طيب تيزيني يدعو لأن يكون عام 2010 عام «الحوار الوطني السوري»
«.. اشتغل كما اشتغل إبليس حينما يجعل شيئاً من لا شيء ولا شيء من شيء..» هكذا يصف طيب تيزيني المفكر والفيلسوف السوري «النظام العالمي الجديد» معتبراً أن هذا «النظام» رغم هزيمته النسبية رفع مشكلات العالم إلى سقفها الأعلى، ذلك أنه غيّر مفهوم الزمن وقلّصه للحد الأقصى فأصبح الفعل وردّ الفعل في لحظة واحدة.. جاء ذلك ضمن حديث لطيب تيزيني بعنوان «المشروع النهضوي التنويري العربي بين ضرورة قصوى وواقع مهشم» شهدته مؤخراً قاعة محاضرات المركز الثقافي العربي بدمشق، وفيه اعتبر تيزيني أن محاربة النظام العولمي تخص المرأة أكثر من الرجل، داعياً إلى العودة إلى التراث ليس كبديل من الحاضر إنما بمقياس «الاستلهام والتبني» مشدداً على أن «الحاضر أولاً».
«المراوغة» و«المواربة».. والتاريخ لم يغلق
انتقادات كثيرة يواجهها المفكر تيزيني عندما يتحدث حول «المشروع النهضوي التنويري العربي» تقول له: كيف تزعم أنك تحاول أن تقدم شيئاً في هذا المشروع في وقت أن الكثير الكثير ضده؟ لكن تيزيني وبكثير من العلم والأدلة والبراهين وأمامه التاريخ «المراوغ» تارة و«الموارب» تارة أخرى و«المفتوح» وغير «المغلق» يقول حقائق ويبرهن عليها، لكن الأمر أبداً ليس على وجه من السهولة أو البساطة فالحديث عن «المشروع النهضوي التنويري العربي» – تبعاً لتيزيني- بقدر ما أصبح راهناً كل الراهنية تعقّد أكثر وأكثر.. وبقدر ما تفصح عن نفسها ضرورات هذا المشروع نكتشف أن ثمة سعياً لتطيل، لكن وفي الوقت ذاته وانطلاقاً من «مراوغة التاريخ» ثمة إدراك أن «التاريخ مفتوح» وعلينا أن نسعى إلى موطئ القدم الذي ننطلق منه.. ويرى تيزيني أن الإشكالية تكمن في كيفية تحوّل «الفعل الإمكاني» إلى «فعل حقيقي» وأن مقولة «التاريخ أغلق» أو «انتهى» التي أطلقها كثر قبل أن يكررها فوكوياما – وماتوا دون أن يدركوا أن نظرياتهم خاطئة وزائفة، من هنا يقول تيزيني يمكن الانطلاق لفكرة التأسيس للمشروع النهضوي التي برأيه يستدعي مجموعة من العناصر «فالمشروع لا ينشأ من صفر، إنه ضمن السياق التاريخي» معتبراً شعار «الأسلاف لم يتركوا شيئاً للأخلاف» شعاراً زائفاً فـ«مثلما فعل السابقون قد يفعل اللاحقون». و«بقدر ما هم فاعلون فنحن فاعلون» وهنا «العمق التاريخي» وثمة تواصل بين مجموعات من البشر سابقاً وراهناً ولاحقاً يدركون أن استمرارهم يصل في لحظة ما إلى نقطة الصفر فإما الاستمرار أو الانزياح وهنا يكمن عنصر «الإرادة» وتثبت «الحتمية.. الميكانيكية.. الآلية» خطأها لأن «التاريخ هو فعل نمطين من البشر هما:
الذات (الفاعل) والموضوع (المفعول) والمفعول يصبح فاعلاً والعكس» والوجود الحضاري للأمة العربية دلّل على أنها «فاعلة» ناهيك عن أنها «مبدعة».. إذاً «التاريخ لا يأتي عفوياً» وثمة فكرة ذات أهمية خاصة في مشروع النهضة العربية برأي تيزيني هي أن «العرب يمتلكون أسئلة ويمتلكون أجوبة» مشاطراً الرأي هنا لطه حسين ومعارضاً لأندريه جيد إذ كتب الأخير «الباب الضيق» بـ«عقلية المستشرقين» حول إمكانيات الشعوب وإمكانيات التحول سلباً وإيجاباً..
«الثالوث المقدس».. والغزاة لا يصنعون نهضات
وفي الحديث عن «المشروع النهضوي التنويري العربي» يعتبر المفكر تيزيني أن «الوعي» و«الإرادة» و«المعرفة» عناصر مهمة كثالوث مقدس يمكن أن تعمق ويضاف إليها، وأن «التجربة العالمية دللت على أن غياب هذه العناصر أو واحد منها قد يحدث شرخاً في جسد ما تريد أن تنجزه»، متسائلاً: «هل هذه العناصر موجودة في العالم العربي»؟ واصفاً تجربة الوحدة المصرية السورية أكثر التجارب «فظاعة» ذلك أن الشرط الوحيد على قيامها عام 1958 كان «إلغاء المجتمع السياسي» أي المجتمع الذي عليه أن «يحمي الوحدة» فلم يطل الأمر حين اكتشف الناس فشل الوحدة وهنا «ناس في السياسة دللوا على غباء في السياسة هم وقعوا فيه» وينفي تيزيني أن «النهضة العربية» حدثت في القرن التاسع عشر وأن نابليون قدم صدمات على هذا التاريخ فـ«الغزاة لا يصنعون حضارات ونهضات» ومشروع محمد علي بدأ مبكراً وكان ينظر إلى المستقبل وسوّق مشروعه إبراهيم باشا من بعده.
التعددية من طبائع الكون.. والسياسيون لا يفضلون
ومجدداً يتساءل تيزيني أما زال الأمر محتملاً؟ ويرى في السؤال الكثير من الأسى والألم والتشاؤم ورغم ذلك يقول نعم حتى لو لم تعرف ما عليك إنجازه لأنك تدرك أن التاريخ لا يغلق والسؤال أين بقي التاريخ بشكل موارب؟ ويقدم المفكر السوري تعريفاً للنظام العالمي الجديد: «نظام اقتصادي وسياسي واجتماعي يسعى إلى ابتلاع الطبيعة والبشر كما يسعى إلى هضمهم وتمثلهم وإخراجهم سلعاً» ويخالف تيزيني كلاً من: صادق جلال العظم، محمد عابد الجابري وبرهان غليون وخصوصاً هذا الأخير بقولهم: إن الدائرة تسير إلى النظام الجديد واتجاه إغلاقه وإنه على الشعوب إما أن تكتشف موطئ القدم وإما تعيش عبودية السوق العولمية ذلك أن السوق -حسب تيزيني- مفتوحة والأمر ليس «مصارعة» إنما «موازين قوى» ومن طبيعة هذه الموازين أن لا عنصر في الكون يحاصره فـ«التعددية من طبائع الكون والأمور» معقباً: «لكن السياسيين لا يفضلون ذلك» والأحادية سقطت لأنها غير محتملة، وعاد التاريخ لينتقم لنفسه ويفتح نفسه للجميع.
«الحطام» وحصان الداخل
إذاً -وتبعاً لتيزيني- عليك أن تكون ذكياً وأنت تمتلك علم التاريخ وعلم الحضارة وأن تضع بعين الاعتبار والاهتمام والامتلاك: الوعي، الإرادة، الفعل.. فالواقع العربي أطلقوا عليه مصطلح «الحطام» إنما هو «الحطام المفتوح» وعلينا أن نكتشف من أين نبدأ ونوسع دائرة الفعل.. لكن الرهان- يشدد تيزيني- هو على الداخل «فلا يفعل خارج بداخل إلا عبر اختراقه» والمثال هنا «نابليون» المنقذ من «المماليك الكفار» يوم جاء الإسكندرية فأراد بذلك أن يمتطي حصان الداخل فالكثير الكثير برأي تيزيني يبدأ بالقليل القليل (إرادة، فعل، معرفة) واكتشاف الرهان التاريخي.. اكتشاف أسئلة جديدة والإجابة عنها، فاكتشاف الجديد مرتهن بالأسئلة السابقة وحلها.. وها نحن أمام نمط جديد من المشكلات «المركبة» تعود في تاريخها إلى أواخر القرن الثامن عشر.. لكن هناك الأخطر!! هناك الذي هيمن.. والآن تأتي العولمة وسعي «الابتلاع».. و«السلع».
الاندغام.. والموت السريري
انطلاقاً من العولمة والتعريف الذي ساقه فإن طيب تيزيني يتساءل ما المطلوب من المرأة العربية عولمياً؟ مذكراً بما نراه في «الفضائيات» من ضرورة إعادة المجتمع باتجاه المجتمع السوقي بوصفها مسوِّقه ومسوَّقة وموقع الرجل «الديوث الأعظم» إنه سينجز هذه المهمة التاريخية وثمة ارتفاع كبير للذين يندغمون اندغاماً كلياً في إخراج المرأة من هويتها التاريخية وإعادتها إلى جسديتها ككيان بيولوجي لتعيش حالة جديدة ضمن السوق، ويعقب المفكر السوري: لاحظوا ما يحدث وترقبوا ما سيحدث.. النظام الجديد وضع إستراتيجيته كلياً والرهان لم يعد باتجاه واحد وثمة عناصر أخرى فاعلة قد تستطيع أن تكون نداً للنظام الجديد.. وهذا في طور الفعل.
أما من أين نبدأ؟ فيقول تيزيني: نبدأ بالممكن، معقباً: لماذا لا نتحدث عن مشروع الثورة أو الحركة الثورية معلناً عن اجتهاد توصل إليه: إن فكرة الثورة ليست واردة الآن لأنها تقوم على حامل أو حوامل: اجتماعية ثقافية، سياسية وجموع الملايين يدخلون في موت سريري والعالم ليس مهيأ لمشروعات ثورية في العالم الثالث، ويرى تيزيني أن الجماهير غابت تحت وطأة المليارات والعولمة وهذا يتصدى له المشروع بالعودة إلى الأصل كحامل اجتماعي، أما السياسة فمن الذي يمارسها وقد سحبت السياسة لتكرس الكرة وكل أشكال الرياضات الأخرى وهذا فعل جديد ومعقد.. الحامل السياسي هو المتنور القومي الوطني الديمقراطي الذي يأخذ بالتعددية والأفكار التي تستظل بالوطن ويرى المفكر السوري أن الحكم الإيديولوجي أو فعلها الحاسم يتراجع ليحل محلها الناس جميعاً، داعياً إلى ضرورة أن نشتبك بالعمل ونعيد البناء ونسعى إلى تطوير الإصلاح في (من) المدرسة، الجامعة.. المؤسسة الاقتصادية.. إلخ فالمشروع هو الباقي ويبقى معه من ينجزه وهو الفخر للجميع.. وثمة سؤال «التقدم» وسؤال «الوجود» وسؤال «التاريخ» ولا يوجد «غد» والغد يتناقص ذلك «أن ما لم تحققه اليوم لن تتاح لك إمكانية إنجازه غداً».
التراث الرائع.. والبؤس الراهن
وجواباً عن سؤال: من أين نبدأ؟ يرى تيزيني أن ثمة أجوبة متعددة: يمكن أن نبدأ هنا وعيننا هناك بمعنى الرؤية الشمولية والقدرة على «التضايف» والبدء مفتوح ولا بد أن نأخذ بالفكرة، إنها السياقات التاريخية التي تحدث التحولات، أما قضية التراث فتبرز في التحركات التاريخية الكبرى وتفرض نفسها دائماً، وخصوصاً لدى الشعوب التي تمتلك تراثاً رائعاً وبؤساً راهناً.
ويختتم المفكر الفيلسوف السوري طيب تيزيني حديثه بالقول: إن المرأة الآن مدعوة تحت قبضة النظام العولمي العودة إلى مرحلة الحريم.. وبصورة حديثة، لاحظوا المحطات المملوءة بالموبقات، إذ لا كرامة للمرأة عندما تساوي الجسد، وعندما يتم إعادتها إلى جسدها وتجريدها من الإنسان كأعظم ما في التاريخ وإبقاؤها جسداً.. ودعا تيزيني إلى عقد مؤتمر وطني في سورية كضرورة وخطوة فاعلة في دلالاته ينظر في المسائل كلها.. معتبراً أن الأخطاء التي تحدث بين الناس «شرعية وحقيقية» لأنهم يتكلمون بـ«الومأ».. عليك أن تتحدث بكلامك العربي الصريح والعلمي..، حينها تتلاشى كل الأخطاء، فثمة أخطاء ملفقة بالمعنى الاجتماعي.. والحوار الديمقراطي سيد الأحكام، مقترحاً أن يكون العام الجديد «عام الحوار الوطني السوري».
علي الحسن – الوطن