الحريري ـ دمشق: بين الحقّ الشخصي والمصالحة السياسيّة
نقولا ناصيف
كانت زيارة دمشق أول بناء في علاقة بين رجلين كلاهما لا يعرف عن الآخر إلا صورة قاتمة ومنفّرة ولّدت عداءً حاداً وضع البلدين وجهاً لوجه. ورغم أن تطبيع علاقة الأسد بالحريري، والحريري بالأسد، عُدّ الحدث، فإن هذا التطبيع آل إلى سلسلة جديدة من الوقائع ستحكم في المدى المنظور العلاقات اللبنانية ـــــ السورية.
أولها، بعث الروح في المجلس الأعلى السوري ـــــ اللبناني إطاراً وحيداً نافذاً إلى الآن لتنظيم علاقات البلدين. وأعطت المخابرة التي أجراها وزير الخارجية السوري وليد المعلم بالأمين العام للمجلس الأعلى نصري خوري لمواكبة التحقيقات في إطلاق النار على باص دير عمار أمس، دليلاً إضافياً على استمرار المجلس في عمله بدمشق، من غير أن يصطدم بعراقيل في بيروت. فالأسد يستقبل خوري، وكذلك رئيس الجمهورية ميشال سليمان، للاطلاع على نتائج أعمال المجلس والمراحل التي يقطعها تنفيذ الاتفاقات. لم يعد المجلس الأعلى شأن الحكومتين اللبنانية والسورية فحسب، بل دخل في صلب اتفاق الرياض ودمشق على إدارة الاستقرار للبنان انطلاقاً من استقرار العلاقات اللبنانية ـــــ السورية. وكان في صلب محادثات أجراها الأمير عبد العزيز بن عبد الله، ابن العاهل السعودي، في دمشق في حزيران وتموز الماضيين توصلاً إلى تعاون سعودي ـــــ سوري حيال النزاع الناشب في لبنان. قضى الاتفاق بالمحافظة على المجلس الأعلى وفتح باب البحث في تعديل اتفاقات ثنائية يشكو منها لبنان وسوريا أو أحدهما.
ثانيها، أن الحريري ذهب إلى دمشق كرئيس للحكومة اللبنانية، فيما استقبله الأسد كزعيم سياسي كبير، وعامله، بعيداً من بعض أصول البروتوكول، تبعاً لهذه الصفة التي تضاعف عند الرئيس السوري من مكانة ضيفه، ولا تقلّلها كي تحصره في منصب رسمي يفتقر إلى الحرارة، ولم يكن ليستقبل أي رئيس حكومة آخر سواه بمثل هذه الحفاوة. في مطلق الأحوال لم يُضفِ الأسد على استقباله الرئيس فؤاد السنيورة في 31 تموز 2005 حفاوة مشابهة. لم تكن بالضرورة بعض المظاهر الشكلية المعبّرة، غير المألوفة في الغالب في صورة رئيس سوريا كالرئيس الراحل حافظ الأسد مزاوجاً الشدّة بالجدّة، أن يقود الأسد الابن السيارة وإلى جانبه الحريري الابن، وأن يشنكله ويحدّثه بحرارة ويتناول وإياه الفطور.
كان الوجه الآخر لهذا التقارب محاولة الرئيس السوري إبراز احترامه لضيفه، ومساعدته في تجاوز ما لم يكن في الحسبان حصوله بعد كل ما قيل في الأسد في الأعوام الخمسة المنصرمة، في العلن كما في السرّ. أراد أيضاً أن يُظهر للبنانيين تقديره لزعامة الحريري كي يساعده في الإمساك بشارعه في مرحلة هذا التحوّل. وهي الامتحان الأصعب للحريري. وبعدما قاد الشارع السنّي إلى حرب مع سوريا ومعاداتها على أنها قاتلة الحريري الأب، يتعيّن عليه قيادة هذا الشارع إلى المصالحة مع النظام السوري.
بدا واضحاً أيضاً أن الأسد لم ينظر إلى ضيفه أنه يقدّم أمامه أشقّ تنازل سياسي وشخصي يمكن أن يمرّ به من أجل أن ينجح في ترؤس الحكومة ويطوي المرحلة المنصرمة. وهو ما يحمل بعض المطّلعين عن قرب على توقع خطوات وإجراءات موازية من كلا الطرفين: اتخاذ دمشق مبادرات حيال لبنان في بعض الملفات العالقة كترسيم الحدود بين البلدين بدءاً من الشمال، وحيال الحريري خصوصاً في فتح أبواب التفاوض بينه وبين نظيره رئيس الحكومة السورية محمد ناجي العطري في نطاق العلاقات الثنائية، وتنظيف الحريري محيطه من المناوئين لدمشق أو على الأقل تجميد مناوأتهم لسوريا. ينسحب الأمر نفسه على تيار المستقبل.
ثالثها، نظر الحريري إلى العلاقات اللبنانية ـــــ السورية على اعتبار أنها مميّزة، وهي المرة الأولى التي يستخدم فيها هذا التعبير، بعدما درج على الكلام عن علاقات متساوية ومتكافئة وندّية وطبيعية. وبعدما شطب من البيان الوزاري كلمة الندّية، أضفى على علاقات البلدين الصفة التي تجعل الحريري، في نهاية المطاف، يحتكم إلى اتفاق الطائف في مقاربة العلاقات اللبنانية ـــــ السورية. فهو الوثيقة الرسمية الوحيدة التي تعتمد هذا التعبير، والوثيقة الوحيدة التي تنظّم علاقات البلدين من خلال مرجعين لا يزالان نافذين، ولم يستطع أي مسؤول لبناني منذ عام 2005 حتى الأحد الماضي حمل وزر المطالبة بإلغائهما: معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق والمجلس الأعلى السوري ـــــ اللبناني.
مذ بدأ التبادل الدبلوماسي بين البلدين دار جدل على إلغاء المجلس الأعلى، وقال البعض بعدم جدواه، بينما دافع مسؤولون لبنانيون وسوريون عن استمرار المجلس لأنه ذو مهمة مختلفة عن عمل السفارة. استشهد هؤلاء بأكثر من سابقة في العلاقات الفرنسية ـــــ الأوروبية والأوروبية ـــــ الأوروبية والعربية ـــــ العربية، أقربها اللجنة المشتركة العليا السورية ـــــ الأردنية التي لم يتوقف دورها إبان مرحلة فتور علاقات البلدين، ولا تزال تجتمع دورياً، واللجنة العليا المشتركة السورية ـــــ التركية التي اتخذت إجراءات حدودية وجمركية متقدّمة في تطوير علاقات دمشق بأنقرة. رافقت هذه السوابق علاقات دبلوماسية بين سوريا وتلك البلدان، من غير أن تتسم بالخصوصية التي تميّز العلاقات اللبنانية ـــــ السورية.رابعها، رغم دلالة إشارة أرسلها الحريري من دمشق عندما عقد الأحد مؤتمراً صحافياً في مقرّ السفارة اللبنانية، فإن هذه لم تكن هي التي نظّمت زيارته لسوريا، ولا كذلك المجلس الأعلى الذي تتبّع الاتصالات التي سبقتها. كان الأمير عبد العزيز بن عبد الله وراء الزيارة، وكان الملك السعودي بدوره وراء اللقاء الجامع في قصره في الرياض، في 12 كانون الأول عندما ذهب الحريري إلى المملكة بعد نيل حكومته الثقة، في أول تحرّك له كرئيس للحكومة خارج لبنان، فإذا باستقبال الملك له يحوط به عديّ ابن السيدة نازك أرملة الرئيس رفيق الحريري وأشقاء رئيس الحكومة خير تعبير عن مسألة لا تبدو للعيان بمثل بساطة اللقاء في القصر الملكي.
منح الملك عبد الله الحريري الغطاء السياسي للدور الجديد الذي يضطلع به على رأس الحكومة ومع سوريا خصوصاً، إلا أنه منحه أيضاً الغطاء العائلي الذي يجعل زيارة الحريري لدمشق مبرّرة ومتاحة، لكونه ليس وحده صاحب الحقّ الشخصي في دم والده الراحل. لأرملته وأبنائه الآخرين حقّ مماثل يقتضي أن يضيف إلى زيارة دمشق غطاءً عائلياً مغزاه ـــــ حتى إشعار آخر ـــــ تجميد الحقّ الشخصي إلى أن تقول المحكمة الدولية حكمها في قاتل الرئيس السابق للحكومة.
وكما ألبست العائلة الحريري الابن عباءة زعامة والده في اجتماع أبنائها برعاية الرياض الذي انتهى ببيان حمّله شرعية قيادة البيت صدر في 20 نيسان 2005، للعائلة حقّها في الصفح وعدمه طيّ صفحة الماضي واستجابة إرادة الملك، أو على الأقل تناسي الاتهام موقتاً. وحده الحريري دون سائر أشقائه كان في المواجهة المباشرة. حتى السيدة نازك والنائبة بهية الحريري لم تذهبا مذهبه في تلك المواجهة.
ولا يعكس هذا التحوّل إلا أهمية الاتفاق المعقود بين الرياض ودمشق على إدارة لبنان في المرحلة المقبلة، وضمان استقراره انطلاقاً من تطبيع كامل للعلاقات اللبنانية ـــــ السورية تمثّل تعبيراً حيّاً عن مصالح دمشق ونفوذها في هذا البلد. كانت الخطوة الأولى تجاهل انتخابات 7 حزيران، والثانية تحديد توازن القوى في مقاعد حكومة الوحدة الوطنية، والثالثة تأليف الحكومة، والرابعة زيارة الحريري لدمشق.
هكذا، حصل ما لم يكن يتوقعه المحيطون بالحريري، وهو فصل العلاقات اللبنانية ـــــ السورية عن المحكمة الدولية في اغتيال الحريري الأب. ولم يكن في مقدور أحد، كالعاهل السعودي، إحداث مثل هذا الفصل. كان سبّاقاً إليه عندما صالح الأسد في الكويت في كانون الثاني الماضي، وعندما زاره في دمشق أيلول الفائت، فكان أول مَن أطفأ الحقّ الشخصي في دم الرئيس الراحل، أو جمّده في انتظار قرار المحكمة الدولية. وله في هذا الحقّ ما للحريري والعائلة، إن لم يكن أكثر.
رهانا دمشق في المرحلة المقبلة: الحريري وعون
يكاد الرئيسان سعد الحريري وميشال عون يصبحان الرهانين الجدّيين الوحيدين الموثوق بهما لدى دمشق في المرحلة المقبلة. ومن خلالهما تريد مقاربة العلاقات السورية ـــــ اللبنانية. تريد استعادة الأول زعيماً لتيار سنّي كان في صلب حلفائها اللبنانيين حتى عام 2005.
وهي وإن تعرّفت إلى الحريري للمرة الأولى، فقد تمرّست طويلاً في نبض شارعه. على مرّ عقود العلاقات اللبنانية ـــــ السورية لزم الشارع السنّي الخيارات الإقليمية لدمشق. تريد أيضاً المحافظة على عون بعدما كان أعتى أعدائها، بنت معه تحالفاً سياسياً لا يخجل به الجنرال ولا يتفاداه. بذلك يكون الرئيس بشّار الأسد قد اختار توازناً جديداً للقوى بين الحريري وعون، يمثّل حزب الله والنائب سليمان فرنجيه جزءاً لا يتجزأ منه، لإدارة استقرار لبنان. استقبل الرجلين استقبالاً استثنائياً وعوّل على حرارة العلاقة الشخصية بكل منهما. ولكل منهما، في الموقف من سوريا، مشكلة مع جمهوره: الشارع السنّي يرفض دمشق بعد جريمة 2005، والشارع المسيحي لا يثق بنظامها.
الأخبار