاهرة تفرض هذا الحضور و لها هذا التإثير على المجتمع المسلم ، لابد لها من أغراض و أهداف تريد تحقيقها على الأرض .
لكن الأوضاع في بلادنا كثيراً ما تربك المراقب و الراصد ، فلا تعرف هل الحجاب و النقاب فرض ديني و تكليف شرعي كالصلاة و الصوم و الشهادتين يكفر تاركه و مُنكره أم هو ظاهرة اجتماعية تظهر لتختفي ثم تعود ثم تذهب ؟
فإن كان النقاب فرضاً دينياً فلماذا يتركه المسلمون زمناً ليعودون إليه في زمن آخر ؟ و هو الأمر الذي لا يحدث مع فروض و أركان الإسلام الأخرى الثابتة ثبات الدين ! ! و هل لو كان من دين المسلمين حقاً و فعلاً و عن قناعة فلماذا لا يثبت ثبات الفروض الإسلامية الضرورية المعروفة ؟ أم هو ليس من أصول الإسلام و أنه ظاهرة اجتماعية نسبية ذات علاقة بظروف المجتمع و اقتصاده و سياسته ، و أن هذه الظروف هي التي تؤثر في ظهوره و إختفائه بقصد و رغبة من المجتمع مثله مثل سائر موديلات الملابس باختلاف الثقافات و الأزمنة ؟
مصر قبل الفتح الإسلامي لها كانت المرأة المصرية سافرة متزينة و أيضاً عاملة منتجة ، فكان عمل الحقل لا يستقيم للرجل بدون معاونة زوجته ، و لأن العمل يكون في عجين الطين و سحب للمياه و سد القنوات و فتح أخرى بمراكمة الطمي هنا أو إزالته هناك مع بقية ضروب وسائل الفلاحة ، فقد فرض العمل ظروفه على المرأة المصرية حيث لا يصلح حجاب و لا نقاب و لا إدناء للجلابيب ، لأنه سيكون معوقاً و معطلاً عن الإنجاز و الإنتاج الحقلي .
لهذا لم يكن عيباً و لا عاراً و لا ملفتاً حتى للنظر ثدي المرأة ترضع طفلها بالسوق ، و لا أفخاذها العارية و هي تعجن الطين في الحقل أو تغسل الملابس و الأواني على شط النيل . و ظلت المرأة المصرية على حالها بعد الفتح الإسلامي بفرض من البيئة و شروطها و بقرار من الظرف الإنتاجي . فقط الطبقات المصرية المالكة و الأكثر ثراء و التي لا تعمل بيدها لتنتج ، هي التي أرادت تثبيت سيادتها بتقليد السادة العرب الغزاة ، فلبست ملبس نساء الفاتحين ، أما الفلاحة و العاملة المصرية فقد ظلت امرأة منتجة لا يلزمها سوى ما يناسب إنتاجها من ملبس ، و هبطت على البلاد غزوات جراد فاتح أكثر تعصباً و تشدداً سواء زمن الفاطميين الشيعة أو الأيوبيين السنة أو المماليك أو العثمانلية ، و ظلت الفلاحة المصرية في غنى عن أزياء السادة ، بينما أخذت الطبقة الوسطى تسعى إلى اللحاق بالأرستقراطية ، فلبست نساء التجار و كبار الملاكين على الوجه نسيجاً شفافاً رقيقاً كنا نسميه (البيشة) ، و هو ما تم تخفيفه زمن الإستعمار العثماني إلي (اليشمك) ، و هو مجموعة خيوط متشابكة في جدائل هندسية لا تحجب شيئاً ، إضافة إلى علامته الطبقية بقدر الذهب الذي يزينه .
و مع ثورةة 1919 التي قادتها الطبقة الوسطى المصرية ، قرر المجتمع المصري أن يعلن المساواة بين مواطنيه ، فخلعت المرأة المصرية الحجاب الطبقي و تبعتها في ذلك معظم الدول العربية و الإسلامية ، عن إرادة و علنية بتأسيس مفكري عصر النهضة ، و رجل الحقوق النسائية الأبرز قاسم أمين ، و بالطبع سيدة العفاف و الطُهر هدى شعراوي التي خلعت الحجاب و معها كل المصريات في ليلة و ضحاها . بقرار اجتماعي إرادي واعي نزلت بموجبه ربات الخدور الناعمات من أسر جناح الحريم ، إلى العمل السياسي و العمل الإنتاجي و تحصيل العلم لتنافس الرجال في بناء الوطن مع الفلاحة المصرية التاريخية . و هو ما ظل حتى عهد قريب أحد أهم مفاخر ثورة 1919 ، حتى وصف التاريخ زمنها بأنه ( عصر النهضة و التنوير ) ، الذي بلغ تأثيره جزيرة العرب فخلعت المرأة النقاب و الحجاب خاصة الطالبات منهن بالمدارس و الجامعة ( أنظر الصور المرفقة ) ، و هو كله ما يعني أنه لو كان الحجاب و النقاب جوهريان في دين الإسلام ، إذن لهلك الإسلام يوم خلعت المرأة المسلمة المصرية الحجاب و النقاب و معها نساء العرب ، و هو ما لم يحدث ، و لا تفوتك هنا الملحوظة الأهم و هي أن خلع الحجاب و النقاب قد ترافق مع عصر النهضة و التنوير ، بينما ترافقت العودة إليه مع إنحطاط الأمة التمامي في زمن الهزائم و الخيبات ، بعد استيلاء العسكر على الأوطان ، و ما انتهى إليه الاستبداد باسم الأمة و قضاياها الأيديولوجية إلى توالي الهزائم التاريخية الهائلة ، و ما صاحبها بالضرورة من رد عنيف على هزائم عنيفة بظهور جماعات الإسلام السياسي الإرهابي ، الذي كان لابد أن يفرض سلطانه عبر رموز و شعارات تشير إليه و تميزه . فكانت العودة للحجاب و النقاب شرط إثبات إسلام الأسرة المسلمة مع ما يسمى بالصحوة الإسلامية و طفرتها البترولية ، و التي كان ثمنها الفادح ألوف الشهداء المصريين على ثرى سينائنا الغالية ، عبر سنوات قتال استمرت من 1967 و حتى 1973 .
مع ما أسموه الصحوة ، عاد الحجاب و النقاب معبقاً برائحة النفط الصحراوي الجافة القاسية ، و خلال السنوات الأخيرة بدأت النقلة المرحلية التالية من الحجاب بموديلاته المتعددة إلى النقاب ، لكنه ليس كنقاب البيشة و اليشمك ، إنما نقاباً وهابياً ، هو و ما يوضع على عيني الدابة الدواره موديلاً واحداً لا غير .
الملحوظة الأهم في تلك الظاهرة ، هو مدى السهولة التى ينتقل بها شعب بكامله كالشعب المصري (و معه كل العرب المسلمين تقريباً) من حال إلى حال ، و من زي متعارف عليه اجتماعياً إلى زي سبق له استخدامه و سبق له أن تركه و نفاه من حياته بإرادته ، و حسبناه تاريخاً مضى و انقبر فإذ به يعود بكل يسر و سهولة ! !
إن شعوباً يسهل عليها في سنوات قليلة أن تغير زيها من النقيض إلى النقيض التام ، مع ما يترتب على هذا التغير من انقلاب لكل المفاهيم و القيم الأخلاقية و السلوك الاجتماعي التي ترتبط بهذا الزي أو ذاك ، إن شعباً يخلع زيه و معه ثقافة بكاملها و منهج حياة بكليته ، و يعود ليلبس ما كان سبق و خلعه ، و يعود مرتكساً إلى ثقافات أقدم في التطور ، هو شعب مضطرب متردد يخسر أى إنجاز ممكن أو محتمل ، لأنه لا يقطع الشوط لنهايته ، إنما يعود من منتصف الطريق متجهاً إلى الخلف ، إلى نقطة البداية ليسير عكس سير كل الأمم عبر التاريخ، على الطريق النقيض معنى و مبنى و مكاناً و زماناً .
و هذا التردد و التقدم و التراجع يشير بوضوح إلى أن الشعب المسلم ما عاد متأكداً من شئ ، و لا مقتنعاً بما يفعل ، فلو كان يفعل عن إيمان بما يفعل ما غير و لا بدل دون براهين واضحات على سلامة اختياراته أو عدم سلامتها ، و دون أن يجيب نفسه بوضوح عن دور هذه القطعة من القماش في تقدمه و أنجازه و تميزه بين الأمم أم هي عكس ذلك.
إن شعباً يقولون له إخلع ، فيخلع ، و يقولون له البس ، فيلبس ، هو شعب قد تم محو شخصيته ، شعب آخر غير شعبنا التاريخي العظيم ، فشعب الصحوة الإسلامية المصري شعب مسلوب الإرادة و خاضع للأوامر التي لا تحمل إقناعاً و لا دليلاً على جدواها لأمنه و سلامته و تقدمه ، و هو الشأن المخيف الذي استجد على هذا الشعب العظيم ، هنا الرعب العظيم !! فماذا حدث يا شعب ؟!
المعلوم أن ظاهرة كالحجاب و النقاب لا تظهر فجأة كالبركان أو الزلزال ، و لا هو حادثة بيجو غير متوقعة ، لأنه شأن يعني مجتمعاً بكامله ، لذلك هو لا يظهر و يختفي عشوائياً ، و لابد له من برنامج عمل مدروس لممارسة آلية الظهور و الاختفاء ، لابد له من عمل و تخطيط مرحلي و إعداد انتقالي إلى الهدف الاستراتيجي النهائي ، و هو ما يعني أن هناك إرادة مقتدرة تقف وراء هذا البرنامج و لها أهدافها و أدوات تثقيفها أو بالأحرى تدجينها للأرواح و العقول ، و من ثم سيكون السؤال : من هو صاحب هذه الإرادة المقتدرة ، و ما هي أهدافه مما يعمل ؟
فنحن نعلم بوضوح الأسباب و الأهداف و النتائج التي كانت وراء دهس النقاب بأحذية جداتنا و أمهاتنا في شوارع مصر وميادينها زمن النهضة ، و كان برنامجنا علمانياً علنياً في دولة مدنية ذات مؤسسات حديثة و أحزاب قوية بنظام برلماني يتم فيه تبادل السلطة بإرادة شعبية ، أهدافه وطن يجمع أفراده و طوائفه و ملله و نحله و أجناسه و عناصره ، بعقد اجتماعي يقفون فيه جميعاً على التساوي حقوقاً و واجبات ، و يربطهم برابط المصلحة المشتركة بينهم . و أساسه المتين هو قدسية الوطن و علم الوطن (ملحوظة / اتركوا العلم مرفوعاً و لا تجعلوه مناسبة كروية) ، حيث يعيش الجميع على اختلافهم تحدوهم مصالحهم المشتركة . كان الهدف اقتباس النظام الغربي المتفوق رغم وجود المستعمر المكروه على تراب الوطن . لكن شعبنا أمكنه أن يفرق بين المشاعر كالحب و الكراهية ، و بين المصالح التي دعته لاستخدام مناهج المتفوقين ليتفوق مثلهم . باختصار كان زمن 1919 هو قرار مصري مجتمعي للحاق بقافلة الحداثة و الأمم المتقدمة بدولة مدنية دستورية برلمانية مؤسساتية .
العجيب أن يعود النقاب و الحجاب للأمة و هي مهزومة و في حضيض الامم و بحاجة لتنفس هواء الحرية للخروج من مستنقع المتخلفين ، و من هزيمتها الحضارية المنكرة ؟ !!
لن تكون عودة هذه الظاهرة مفهومة مع حالنا الذي يزري بنا و بتاريخنا ، إلا إذا كان صاحب البرنامج يقدمها للناس كآلية تفوق ، بحسبانها وسيلة ارتقاء بحالنا المخزي إلى حال أرقى ، و المطالع لشعارات الشوارع في بلادنا سيعلم فوراً أن العودة إلى النقاب هي عودة إلى صحيح الدين ، لنرضى ربنا فيرضى عنا و ينصرنا على القوم الكافرين !! هو الإفلاس الكامل من أى حلول يملكها أصحاب الصحوة ، و شعور من الناس بعدم القدرة على التغيير ، و خسارة المصري لروحه التواقة و نكتته الناقدة اللاذعة التي اختفت مع الصحوة بدورها ، أوصلوا المصريين إلى القناعة بأن الأعداء لا يقدر عليهم إلا الله بنفسه .
و أصابت الصحوة ذاكرة شعبنا بالتلف ، فما عاد يذكر اننا جربنا الحجاب و النقاب زمن السلاجقة و العثمانلية و المماليك و لم يصنع تقدماً و لا أدى لحضارة و لا صنع رقياً قيمياً ، بل أدى إلى انهيار كارثي بما صاحبه من سلوكيات من لزوم ما يلزم ، و انتهى بضعف الوطن كله مما سمح باستعمار البلاد من الصليبيين مرة و من الاستعمار الحديث مرة .
الواضح لأي عقل صاحي أو حتى غافل ، حجم المليارات التي تم ضخها من الخزائن النفطية لتضخيم و نشر الصحوة ، و كمّ البيزنس التجاري الهائل من بنوك و بيوت أزياء و تجارة سلاح ، التي استثمرت ، عبر المساجد و المدارس و الجامعات و الصحف و الإذاعة و التلفاز ، هو مشروع هائل التكلفة إذا قارناه بما صرفه الاتحاد السوفيتي بجلال قدره خلال القرن الماضي بطوله لنشر أيديولوجيته ، فكان ما صرفه من دعم لحلفائه في العالم و نشر مبادئ ثورته و تسليح أنصاره بالطائرات و الصواريخ سبعة مليارات دولار ، بينما بلغ ما صرفته السعودية لتصدير وهابيتها و صحوتها منذ هزيمتنا في 1967 و حتى عام 2000 أي خلال ثلاثين عاماً فقط زهاء سبعين مليار دولار ، و مثل هذا الصرف الهائل في هذه الفترة الوجيزة يفترض بالضرورة أن وراءه عقلاً يخطط ، و أن هذا التخطيط له أهداف و عائدات تفى و تزيد بربحيتها عما تم صرفه ، فلابد من عائد و مكاسب و ربح وفير ، فمثل هذه الأموال بأرقامها الهائلة المهولة لا تهدر في مغامرة و مقامرة ، خاصة عندما تجده لا يترك فرصة لشراء أي موقف و سد أي ثغرة و استثمار أي فراغ لملئه بالأموال للسيطرة الوهابية الكاملة .
أسوأ ما في الأمر كله هو استجابة شعب بحجم الشعب المصري ليخضع لأوامر و نواه و يقبل بالخضوع و الخنوع و الإنزلاق إلى حفرة العصور الوسطى المظلمة ، دون أن تحميه مناعته التاريخية التي كانت درعاً واقياً له عبر تاريخه الطويل ، عن هذا السقوط المدوي ، ليخلع و يلبس و يأكل و ينام و يتكلم و يسكت و ينكح و يتبول و يتغوط و يحب و يكره بأوامر و نواه و أدعية وفتاوي دون أي براهين واضحة لعائدية هذه الطاعة على الوطن و المجتمع .
-2-
البُعد السياسي
إن تتبع الخيط لفض آليات ظاهرة الحجاب و النقاب يوصلك إلى ما يستتبعها و يترتب عليها ، فالآليات هنا لا تقوم كغيرها من الأفكار و المفاهيم على لغة الحوار و الإقناع ، الآلية دينية تأمر لتُطاع لا لتناقش و تحاور ، فالنقاش و المحاورة عدم طاعة لمن هو أعلم منا بشئون ديننا و دنيانا
هو المروق و الفسوق ، لذلك لا يحتمل الأمر الديني نقاشاً و إلا كان هو العصيان المرادف للخروج على الجماعة و المروق على الملة .
نصل الآن إلى المفصل الأهم في الظاهرة ، في ظرف انكسار تاريخي و هزيمة نفسية لتراجع مصر عن دورها القوي محلياً و دولياً ، تم استثمار تدين الشعب المصري الفطري لترويج الوهابية السعودية و إسلامها النصي الظاهري بحسبانه الإسلام الوحيد الحقيقي ، و أن إسلامنا السابق كان انحرافاً عن جادة هذا الصحيح ، مضافاً إليه التقريع المشيخي الذي لا يهدأ للناس لانكسارهم الحضاري ، لتأثيمهم و تحميلهم أوزار الاستبداد و نكباته ، و الشعب المصري شعب حساس أيضاً بطبعه فيشعر بالذنب في حق أمته الإسلامية التي هو المسؤول عنها ( لا تعرف لماذا ؟ ) ، و في حق ربه و دينه ، فحقت عليه الهزائم ، و من ثم فلا حل إلا بالعودة إلى طاعة الرب التمامية التي تمر فقط عبر السراط الوهابي وحده .
ان الظاهرة تعبر بشديد البيان و السفور عن مدى النجاح السعودي في إخضاع الشعب المصري لسلطة تيار ديني وافد على البلاد مع سبعينات القرن الماضي ، بغض النظر عما بدأ يستشري في المجتمع مع هذا الوافد من سلوكيات منحرفة و فساد من كل الأصناف باحصاءات علنية لا تشير إلى تدين حقيقي . و الأمر على حاله هذا هو غاية المراد السعودي الوهابي و هو المطلوب بالضبط و بالتدقيق ، و هو الهدف من هدر سبعين مليار دولار . الهدف نشر الفوضى و الدمار الأخلاقي و القيمي تحت ستار زائف من مظهر ديني قشري لا يخفي ما تحته من قبح ، حول الشارع المصري إلى فوضى و عشوائية و وحشية لم يسبق أن عرفها في أسوأ أزمانه . و لا عرفها حتى في زمن الهكسوس . و لبس الفساد الزي الباكستاني و لا تعلم ما علاقة هذا الزي بالقرآن أو بالسنة أو حتى بعرب الجزيرة ، و معه اللحية المروحية غير المشذبة ، و الحجاب و النقاب ، و دُمتُم !!
هي حالة إثبات للدنيا عن مدى طاعة الشعب المصري للسيد السعودي الذي تمثله أيديولوجيته المبثوثة في تلفازنا و إذاعتنا و مناهج تعليمنا و في لافتات تملأ الشارع المصري أينما وليت وجهك ، لقد تم اختراق مفاصل الدولة المصرية العريقة و مؤسساتها و نخرها بالسوس الوهابي منذ قرر الرئيس السادات أن يكون الرئيس المؤمن ، فأطلقهم علينا فكافؤه بنحره يوم عيد نصره تقرباً لرب الوهابية بكبش عظيم كما جاء في أدبياتهم .
و بعدها تحولوا إلى سادة حقيقين عبر مشايخ بلادنا الذين حولوا ولاءهم لأرباب النعمة لنشر الوهابية في مصر ، و أصبح الشيخ صاحب قوة و سلطان و هيبة تفوق هيبة القانون و الدستور و الدولة مجتمعين .
فالمواطن يعمل بفتوى الشيخ حتى لو كانت ضد وطنه و دولته و مواطنيه ، إذ توصف الحكومة في هذا السياق بالحكومة الكافرة ، لذلك يخلع المواطن طاعة قانون الدولة لأنه وضعي كافر ، و هو ما يقال له في إعلام الدولة المصابة بالحول المنغولي و الكساح العقلي و الموت السريري للضمير .أما المواطن فقد اطمأن أنه من أصحاب الجنة مادام مطيعاً للطقوس ، و ما عدا ذلك فكله من اللمم البسيط ، فغيره من أهل الجحيم و هو وحده حبيب الله فهو من أهل الجنة ، و من ثم يذهب إلى أبعد مدى في كسر كل القيم الأخلاقية مادام مؤدياً لواجبه الديني ” و إن زنى و إن سرق ” ، لأن المبدأ الوهابي يقوم على حديث منسوب للنبي ص : ” لا يدخل بن آدم الجنة بعمله إنما بأداء العبادات و رحمة الله ” .
في انتهازية رخيصة لا تليق لا بعروبة و لا بإسلام انتهزت الصحوة الوهابية جرح الشقيقة الكبرى و ضعفها و هزيمتها في 1967 لتحول المجتمع المصري من مجتمع مؤسسات قانونية تراتبية بيروقراطية وظيفية ، إلى مجتمع منفلت فوضوي غير منتج و لا منجز ، يثبت طاعته لربه بقطعة قماش ثم ينصرف إلى كل ألوان الرذائل التي سيغسلها في الحج المقبل و يعود كما ولدته أمه ملط من أي ذنب . و مع تكاثر الخطايا يكثر الراغبون في الغسل ، و يذهب المستحمون بالطهارة الشكلية لينالوا الغفران بملايين مصر الكادحة ليضيفوها لرصيد البنوك السعودية ، و هذا وجه واحد فقط ضمن وجوه عدة ، منظور مكشوف يشكل عائدات هائلة سنوياً تبرر ما تم صرفه من مليارات على الصحوة . و يتلو الحج عمرة و يلي العمرة حج جديد ، و هو ما يبدو تعبيراً عن صحوة المسلمين لدينهم و رغبتهم في رؤية قبر حبيبهم و أداء الفريضة لربهم ، بينما هو تعبير عن حجم المآثم و الكارثة الأخلاقية التي أوصلنا إليها أصحاب الصحوة ، فالناس تشعر بالحاجة الدائمة للغسل عندما تشعر بالوسخ و القذارة الواضحة ، لذلك تحتاج إلى التنظيف الموسمي الدوري .
مرة أخرى نؤكد أن أي زي هو بالأصل ظاهرة اجتماعية تفرضها البيئة لذلك تختلف باختلاف البيئات و المجتمعات ، و أن الحجاب أو النقاب لو كان ديناً ما فرط فيه المصريون و بقية العرب و المسلمين معهم مع ثورة 1919 ، و لو كان ديناً و فرطنا فيه فهو معنى يهين الدين و يصوره ضعيفاً مهزولاً لا يستطيع فرض فروضه على اتباعه دون مساعدة خارجية ، و كأنه يحتاج للمساندة و الدعم و هو دين القادر العزيز الجبار !! و من هنا لا يمكن لأحد أن يقول أن النقاب هو من الفروض او من شئون العبادة ، و لا هو حتى قاعدة في المعاملات ، و لا يترتب على ارتدائه أو خلعه أية حدود شرعية في ديننا ، هو فقط وسيلة يثبت بها الوهابيون أنهم قد تمكنوا بعد هزيمة 1967 من السيادة على الشارع المصري ، بحكومة أخرى موازية خفية متكاملة النظم و الأوامر و القوانين و الاقتصاد ، أعضاؤها مصريون بالجنسية فقط ، و ولاءهم للسيد الذى لا تنفذ خزائنه ، و تفرض هذه الحكومة الخفية ذاتها علناً جهاراً نهاراً لا تستحي و لا تكن ، و تحارب حرباً ضروساً في شأن تافه كالنقاب ، و هو عندها كبير لأن أي تراجع له يعني تراجعاً في سيادتهم و في خططهم نحو الإعماء الشامل للعقل المصري ، لأن أي تراجع يعني انحساراً لهذه السيادة ، ألا ترون حجم ما ضخ من أموال في الحملة الفضائحية ضد سيد القمني ، و التي لا تليق بتدين حقيقي بقدر ما تليق بالنساء العواهر الدواعر المحترفات ، لأن جائزة القمني تقتطع من مساحة وجودهم و إثبات سيطرتهم التي ستكون منقوصة بمثل هذه الجائزة .
تعالوا أدلكم كيف تمت الخطة و كيف تم تنفيذها للوصول بالمجتمع المصري إلى وضعه الحالي المؤسف ، و هنا سنعود إلى التاريخ بلمحة سريعة كاشفة مضيئة للموقف كله بالأدلة القواطع على ما قلنا هنا .
نتذكر سريعاً أن بدو الجزيرة كانوا ضمن عناصر الغزو البدوي الهكسوسي الأول لمصر زمن الفراعنة ، و هو عصر تسميه الوثائق المصرية و غير المصرية فى الحضارات القديمة (العصر المظلم ) ، لانقطاع مصر فيها عن إبداعها المعروف أدباً و فناً و علماً و معرفة ، حتى يقول إدوارد ماير إن احتلال الهكسوس يبدو في تاريخ مصر كستارة سوداء نزلت فجأة على هذا التاريخ ، و مع ارتفاع الستارة بطرد الهكسوس تجد مصر المتحركة المنتجة الفعالة في اقصى نشاطها و ابداعها العلمي و الفني و العسكري حتى أقامت أول إمبراطورية لها تمتد حتى الحدود التركية . نتذكر أيضاً أن عرب الجزيرة قد عادوا لغزو مصر منذ أربعة عشر قرناً تحت شعار : الإسلام أو الجزية أو القتال و ما يترتب عليه من سبي و أسر و هتك أعراض و نهب و استعباد . و بمرور الوقت تحولت الأغلبية المصرية إلى الدين الوافد من الجزيرة و أصبحوا مسلمين . و ظلت مصر ولاية تابعة لعاصمة الخلافة الإمبراطورية ، يأتيها الحكام من خارجها منوبين عن الخليفة عربياً أم كردياً أم تركياً ، خصياً كان أم رجلاً . حتى انتهى بها الأمر صريعة الزمن المملوكي العثماني في غياهب الجهل و الظلام و المرض و التخلف ، حتى أيقظتها الآلة العسكرية المتقدمة للحملة الفرنسية و نظامها الأداري و الحضاري المتفوق ، لتكتشف مصر ما فاتها فتطرد المستعمر الفرنسي و تقيم دولة حديثة قام بتأسيسها شعب مصر برياده رشيدة من محمد علي (الذي اختاره المصريون) و أخلافه من بعده .
بينما كانت مصر تكتشف نفسها و ما حولها زمن محمد علي باللحاق بالحداثة الأوروبية ، كانت الجزيرة تكتشف نفسها بالمذهب الوهابي المتحالف مع آل سعود يعطي كل منهما مشروعية الوجود للآخر .
و من جانبه أراد السلطان العثماني أن يشغل كلا الحركتين في مصر و الحجاز ، فطلب من محمد علي القضاء على الحركة الوهابية ضد الخلافة ، بعد أن وصلت شرورها خارج حدودها لتدمر أينما وجدت أضرحت الأئمة و الأولياء خاصة بالعراق و ذبحت المسلمين من غير السنة أينما صادفتهم .
أرسلت مصر حملتين بقيادة أولاد محمد علي ، الأولى قادها الإمير طوسون و حققت نصراً جزئياً ، تبعتها حملة أخرى بقيادة الأمير إبراهيم باشا ، لتحقق نصرها باحتلال الدرعية و استباحتها على الطريقة الإسلامية ، و لأن العرب يفرقون في تطبيق القانون ، فإنهم طبقوا الاستباحة على غيرهم في فتوحاتهم و غزواتهم ، لكنهم لا يقبلونها لأنفسهم . و بعدها ظل ثأر الدرعية ناراً لا تهدأ بالقلب الوهابي ، و بؤرة وجع مزمن في الدماغ ولوعة فى الكبد السعودي ، لنصل إلى الزمن الناصري و الحرب المصرية السعودية في اليمن ، و نقرأ الآن معاً نص رسالة الملك فيصل بن عبد العزيز ملك السعودية إلى الرئيس الأمريكي ليندون جونسون ، و التي حملت تاريخ 27 ديسمبر 1966 م الموافق 15 رمضان 1386 هـ ، و ترد بوثائق مجلس الوزراء السعودي تحت رقم 342 ، ( نقلا عن د. وليد البياتى ، ومصدرة : حمدان حمدان : عقود من الخيبات1 دار بيسان ص 489 – 491) و هي رسالة و و ثيقة أدت إلى تغييرمجري تاريخ المنظقة و العالم كله بعدها .
يقول جلالته لأخية الرئيس الأمريكى جونسون : ” .. مما تقدم يا صاحب الفخامة ، و مما عرضناه ، تبين لكم أن مصر هي العدو الأكبر لنا جميعاً و أن هذا العدو إن تُرك يُحرض و يدعم الأعداء عسكرياً و إعلامياً ، فلن يأتي عام 1970 – كما قال الخبير في إدارتكم السيد كيرميت روزفلت – و عرشنا و مصالحنا في الوجود . لذلك فإني أُبارك ما سبق للخبراء الامريكان في مملكتنا أن اقترحوه ، و أتقدم بالاقتراحات التالية : أن تقوم أمريكا بدعم إسرائيل بهجوم خاطف على مصر تستولى به على أهم الأماكن حيوية في مصر ، لتضطرها بذلك لا إلى سحب جيشها صاغرة من اليمن فقط ، بل لإشغال مصر باسرائيل عنا مُدة طويلة ، لن يرفع بعدها مصري رأسه خلف القناة ، ليحاول إعادة مطامع محمد علي و عبد الناصر ، و بذلك نعطي لأنفسنا مهلة لتصفية أجسام المبادئ الهدامة ، لا في مملكتنا فحسب بل و في البلاد العربية ، و من ثم بعدها لا مانع لدينا من إعطاء المعونات لمصر و شبيهاتها من الدول العربية ، اقتداء بالقول : ارحموا شرير قوم ذلّ ” .
إن هذه الرسالة التاريخية تفسر ما حدث بعدها بشهور معدودة خطوة بخطوة و بوضوح مبين ، و توضح مدى وجع الدرعية القديم و انه لازال ماثلاً أمام جلالته يئن عليه من مصر محمد علي و من مصر عبد الناصر ، و قد تمت خطوات الرسالة بنجاح نموذجي ، فنهر المال قادر على فعل الأعاجيب ، فأمكن حينها أن تؤكد سوريا لمصر حليفتها في اتفاقية دفاع مشترك ، أنها تحت احتمال أكيد باجتياح إسرائيلي لاحتلال سوريا ، و هو ما دفع مصر إلى تنفيذ إلتزامات الاتفاقية فقامت بسحب جيوشها من اليمن لتدخل الحرب إلى جوار سوريا المعرضة للغزو ، و قد ثبت بعد ذلك أن دمشق لم تكن الهدف الأكبر إنما كانت مصر ، و أنه لم يكن في نية إسرائيل احتلال سوريا إنما احتلال كل ما يمكن احتلاله من المنطقة المحيطة بحدودها ، و هكذا تحقق هدف جلالته الأول بانسحاب الجيوش المصرية من تحت أُنثييه في اليمن ، ليتلوه مباشرة الهدف الثاني و الأعظم بالهزيمة الساحقة للجيوش العربية في 5 يونيو 1967 بعد أربعة شهور فقط من رسالة جلالته لأخيه جونسون . و احتلال إسرائيل كامل سيناء و الضفة و الجولان .
وتستمر الحرب الضروس حتى اكتوبر 1973 يوم حرب التحرير لتشمر السعودية فجأة – وعلى غير عادتها -عن الإباء العربي و تعلن عن صفاء عروبتها الأصيلة بإيقاف ضخ النفط ، في خطوة بدت حينها الشهامة و الأصالة العربية في أتم معانيها ، لكن ليرتفع سعر النفط بحسابات سابقة و مبرمجة إلى مستويات ما حلم بها أحد ، و كان الثمن المدفوع هو دماء أبناء مصر.
و هكذا تحققت الخطة السعودية الإسرائيلية الأمريكية و ربما السورية ، و أخذ جلالته المهلة الطويلة لتصفية المبادئ الهدامة من وطنية و قومية و يسارية و اشتراكية و شيوعية ، ليس في مملكته فحسب و لكن في مختلف ديار يسكنها المسلمون .
و تحولت مصر بعدها من بلد يفيض بخيره على جيرانه و بالأخص أهل الجزيرة لاستحقاقهم الصدقات عن جدارة شرعية بلا منازع ينازعهم هذا الاستحقاق ، إلى استجداء المعونات ، و ساعتها لم يرحموا شرير القوم الذي ذل بتعبير جلالته ، إنما قرروا هزيمته الداخلية لسحقه سحقاً فلم يعد المصرى يذكر نصره الأكتوبري إلا موسمياً ، و عدا ذلك يعيش حالة الهزيمة التي يعيشها العرب جميعاً أمام إسرائيل ، و ذلك لأن الحرب عند العربي هي دوماً صفرية إي حرب إبادة شاملة لأحد الطرفين ، النصر أن ينتهي طرف من الوجود و يبقى المنتصر ، حروبه لا تعرف مفاوضات ، و بدون إبادة الطرف الآخر لا يكون هناك انتصار .
و مع تفوق إسرائيل المتصاعد و يدها التي تذهب إينما طالت ، جعلت المصري الذي كان يحمل على أكتافه كل القضية العربية و يشعر أنه المسؤول عنها ، يستشعر الهزيمة الداخلية ، و أن إسرائيل لا يقدر عليها إلا القادر الجبار ، و لا حل إلا استدعاؤه للتدخل إلى جانبنا لو التزمنا أوامر و شروط ديننا الجديد ( الوهابي ) . و هكذا وصل ثأر الدرعية إلى عملية نقمة شاملة في إبادة جماعية مليونية للوعي المصري ، و خاصة وعيه بوطنه ، و احتلال عقله بقضايا العروبة و الإسلام ، مع احتلال احلالي يحل فيه الوهابيون محل الإسلام البكر ، كما سبق و احتلوا وطنه زمن الفتح احتلالاً استيطانياً . مع قهر المصري ليعلن التبعية لإثبات السيطرة على شرير القوم الذي ذل ،ليمتلىء الشارع المصرى لحي و حجاباً و نقاباً و خراباً كاملاً في الذمم و الضمائر . إنه مشروع انتقام شيطاني وحشي بدوي كاسر بدون شبيه و لا نظير .
و ضاعت قيم المصري المصرية و معها ولى حرصه على الملك العام و المشترك العام لتحل الأنانية المفرطة محل الضمير المصري الرفيعع ، ذلك الضمير الذي جعل أمهاتنا و جداتنا السافرات العاملات و الفلاحات تربي جيلنا التربية الفضلى لأنهن كن عفيفات دون إجبار أو قهر .
هؤلاء الأمهات المنتجات العفيفات السافرات هن من أنجبن لنا اليوم أبناء آخرين ، وجدوا فى نهر المال مايمنحهم السلطان والدرحة الاجتماعية الرفيعة وهم من ينادون نساءنا بأن الحجاب عفة ؟ فهل يطعن رافع الشعار في عفة السيدة والدته بهذا الشعار ؟ فإذا كان واثقاً من عفتها فإنه لابد أن يعترف أنه يرفع شعاراً كاذباً ، و أن النقاب و اللحية لا يصنعان عفة ، إنما ما يصنعها هو الضمير الأخلاقي المجتمعي الذي كان عفيفاً منتجاً مثقفاً زارعاً صانعاً مبهجاً عالماً منجزاً بهيجاً ضحوكاً ، كرنفالاته الاحتفالية عديدة بعدد موالد أوليائه الصالحين ، صاحب أجمل و أبدع نكته في الدنيا بما وراءها من خيال و حبكة و إبداع و تراث طويل و فن رفيع و نقد لاذع ، و مع ذلك كانوا ، و كُن ، مسلمات و مسلمين محافظين وأتقياء خلصاء ، كانت أمهاتنا عفيفات طاهرات لم يشنهم عدم ارتداء قماش العفة كالبهائم الدوارة .
لقد عاد بدو الحجاز إلى غزو مصر مرة أخرى ، و انتقم الوهابي السعودي للدرعية شر نقمة ، و أصبح الشارع المصري عبداً للقول الوهابي ، مجرد القول هو أمر ، بعد أن خسر المصريون بكارة إسلامهم الحنفى والصوفى والشعبى السمح العاشق للوطن و للدين . . . باختصار عُدنا موالي لسادة بدو الجزيرة مرة أخرى .
-3-
البُعد الاجتماعي
عبر تاريخ البشرية الطويل ، و في كل مكان على الأرض ، بحث الإنسان عن العفة و طلبها وقنن لها الشرائع لحمايتها قبل ظهور الديانات الإبراهيمية الثلاث ، كما هو ثابت في شرائع مصر و الرافدين القديم . و لو حاولنا تعريف العفة سنقول إنها ذلك الدافع الداخلي للإنسان ، الذي يمنعه عن طاعة غريزته الجنسية ، إلا بما يقره المجتمع و يرضي عنه ، بمعنى أنها ما يمنع إقامة هذه العلاقة خارج إطار الزواج الذي وضعه المجتمع و تعارف عليه و قننه دينياً و مدنياً . و قد قننت الحضارات القديمة هذه العلاقة الزوجية للحفاظ على العفة ، و ذلك وفق ثقافة كل منها التي تصنعها علاقة الإنسان ببيئته الخاصة و مجتمعه . و ركزت على تفعيل معنى العفة تربوياً في الأسرة و المدرسة و دار العبادة لزرع وازع داخلي في الصغر ليكون كالنقش في الحجر ، كنوع من الفاكسين و التطعيم المسبق الواقي الداخلي من الإصابة ، لتصبح العفة أحد مكونات الضمير صداً لأي إغواء شهوي بمناعة هذا الضمير .
و باختلاف الثقافات يختلف معنى العفة ، و معنى الزنا ، فالمجتمع الذي كان منذ فجر التاريخ – و بعضه النادر لازال – يأخذ بنظام تعدد الأزواج للزوجة الواحدة ، يعتبر غير ذلك هو الزنا ، لذلك يختلف معنى العفة و الزنى إلى درجة التناقض ، فلو قارنا ذلك الزواج التعددي للأزواج بمجتمعات أخرى تقر عكسه و هو تعدد الزوجات كلون وحيد مباح للزواج و عكسه زنا ، نكتشف فارقاً هائلاً في دلالة معنى العفة . و هناك المجتمعات التي تقصر العفة على طبقة من طبقات المجتمع دون أخرى ، و هي مجتمعات تنتمي إلى حقب موغلة في القدم و البدائية في تاريخ البشرية ، هي حقبة الزمن العبودي ، حيث يقتصر طلب العفة فيه على الزوجات الحرائر فقط ، و لا ينسحب على الجواري و الإماء و العبيد ، و ذلك بغرض التمييز بين الطبقات لعدم الاختلاط مما يُضيّع نقاء الطبقة و نسبها ، و تأتي العفة هنا كصفة ارتقاء أخلاقي تضاف إلى الرقي الطبقي لتناسبه و تليق به و تسم أصحابه بها ، و قد حرص الخليفة عمر بن الخطاب على هذا النقاء الطبقي بشدة ، فكان يضرب الإماء و الجواري إن رآهن مخمرات كالحرائر ، لأن الشباب المسلم زمن النبوة و الخلافة من الفقراء الذين لا يستطيعون طولاً للزواج أو ملك اليمين ، كانوا يتربصون بالنسوة عند خروجهن إلى الغائط ، فإن وجدوا المرأة سافرة عرفوا أنها جارية فيتناولونها . لذلك أمرت الآيات نساء المسلمات بتغطية جيب الثديين بالخمار ، و بإدناء الجلاليب ، حتى يعرفن أنهن حرائر و تمييزاً لهن عن الإماء حتى لا يؤذين . و زنى الرجل في مثل هذا النظام يكون بلقائه جنسياً بامرأة من خارج نسوته و إمائه و لو كُنَ ألوفاً ، بينما تأخذ مجتمعات الغرب الحر اليوم بثقافة الحريات الحقوقية الفردانية ، و ترى أن جسم الإنسان هو أخص خصائصه و ممتلكاته التي لا يصح التدخل فيها أو الاعتداء عليها ، لذلك تقوم العلاقة الجنسية على لقاء ذكر بأنثى بكامل التراضي و الاتفاق دون استغلال ظروف طرف لطرف و دون إكراه ، و قد تتم بعقد زواج ديني أو بدون عقد زواج ، فكلاهما هو زواج سليم من وجهة نظر المجتمع و هو نموذج العلاقة الجنسية العفيف و المثالي ، و غير ذلك يعتبر اغتصاباً يتشدد معه القانون بعقوبات مغلظة ، حتى لو كان إكراهاً من الزوج لزوجته على الممارسة الجنسية ، لأنه سيعد اغتصاباً ، حيث لا يقف الإغتصاب عند المعنى الجنسي ، لأن الاغتصاب هو اغتصاب للإرادة و سحق للشخصية و إزدراء بالشريكة و إذلال لها رغم إرادتها ، و هذه هي الجريمة الكاملة عندهم .
و قد لوحظ في مسيرة البشرية ، أن الشعوب عندما تمر بفترات انكسار و طوارئ و ضعف في الأمان ، تلجأ إلى إجراءات احترازية لصون عفة نسائها ، لأن النساء عبر التاريخ كُن الطرف الأضعف ، لذلك مع الطوارئ في الحروب أو الغزوات أو الانفلات الأمني نتيجة للكوارث الطبيعية فإن النساء يتعرضن للهتك و الاغتصاب ، و في المجتمعات التي تضعف فيها تربية الضمير و الوازع الداخلي ، يستشعر الذكر فقد الثقة في نفسه مثله مثل كل المجتمع المهزوم المأزوم ، لذلك يفترض أن نساءه قابلات للسعي الشهوي الفاسد لاستكمال نقص لا يسده ذكر غير واثق من نفسه ، و ذلك بالتدخل الخارجي الميكانيكي القسري ، و هو تدخل لا علاقة له بالعفة كمعنى و ضمير ، هو تدخل يُحل الأداة الخارجية محل العفة الداخلية الحقيقة فلا يصبح لها لزوم فتذبل و تموت ، التدخل الخارجي استباق للحدث المرفوض اجتماعياً بصنع إجراءميكانيكى مانع كي لا تقع جريمة الزنا التي تهتك العفة . فتجد في بعض البلاد التي لازالت تعيش حالة الصيد و الارتحال بين المدارين ، يخيطون فرج الزوجة بما لا يسمح بالإيلاج لغياب الأزواج الطويل رعياً و صيداً ، كإجراء مانع لوقوع جريمة هتك العفة بالزنا . و يماثله في مصر ( و لازلنا بين المدارين ) الختان الجائر للفتيات و هن صغيرات بنزع البظر مع الشفرين الأصغرين لكبح الشهوة للحفاظ على العفة .
الكارثة في الختان الجائر هو أنه لا يمنع الاشتهاء و الرغبة الجنسية ، كل ما يمنعه هو وصول الأنثى إلى درجة الشبع ( الأورجازم ) . و تكون النتيجة أن المختونة لن تصل إلى الشبع مهما حاول الزوج من فنون ، و معلوم أن سبب انتشار المخدرات في هذه البلاد هو محاولة الرجال إطالة زمن المعاشرة لإرضاء الزوجة المتهيجة دون شبع . و عليه فبدلاً من أن يصون الختان العفة ، فإنه يترك المرأة كاملة الشهوة ، و في حالة تهيج جنسي مستمر بسبب العلاقة الزوجية التي لا تنتهي بالأورجازم ، فتظل الشهوة مستعرة تطلب الإشباع دون أن تخمد ، يوقظها الزوج و لا يتممها ـ فلا هي قضت وطرها و لا هي ظلت هادئة النفس و الجسد .
و مثل هذه الألوان من التدخل الخارجي للحفاظ على العفة هو ما لجأت إليه أوروبا في عصورها الوسطى بأداة ميكانيكية مُبتكرة أسمها ( حزام العفة ) ليمنع وصول القضيب إلى الثقب في حال غياب الزوج ، و مثله ما يلجأ إليه المجتمع الإسلامي في هذه الأيام بالحجاب و النقاب للحفاظ على عفة حريمه . و عليه فإن آليات العفة بتدخل خارجي هي : الحجاب ، و النقاب ، و الختان الجائر ، و خياطة الفرج ، وحزام العفة ، أما آلياتها الداخلية فشئ واحد فقط هو وازع الضمير الأخلاقي بالتربية الأولى للطفل في سنواته المُبكرة .
و عندما تكون العفة معنى و قيمة ذاتية داخلية تربى عليها الفرد في طفولته ، فإنها ستصبح إلزاماً لصاحبها ذكراً كان أم أنثى ، فهي تقف حائلاً داخلياً دون مجرد التفكير في هتك العفة ، لانتقاص ذلك من قدره الإنساني ، و لكن الواضح أن المجتمع المسلم قد اختار الحجاب و النقاب كوسيلة خارجية لصون عفة نسائه ، ليمنع به إثارة الذكر المسلم التقي بشكل قد يدفعه للاعتداء على المرأة أو مطاردتها لتزيين جريمة الزنا لها . و هو ما يعني اشتداد وطأة الأزمة في المجتمع ، و هي الأزمة التي دفعته لإختيار وسيلة الحجب بأدوات مخترعة ، بحسبانها أكثر طمأنية له من الأسلوب التربوي الذي يلزم الطرفين من الداخل .
الرجل المسلم معذور و هو يرى الشعب المصري و مثله معظم شعوب الدول الإسلامية يتوكل على الله تحت وطأة مشايخه ليعمل بنصيحة تكاثروا تناسلوا ، فتكاثروا و تناسلوا حتى لم تعد البيوت تسعهم فتربوا في الشوارع ، و لم يعد لدى الأم و لا الأب الذي يسعى لإشباع هذه الأفواه الجائعة وقتاً يكرسه لتربية وازع الضمير و القيم الأخلاقية في عياله . كيف لا يقلق المسلم و هو يرى هذا التكاثر الأرنبي ( لأن الله هو الرزاق ) دون أسرة حقيقية تربي و دون مدرسة تُهذب و تُعلم ؟ و يرى هؤلاء يكبرون أمامه خلٌوا من أي قيم تربوية سليمة ، و ينضمون إلى مدرسة الفساد المعمم سياسياً كان أم دينياً ، فلا يبقى أمامه للحفاظ على العفة سوى التدخل الميكانيكي الخارجي . رغم ما يلحق هذه الوسيلة من مثالب و نقائض كثيرة .
فالنقاب الذي يرفعون له شعار ( النقاب عفة ) لا يصنع للمرأة أي عفة ، هو يعف الرجل وحده لكنه لا يعف المرأة المنتقبة ، يجعل الرجل عفيفاً لأنه لا يرى منها شيئاً يثير شهواته ، لكنه أبداً لا يصنع للمرأة عفة ، و إن كانت داعرة و انتقبت فلن يحولها النقاب إلى عفيفة ، ستكون كاللص المحبوس يظل لصاً سيسرق أياً ما تطاله يده حتى لو كان نفايات ، و كذلك حبس المرأة خلف النقاب لن يمنعها من كسر العفة ، و لن يخلق لديها العفة إن لم تكن ضمن مكوناتها التربوية من الطفولة المبكرة ، و ستطلب الجنس و لو مع نفايات البشر .
و الشعار بهذا الشكل القطعي لا يقول : إن النقاب قد يخلق عفة للمرأة بصيغة الاحتمال ، بل هو صارم واضح ( النقاب عفة ) ، أي أن من طلبت العفة فعليها بالنقاب ، و من لم تُرد العفة فعليها عدم ارتدائه . و هكذا يعود بنا الشعار إلى التقسيم الطبقي العتيق البدوي ، فتصبح المنتقبة محمية من التحرش بها فهكذا يُعرفن فلا يؤُذين ، بينما تكون السافرة مستباحة ، و لأن معظم السافرات في بلادنا من غير المسلمات فهن من الأصل محل استباحة لأنهن من الطبقة الأشد دناءة و وطاءة في ترتيب المجتمع المسلم الطبقي ، طبقة الذميين ، (فشعار كهذا يلزمه فهم كذلك) ، لهذا هن غير عفيفات بالضرورة الحتمية كإماء الجاهلية يجوز امتطائهن ، فلا تأمن السافرات في بلادنا من أي انتهاك مفاجئ في مجتمعنا العليل بانعدام القيم ، و يخرج الشباب المتأسلم و المشايخ في التلفاز لتفسير ظاهرة التحرش و الاغتصاب المنتشرة في بلاد الصحوة الإسلامية ، بأن لبس البنات السافر و الخليع هو ما يدفع الشباب إلى هذا الهوس الجنسي ، بحسبان العفة تكون من المرأة وحدها ، أما الرجل فله حق الفُجر العلني دون أي قلق يصيب هذا المجتمع المُتدين .
هذا رغم أن العفة هي الوجه النقيض لذات العملة التي يشكل طرفاها ذكر و أنثى ، فالشهوة تتم من الذكر و الأنثى ، و الفعل الجنسي يتم بذكر و أنثى ، و العفة تتم بابتعاد أحدهما عن الفعل الشهوي بوازع من القيم الأخلاقية التي تربى عليها ، فالعفة تحتاج أيضاً لذكر و أنثى حتى يتم ابتعاد أحدهما عن إغواء الآخر تأكيداً لعفته .
في بلادنا تصبح الكارثة مضاعفة عن كل عصور وسطى كانت أو مظلمة أو قاتمة ، فنحن أولاً نلجأ لختان الذكر ( سُنة إبراهيم ) ، و هو ما يجعله عملياً سهل الاستثارة ، و يجعل عضوه أكثر حساسية من الأغلف ، و هو ما يؤدي إلى سرعة القذف و بلوغ الأورجازم بسرعة قياسية ، بالنسبة للأغلف الذي تطول ممارسته مما يشبع أنثاه بدورها ببلوغ ذات الدرجة من الإشباع لأنها غير مختونة و هو ما يساعد على سرعة بلوغها الأورجازم . و في الوقت ذاته نلجأ إلى ختان الإناث فلا نمنع الشهوة بقدر ما نعطل الوقت اللازم للوصول إلى الإشباع ، و هو ما يستدعي من الذكر بذل جهد مضاعف ، فتستحفل الأزمة ، و لا تمنع المخدرات النهاية المحتومة التي تشهد بأن عدد حالات الطلاق قد أصبح في بلادنا أكثر من حالات الزواج .
و بدلاً من المراجعة و اللجوء إلى الحلول العلمية وقفاً لمزيد من التمزق الأُسري الحادث ، و الانهيار القيمي الحاد ، يلجأ الرجل المهزوم سياسياً و إنسانياً و جنسياً إلى الحلول القديمة التي لم تحل شيئاً بقدر ما زادت من المشاكل ، فيحجب المرأة أو ينقبها أو يحبسها في البيت .
-4-
البُعد الاخلاقي
يضرب لنا القرآن مثلاً بقصة النبي يوسف و امرأة العزيز التي أثارت شهواتها مفاتن النبي المليح ، فظلت تطارده و تنصب له الكمائن و تتحايل عليه ليطفأ ثورة شهوتها المتقدة لهفاً عليه ، و هو ما يعني أن امرأة العزيز رأت في يوسف ما شغفها به حباً و كاد أن يهم بها لولا حرصه على عفته ، فحادثة الزنا لها طرفين إن امتنع أحدهما لم تقع ، كما حدث في القصة القرآنية بمحافظة يوسف على عفته . و أن الذي حرك شهوات امرأة العزيز و كسر عفتها هو رؤيتها لشاب مليح ، و هكذا لا تفهم كيف يكون الحجاب صانعاً لعفة المرأة ، لأن امرأة العزيز منتقبة كانت أم سافرة ، فإنها كانت ستشتهي الشاب المليح ، و لو لم يكن يوسف معصوماً بعفته لتمت الجريمة بفعل و تحرك و اشتشهاء امرأة العزيز .
و هنا أزعم أن النتائج المترتبة على تنقيب المرأة هي على عكس المراد منه بالمرة ، لأنه أوسع الأبواب للمرأة لكسر قيمة العفة و كل ما يرتبط بها من قيم ، النقاب هو الباب السحري إلى الرذيلة العلنية .
تعالوا نتفهم الموقف : هل سيقوم النقاب بإلغاء شهوات المرأة و يمنع رغبتها في الاتصال الجنسي بغريب عنها ؟ لقد أحاطنا القرآن علماً أن الشهوة – كما حدث مع امرأة العزيز- تأتي من العين و من المشاهده و المعاينة و الرؤية ، و النقاب لن يمنع كل هذا ، فالعين ترى و تزني كما في صحاح الأحاديث . و المرأة المختفية وراء نقابها سيتاح لها إطالة النظر و التمعن و التأمل في تقاطيع الشاب المليح فتتصاعد شهوتها و تتزايد مع استمرار التأمل الشهوي ، و هي مخفية بنقابها ، مطمئنة لعدم معرفة الناس لشخصيتها ، و هو ما يعطيها فرصة للتملي و التشهي مع مقبلات تخيلية للحالة الشهوية مما يرفع درجة الاشتهاء ، ليدفعها للاحترار النزوى لمحاولة الإغواء دون خشية من فضيحة ، و إن صادفها صد من الشاب المليح لعفته مثل يوسف ، فهي آمنة و لن يذهب ليحكي عن التي غازلته و هو لا يعرف من هي ، بينما لو كانت سافرة و نظرت إلى مليح باشتهاء سيلاحظها الناس ، مما يؤدي إلى حيائها و خجلها و الحرص على سمعتها ، مما يردعها عن الاستمرار في النظر الشهوي . فالعيون حولها تحسب عليها الشاردة و الواردة لذلك تحرص على أن تبرز كصورة كاملة للعفاف . ألا ترون معي أن النقاب هو تمكين للمرأة من هتك ستار العفة و ليس العكس ، بل هو أيسر السبل إلى الرذيلة .
و إذا كان الحجاب و النقاب من شئون الدين ، فإن الدين أكمل من أن يضع مثل هذه الشروط المعكوسة التي تؤدي إلى نتائج عكسية . كذلك لا يليق بأي دين أن يكيل بمكيالين ليحمي طرفاً دون طرف ، فيحجب المرأة و ينقبها و لا يحجب الرجل و ينقبه ، و الله ليس بغافل عن شهوات خليقته و أوضح لنا ذلك في قصة يوسف و امرأة العزيز ،إن الدين لا يحمي فريقاً من اتباعه دون فريق ، و لا يميز بين أتباعه و لا يستقوى على الأضعف ظاناً أنه يردعه بينما هو يدفعه دفعاً إلى الرذيلة .
و إذا كان الدين يضع قيوداً على النساء طلباً للعفة فيلزم أن يضع مقابل ذلك على الرجل تحقيقاً للعدالة ، لأن الشهوة عند كليهما ، و لأن العفة يجب أن تكون لكليهما ، و لأن كسر العفة بالزنا يلزمه كليهما ، و أن الحدود تقع على كليهما ، و لن يحمل طرف مسئولية جريمة مشتركة بين اثنين دون الطرف الآخر .
يضاف إلى هذا خاصية خلقية تجعل النقاب طريقاً مفروشاً باليسر و السرية إلى الرذيلة ، هو أن المرأة لا تفشل في اتمام الفعل الجنسي فهي قابلة له طول الوقت ، لعدم حاجتها حاجة الذكر للانتعاظ ، هي فقط تعطي الإشارة التي تعرب للرجل عن رغبتها ، و تترك له باقي المهمة التي قد ينجح فيها أو يفشل حسب ظروفه الصحية و النفسية و مدى هدوءه أو توتره ، فالرجل قد يفشل ، أما هي فلا تفشل ، قد تقع الجريمة من الرجل أو قد لا تقع حسب حالته ، لكنها واقعة حتماً متى أرادت المرأة إلا مع من رأى برهان ربه و حرص على عفته كما حدث مع يوسف الصديق .
إن إكراه المرأة بحبسها في البيت ، أو دخولها الدير رهبنة يحافظ على العفة لعدم وجود ذكر و الرؤية و الاشتهاء ، لذلك يجب أن تكون العفة قناعة داخلية بقيمتها بوازع من ضمير يتم تربيته في الطفولة المبكرة ، فيصنع العفة الحقيقية ، لأني عندما أمنع نفسي عن لذة متاحة غير علنية فإني أكون مقتدياً بالصديق يوسف ، لدي عفة داخلية تمنعني عن امتهان نفسي بفعل شهوي غير قيمي أخلاقياً . يهين الرقي الأخلاقي لإنسانيتي ، و عندما يقول أحدهم اليوم أن الحجاب عفة فإنه يكون أول طاعن في الدين ، لأنه يصور ديننا غير قادر بذاته و ممكناته البرهانية على خلق عفة داخلية لدى المؤمنين ، هو كمن يقول أن قرآنه و حديثه و كل إيمانه غير قادر على خلق عفة للمؤمنات . و هو ما يعني أن رجال الصحوة قد أمسوا غير واثقين فى أنفسهم بالمرة ، وأيضا غير واثقين فى نسائهم ، و غير واثقين من قدرة الدين على ردعهن ، فذهبن إلى الأداة الإكراهية الخارجية .
رغم أن الفلاحة المصرية كانت تتعرى و هي تعمل في طين الأرض الطاهرة ، و أن المعلمة المصرية كانت تقف في الأسواق سافرة متبرجة تدير أعمالاً و تشغل أموالاً و رجالاً عتاة جبابرة ، و عفتها محمية بذاتها لا يجرؤ رجل على خدشها ، بينما المنتقبة في قصور الحريم ظلت في الحكي الشعبي الدرامي لعازف الربابة ، رمزاً لإنعدام العفة في سعيها لاشباع شهواتها مع أي إنسان حتى لو كان من عبيدها ، بل يصل المدى إلى معاشرة الحيوان طلباً للاشباع كما في الملاحم الشعبية و ألف ليلة و ليلة .
ملحوظة أخرى لا تفوت فاحص ، هى ما صاحب الصحوة و حجابها و نقابها من ألوان زواج غريبة ، و الأغرب أنها مشروعة بفتاوي مشايخنا ، رغم أنها لا تنشئ أسرة و هي الهدف من الزواج ، و ذلك مثل الزواج العرفي و الهبة و المؤقت و السياحي و المصياف و المسيار و الفريند ، و هي ألوان لم تعهدها مصر قبل اصحوة ، و ما كانت الواحدة من أمهاتنا أو جداتنا السافرات تقبل عرضاً بزواج كهذا ، لأنه كان يعني الإهانة الكاملة للعرض و الشرف و العفة و الكرامة الإنسانية ، و لو قال أحدهم بمثل هذا الزواج حينها لرموه بألف نعل و نعل .
إن العفة الحقيقية تكون عندما تكون السبل ميسرة إلى كسرها ، لكننا لا نكسرها احتراماً لذواتنا الآدمية الراقية ، العفة الحقيقية تحدث عندما توجد المثيرات و نعف عنها كما عف يوسف ، و إن انهيار العفة في بلادنا جاءنا ضمن منظومة كاملة ، تبدأ بأن الرزق لا حيلة فيه لأنه بيد الله مهما تكاثرنا و تناسلنا ، فضاعت الأسرة و تربى الأبناء في الشوارع ، و لم يتلقوا الجرعة التربوية اللازمة لنقش القيم في أرواحهم و هي بعد غضة تتشكل .
لذلك جاء معه بالحجاب و النقاب و معه ألوان فضائحية لأنواع زواج هي إهانة بكل المعاني لأي امرأة محترمة مسلمة كانت أو غير مسلمة و لمعنى الزواج نفسه . إن قيمة امتناعي عن الخمر لا تكون قيمة إلا عندما يتوافر الماء و الخمر في السوق فأختار الماء صوناً لآدميتي من ارتكاب زلل قد يهينه السُكر ، أما عندما لا تتوفر الخمر بجوار الماء فلا مجال للحديث عن قيمة إنما عن قمع فقط .
و لأن الثقافة الجنسية في بلادنا لا تعدو متعة الفعل الشهوي للذكر وحده ، دون لوازم أخرى ضرورية لصنع الحب السليم بين الطرفين ، فإن الزواج يقوم أساساً على المذاهب السنية الأربعة مع الجعفري على مبدأ المتعة و الاستمتاع بالأنثى ، لذلك يقال عنها متاع ، و يقال أيضاً للأريكة و الحمار و الفرس متاع ، و يقال عنها هي الفراش ، فهي ليست طرفاً له أي دور في الموضوع ، هي محل متعة الرجل أما إنسانيتها و كرامتها و حالتها النفسية و صحتها الجنسية كل هذا غير موجود في موضوع الزواج بالذات ، لكنه موجود في حالة الزنى حيث بإمكانها أن تقبل أو ترفض ، أما في الزواج فالجنس جبري على المرأة حتى لو كانت على التنور أو فوق ظهر قثب . لذلك يكوت الزنا هو الألذ لأنة قام على اختيار ورغبة ، لذلك يجوز لنا الاعتداء على طفولتها البريئة بالختان الجائر أو غير الجائر كعقوبة مُقدمة ثم نعزلها بالحجاب و النقاب لحفظ عفتها ، بينما هي طوال الوقت في حالة تهيج دائم بزوجها الذي يمارس دون اشباع لغريزتها المختونة لبلوغ الأورجازم ، و لا تصله إلا بشق أنفاس الزوج حتى الموت .
و المرأة منقبة أو غير منقبة عندما تبحث عن إشباع الغريزة لا تخضع في بحثها لما يخضع له الزواج من شروط التكافؤ و المستوى الإقتصادي و التوافق العائلي و العلنية و المهر و الحسب و النسب و الدين ، لذلك سترتمي في أحضان القادر على الإشباع لأن الزواج لم يشبع بضعها المختون ، و المنتقبة أولى بالقدرة على ذلك لإستتارها ، حتى أن يهود زمن البطاركة الأوائل كان لديهم عرفاً مسنوناً بعدم كشف وجه الداعرة المنتقبة حتى لا يعرفها أحد ستراًً لها ، و هو ما تجده في قصة بوعز و تامارا عندما كان النقاب زياً خاصاُ بالعاهرات يُعرفن به فكانت المنتقبة تعلن بنقابها عن الرغبة فى لفاء جنسى سريع ومؤقت وينتهى دون ان يعرف الذكر من كانت شريكتة فى الفعل ، أما العفيفات فكُن هن السافرات . لذلك إن وجدت الشهوة المقموعة بأداة خارجية الفرصة ، فستنطلق دون أى شروط بلا رابط و لا ضابط لأن المنتقبة مستورة مطمئنة البال هادئة الجأش ، لأنها غير محمية و غير مصونة بتربية الضمير الأخلاقي في الطفولة ناهيك عن قمعها بالنقاب .
تعالوا معي ننظر إلى نساءنا المسلمات المهاجرات إلى بلاد الغرب العاري ، ستجد أن ما يصون عفة نساءنا هناك ليس الحجاب و لا النقاب ، إنما يصونها الوازع الأخلاقي الذي تربي عليه الشارع الأوروبي ، هذا الشارع يغص بالفاتنات الرشيقات الحمراوات البضات مليحات القد الرقيقات . . قل ما شئت أو تَغنى ، و مع ذلك لا يتعرضن مع ملبسهن الكاشف للاعتداء ، فماذا عن الرجل المسلم في شارع الفاتنات الغربي ؟ ما بالة لايفعل معهن ما كان يفعلة مع بنات وطنة و لا يعتدي عليهن و لا يتجرأ على التحرش بهن و لو لفظاَ ، لأن المجتمع حوله سيتدخل فوراً ناهيك عن الردع القانوني المُغلظ ، لذلك هو بدوره يعف عن الفاتنات ولو مُكرها ، لديهم أمن و سلام اجتماعي رغم أنهم لا يملكون هيئة للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ؟ !! و من لديهن مثل تلك الهيئة يختطفن الرجال الملاح .
و لأننا أصحاب الأعاجيب ، فجأة تصيب العدوى مسلمي المهجر ليرفعوا في أوروبا ذات الشعارات بالحجاب والنقاب ( الحجاب و النقاب عفة و طهارة ) . فإذا كان النقاب يخلق لدى المرأة العفة ، و أي امرأة في الدنيا لو سألتها ستقول لك أنها تطلب العفة ، فلا يبقى سوى أن يقنع المسلمون مجتمعات مهجرهم بقيمة النقاب و فوائده ، كما اقتنعونا بسياراتهم و طائرتهم و أزيائهم كالبدلة و الكرافته ، لماذا لا يقدم المسلمون لبلاد مهجرهم الأدلة و البراهين المقنعة على عائد هذا الزي الإسلامي و ما سيحققه من فوائد مُنتظره ، و ربما تنمكنوا من إقناع أهل الغرب كما اقنعونا ، أم أنهم شطار و لهاليب معنا وحدنا ؟ و ربما اقتبس الغربيون النقاب كظاهرة صحية تدل على سلامة المجتمع و أنه مستقر عقلياً و أخلاقياً ، حتى نصحو يوماً على نصر إسلامي و فتح قريب ، فنجد نساء اليابان و أمريكا و الصين و قد تنقبن ، و نكون قد فتحناهم دون غزو و قتال و دمار ، و هي كما نعلم شعوب تتميز بالقابلية للتعلم و الأخذ بالجديد لكن بشرط الاقناع و البرهان و الدليل .
مسلموا المهجر لا هم اندمجوا في ثقافته و لا هم علموهم ثقافتنا ، و مع ذلك يصرون هناك على إثبات الزي الإسلامي الموحد ، تمييزاً طائفياً للإشارة إلى التميز بالإسلام ، لأنه ليس لديه ما يفخر به من إنجاز يديه ، فيفخر بدينه الذي لم يختره و ربما لا يعرفه . و لا يبقى سوى أن ارتداء هذه الأزياء في الغرب هو تحدي للأمم المضيفة و لقواعدها ، لإثبات تميز ديني إضافة للتميز الطبقي والتميز الخلقي ، لأنه إذا كان القصد من النقاب و الحجاب هو العفة فمعناه اتهام لكل المجتمع الغربي بالعهر و الدعارة ، و أن العفة و الطهارة ميزة طائفية تخص نساء المسلمات وحدهن . هذا رغم أن المجتمع الأوروبي يعمل بوازعه الداخلي الذي يحترم الأخر و حرياته و عقيدته ولا يقبل أى تمييز بين أعضائة ، لذلك لا يعتدي الرجل الغربي على المسلمة ليجرح عفتها و طهارتها حتى لو سارت في الطريق العام ملط زلط . حضارة الغرب آمنة بالوازع الأخلاقي الضميري ، و الأوروبي لن يترك فاتنات قومه ليغازل نساءنا ( عافاك الله ؟ !! ) ، و المعنى أن الزوج المسلم لن يخشى على زوجته أن يلتهمها الرجال الأوروبيون ، بل العكس هو الممكن حدوثه ، أن تلتهم المسلمة الأوروبي المليح كما حاولت امرأة العزيز. لذلك فإن الحجاب و النقاب في أوروبا هو شعار سياسي تمييزي طائفي طبقي بدائي ، لا يحقق عفة و لا يصنع طهارة كما يقول الإعلان الترويجي الكاذب و الشرير .
هو في أوروبا شعار تمييزي يتعالى على أهل البلاد بفضيلة وهمية ، و هو هارب إلى جنة بلادهم من جحيم بلاده . و إذا كنا نعلم بالإحصاءات المعلنة في بلادنا حجم حوادث الشرف ، سنجد أن الحجاب أو النقاب لم يخلق عفة في بلادنا ، فهل بإمكانه أن يخلقها للأوروبيات ؟
و إذا كانت العفة في الغرب لا تقوم على استخدام أدوات خارجية حاجبة او مانعة ، و إنما تقوم على الضمير الأخلاقي ، فلماذا تلبس المسلمة الحجاب هناك او النقاب و تستشهد في سبيله ، مادام الغربي لن يشتهيها و لن يغازلها و ستظل محتفظة بعفتها ؟ حجابنا في أوروبا عودة للعصور الوسطى ، إلى زمن التمييز بين الناس على أساس ديني ، عندما كان اليهودي يلزم بالزي الأصفر ، و القبطي بالصليب الخشبي الثقيل و حلق مقدمة رأسه و لبس خفي نعل بلونين مختلفين ، و المسلم يلبس الأبيض و يعاقب الذمي الذي يلبس العمامة البيضاء بالجلد لأنه أراد الارتقاء لطبقة العربي المسلم تزييفاً ، كمن زور بطاقته الشخصية ، و الحجاب و النقاب من زمن كاننت فيه الولاءات دينية و الحروب دينية و الهويات دينية و الحكومات دينية ، فكان الدين هو سيد الموقف في العصور المظلمة من تاريخ الإنسانية.
و هذا كله ما تعلمته مصر من الدرس الأوروبي منذ 1919 و حتى نهاية الستينات في القرن الماضي ، لذلك نعم الشارع المصري بالأمان الأخلاقي دون شعارات بترودولارية ، احترم طرفا المجتمع بعضهما و اعترف كل منهما بحقوق الآخر ، و احترموا المشترك الاجتماعي بينهم كالحريات الشخصية ، لذلك كانت المصرية المسلمة و المسيحية و اليهودية و بنات الخواجات يسرن في مصر بلا حجاب و لا نقاب ، آمنات على عفتهن ، و لم نر من السافرات فُجراً إلا بالنسب الضئيلة المسموح بها في أي مجتمع سليم . و لو قلنا أنهن كن فاجرات لسفورهن فكأننا نطعن في شرف المجتمع كله ، لقد أدرك المجتمع حينذاك أن الحجاب و النقاب أو البيشة و اليشمك قد أديا دورهما بتعريف المجتمع معنى العفة ، و تم المراد من رب العباد ، و عاد الرجال واثقون بنسائهم و النساء واثقات برجالهن ، و أن كليهما فاضل كريم عفيف ليس بحاجة إلى الأداة القامعة التي أدت وظيفتها و انتهى أمرها ، فليس من المقبول أن يظل مكسور اليد ملفوفاً بالجبيرة بعد شفائه . عرف المجتمع المصري الواثق من نفسه أن نسائه مكتفيات و لسن بحاجة لعفة خارجية ، فخلعت أمهاتنا و جداتنا الأداة القامعة تعبيراً عن رأي الرجال فيهن ، و كانوا نعم الرجال أفعالاً و أقوالاً ، كانوا رجال النهضة و التنوير ، و كن نعم الأمهات و الجدات . لقد كانت العفة في بلادنا قبل الصحوة السبعينية مصانة و بألف خير ، و عندما بدأ الفرض و التدخل الخارجي تراجع الضمير و أخلى نفسه من المسئولية الأخلاقية برضى و موافقة المجتمع ليسلمها لمشايخ الوهابية .
ثم أنه إذا كان لابد من استخدام أداة خارجية لصون العفة ، فستكون خياطة الفرج هي الأنجح و ربما كان حزام العفة هو الأكثر نجاعة ، لأن النقاب يسمح للمرأة بالرؤية و الاشتهاء ، و رجال اليوم ليسوا كيوسف الصديق و لن يروا برهان ربهم ، لذلك يصبح الحل الأمثل هو خزق عيون النساء و إصابتهن بالعمى ، و ربما يستحسن البدء بإجراء تلك الجراحة الهامة مبكراً في سن الطفولة مع عملية الختان في يوم واحد ، أو أن يحتجب الرجال بدورهم تحقيقاً للعفة في الطرفين . أو أن نطلب من صديقتنا الصين التي تتفهم مواقفنا و تصنع لنا كل متعلقات و أدوات التعبد من دلع أطفال المسلمين بفوانيس رمضان إلى بوصلة الكعبة و السجادة المؤذنة ، أن تصنع لنا قفلاً إسلامياً بأرقام سرية ، و ليكن الشعار الجديد هو ( قفل العفة ضمان و امان ) .
سادتي الفضلاء من تجار الدين السياسي في مصر المحروسة و أي مصر ، لو كان النقاب صانعاً للعفة ما أنجبت لنا نساء الجاهلية أبا بكر و عمراً و عثمان و طلحة و الزبير و حمزة و علي و غيرهم من خيرة رجال الدنيا و الدين ، لأن نساء الجاهلية كن سافرات ، و لما أنجبت لنا آمنة السافرة محمداً الصادق الأمين بتربيتها الجاهلية مثل كل هذه الأسماء العظيمة في تاريخنا ، و إن نساءاً ينجبن رجالاً كهؤلاء لا شك كُن عفيفات رغم الجاهلية ، فإذا كان المجتمع الجاهلي قد أنجز عفة ضميرية بدون نقاب ، بل كن حاسرات متبرجات ، و مع ذلك حفظت عفتهن النطف الأصيلة ، و ربتهم على القيم الأصيلة ، أفلا يكفل لنا الإيمان بالإسلام ذلك ؟
سادتنا المشايخ المسيسين ، نحن نرى أن تقاليد مجتمعنا المصري وحدها كافية (كما كانت و كما ستظل) هي الضامن للأمان الاجتماعي و العفة و الخلق الرفيع ، شرط أن تعود مصرُ . . . مصراً .
الحوار المتمدن