مغامرة الحريري في دمشق
خالد الدخيل
فكرة زيارة سعد الحريري لبشار الأسد لها تاريخ يبدأ من لحظة اغتيال والده عام 2005، مرورا بالاغتيالات التي أعقبت ذلك، واتهام سوريا بالتورط في اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، ثم المحكمة الدولية، وإغلاق البرلمان، ثم اجتياح “حزب الله” لبيروت في السابع من مايو قبل الماضي، وانتهاءً بنتيجة الانتخابات البرلمانية اللبنانية الأخيرة. ولد الدور السياسي لسعد الحريري في اللحظات الأولى لهذا التاريخ. من جانبه، ورغم أنها بدأت قبل اغتيال رفيق الحريري بأربع سنوات، فإن رئاسة بشار الأسد أعيدت صياغتها تحت وطأة تداعيات هذا الاغتيال، وبشكل خاص لجهة علاقات سوريا بلبنان. لاحظ الفرق بين استخدام بشار للوجود السوري المكثف في لبنان عام 2004 لتمديد ولاية الرئيس السابق، إميل لحود، وبين سعيه وسعي حلفائه في لبنان لدفع سعد الحريري لزيارة الشام. ليس هناك من معنى حقيقي ومعقول لزيارة الحريري لسوريا خارج إطار هذا التاريخ.
لهذا السبب كان من المدهش أن سمح الزعيم السني الجديد لنفسه بالانزلاق إلى فكرة تولي رئاسة الحكومة بعد الفوز الكبير الذي حققه وحلفاؤه في الانتخابات البرلمانية. يعرف الحريري بأن هذا ما يريده السوريون، وهو ما يريده حلفاء سوريا أيضا. وهم يريدونه لأسباب تختلف بهذا القدر أو ذاك عن الأسباب التي ينطلق منها الحريري. ويعرف أيضا بأن مقتضيات أن تكون رئيسا للحكومة أن لا تجعل من التزاماتك وحقوقك الشخصية معيارا لإدارة علاقاتك مع الدول الأخرى. وهذا يصدق على سوريا أكثر من غيرها بحكم أنها البوابة البرية الوحيدة للبنان إلى العالم العربي. وقد كان الحريري صادقا عندما قال بأنه حين قرر أن يكون رئيسا للحكومة، قرر أيضا أن يزور سوريا بهدف تصحيح العلاقة معها بعد أربع سنوات من الخصومة القاسية. وهذا جيد ومطلوب في الأخير. لكن بالطريقة والتوقيت اللذين تم بهما سوف يبقي على التداخل بين الشخصي والسياسي، بين السياسي والجنائي. فالمحكمة الدولية لم تبدأ عملها بعد، والحريري طرف فيها. كيف ستكون العلاقة في هذه الحالة بين الحريري صاحب القضية في المحكمة، وبين الحريري رئيس الحكومة المسؤول عن المصلحة السياسية للبنان؟ لا يكفي القول بأن موضوع المحكمة أصبح شأنا مستقلا عن الوضع السياسي. لأنه منذ اللحظة الأولى لاغتيال رفيق الحريري، وجه الاتهام لسوريا، ولم يرفع حتى الآن. ومن حينها صار أحد أبرز أهداف الدبلوماسية السورية إسقاط هذا الاتهام على الأقل في بعده السياسي. ومن ثم فإن زيارة الحريري لدمشق تقع في هذا السياق، وليس أي سياق آخر. ليس دقيقا وصف الزيارة بأنها زيارة رئيس وزراء لبنان لسوريا، لأنها أولا وقبل كل شيء زيارة سعد الحريري لبشار الأسد. الهدف الأول منها توفير صك براءة للنظام السوري طال انتظاره. وهذا طبيعي لأنه لا يمكن أن يعطي هذا الصك إلا ابن القتيل. من جانبها، يبدو أن القيادة السورية اقتنعت أخيراً بأن صيغة العلاقة بين لبنان وسوريا لا يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه قبل الاغتيال. ما يعني أن صيغة أخرى يجب العمل على تحقيقها. لكن هذا غير ممكن من دون صك براءة.
كل ذلك مشروع ومطلوب، لكن كيف ومتى؟ هل اتخذ قرار سعد الحريري بتولي رئاسة الحكومة في الوقت غير المناسب، ولأسباب غير مناسبة أيضا؟ هل يتضمن هذا القرار شيئا من المغامرة تحت ضغط الطموح السياسي؟ الأرجح الآن أن الحريري سيجد نفسه في حالة امتحان، قد تكون قاسية، بين التزاماته وحقوقه الشخصية والأخلاقية في موضوع المحكمة الدولية، وبين التزاماته كرئيس للحكومة، بين تطلعه للعدالة وكشف المتورطين في اغتيال أبيه من ناحية، وبين طموحه السياسي في أن يكون زعيما يدخل التاريخ إلى جانب من سبقوه إلى ذلك، من ناحية أخرى. والأرجح أيضا أن الآخرين، لبنانيين وسوريين، سوف يعملون على توظيف هذه الحالة التي يجد الحريري نفسه فيها للضغط عليه، والحصول على تنازلات كثيرة منه، بل ربما استنزافه أيضا. وما حصل أثناء عملية تشكيل الحكومة، وأنها استمرت لأكثر من ثلاثة أشهر مؤشر واضح على ذلك. بل لعل ما حصل أثناء تلك العملية ليس إلا مقدمة لما هو أكثر في اتجاه الضغط والاستنزاف.
كان سعد هو الفائز الأكبر في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ويترأس أكبر كتلة برلمانية. وهو إلى جانب ذلك الابن الذي ورث عن أبيه الزعامة السياسية للطائفة السنية. ماذا لو احتفظ بموقعه هذا، وترك الوزارة لآخرين لا علاقة لهم بالتاريخ الذي شكل دوره السياسي؟ لا يمكن لأي مرشح تولي رئاسة الحكومة من دون موافقته، وثقة كتلته البرلمانية. كان بإمكانه المساهمة في إعادة صياغة علاقة لبنان مع سوريا من موقعه البرلماني الكبير. بل إن دوره هذا لو تمسك به لفرض أحقيته بتولي رئاسة الحكومة على الجميع، في ظروف مختلفة، ومن دون أن يجد نفسه في موقع المساومة والابتزاز.
بعد أن حصلت، هل يمكن أن تحل زيارة سعد الحريري لبشار الأسد عقدة سوريا مع لبنان؟ هناك من سيستغرب هذا الطرح متسائلا: وهل هناك عقدة سورية مع لبنان أصلا؟ وما هي هذه العقدة؟ لنبدأ بالسؤال الأخير. تتمثل العقدة السورية في حاجة “الشقيق” الأكبر والأقوى لـ”الشقيق” الأصغر والأضعف. وهذه مفارقة، خاصة وأن قادة دمشق يعتبرون هذه الحاجة من النوع الذي لا يمكن الاستغناء عنه ومهما كلف ذلك من ثمن. عناصر هذه الحاجة ثلاثة: وقوع منطقة الشام تحت الهيمنة العسكرية الإسرائيلية، ووقوع سوريا تحت حكم “البعث” الذي تسيطر عليه الأقلية العلوية، وعزلة سوريا في منطقة الشام. وما يزيد من حاجة سوريا للورقة اللبنانية أن الحكم فيها يفتقد حتى الآن لعناصر قوة الدولة الرئيسية: قدرات عسكرية تتناسب مع موقع سوريا، ومع احتياجاتها الأمنية، وقدرات اقتصادية توفر له ذراعا سياسيا خارج حدوده. إلى جانب ذلك، لا يملك الحكم السوري أيديولوجيا تسمح له بالتعبئة الشعبية حول النظام. حاجة النظام السوري للبنان في منطقة الشام تحولت إلى عقدة للجميع.
الغريب أن القدر لعب لعبته بين عائلة الحريري اللبنانية، وعائلة الأسد السورية فيما يتعلق بشأن الحكم. بشار ورث الحكم عن أبيه في دمشق، وسعد الحريري ورث الزعامة السنية، ورئاسة الحكومة عن أبيه في بيروت، لكن مع فارق. وراثة سعد تمت بآلية الانتخاب ومستتبعاتها الدستورية على خلفية الاغتيال. هي أقرب في ذلك، مع كل الاختلافات بين الحالتين، إلى وراثة جورج بوش الابن البيت الأبيض عن أبيه في واشنطن. هذا لايعني أن النظام السياسي في لبنان ديمقراطي. هو ليس كذلك على الإطلاق. أما وراثة بشار فهي تماما مثل توريث معاوية بن أبي سفيان الحكم لابنه يزيد، وفي دمشق أيضا، قبل حوالي أربعة عشر قرناً من الزمن. هل تضع مبادرة الحريري في اتجاه دمشق حدا لعقدة الشام، وتفتح أفقا لعلاقة مختلفة بين بلدين كثيرا ما اتشحت علاقتهما بالالتباس؟ لو حصل ذلك تكون مغامرة الحريري من النوع المحسوب بميزان الذهب. لكن بيروت لا تستطيع الرقص بمفردها.
الاتحاد