زيارة سوريا
زياد ماجد
كتبنا في هذا الباب منذ أسبوعين عن “زيارة سوريا” بوصفها صراع رمزيّات. وأشرنا الى شروط ينبغي توفّرها كي لا تكون زيارة الحريري مجرد إنجاز للنظام السوري في الحقل الرمزي يضاف الى “نجاحه” السياسي في فكّ عزلته نتيجة الانفتاح الفرنسي والأوروبي عليه، ونتيجة المصالحة السعودية له، ونتيجة دعمه المباشر من قوّتين إقليميتين هما إيران وتركيا، إضافة الى تفضيل القوة الإقليمية الثالثة، أي إسرائيل، له على “المجهول” وتحييدها إياه في حملاتها السياسية والديبلوماسية.
وإذ يمكن القول إن بعض الإجراءات خفّفت من الأضرار على الزائر (كمثل وصوله بالجو وليس بالبر على عادة زيارات “المسؤولين” اللبنانيين في أيام الوصاية الغابرة، وكمثل عقد مؤتمره الصحفي في سفارة لبنان “المُنتزعة” وليس في قصر مضيفه)، إلا أنه يصعب نفي تحقيق النظام السوري تقدّماً “رمزياً” عبّرت عنه صور اللقاء ومجاملاته وبعض العبارات المستخدمة عقبه. كما عبّر عنه عدم التطرّق العلني الى قضايا ستظلّ جدول أعمال للعلاقات اللبنانية السورية في الفترة المقبلة، وسنشير إليها لاحقاً.
على أن ما نريد التعقيب عليه، هو ما رافق الزيارة من تعليقات، أبرز ما فيها ينطلق من الخفّة السياسية (المعطوفة على المبالغات التي تحدّث عنها حازم صاغية في مقاله أمس) إن شماتةً بالزائر وجمهوره، أو مكابرة وتشاطراً متهافتين. فبين من هلّل لما عدّه استسلاماً أكثريّاً “لسوريا الأسد” وتراجعاً عن أخطاء التحريض ضدها في السنوات الماضية، وبين من اعتبر ما جرى تمسكاً “بمبادئ ثورة الأرز”، مروراً بمن عدّ الأمر عودة الى “العمق الاستراتيجي”، ضاع النقاش الذي يُقام عادة في مناسبات كالتي شهدنا.
فلا تقييم الشكل والأسلوب واللغة تمّ، ولا التقييم السياسي لمضمون ما قيل من الطرفين حصل، ولا وضع الزيارة في سياقها الإقليمي جرى.
والزيارة لم تكن لا تراجعاً عن أخطاء ولا تمسّكاً بمبادئ ولا عودة الى التاريخ والجغرافيا وعلاقات القربى والأخوّة وسواها من مصطلحات أقرب الى تلك التي تُستخدم عند توقيع اتفاقيات تعاون بين بلديات أو مخاتير منها الى ما يُستخدم في قاموس السياسة والعلاقات الدولية.
الزيارة كانت حدثاً فرضته المصالحة السعودية السورية، وكانت استكمالاً لمسار التسويات الداخلية الذي أفضى الى إنتاج السلطة التنفيذية. وربما يصحّ القول إنها شكّلت ترجمة رسمية لانتهاء مرحلة كانت الانتخابات النيابية في 7 حزيران الماضي ثم مفاوضات تشكيل الحكومة مؤشرين الى شكل انتهائها، من دون أن يعني الانتهاء تحديداً لسمات مرحلة قادمة تبدو الأمور فيها ضبابية لأسباب كثيرة، منها أن المصالحة السعودية السورية لم توصل بعد الى مصالحة سعودية إيرانية، ولا الى مصالحة سورية مصرية؛ ومنها أيضاً أن الهشاشة الداخلية اللبنانية تسمح بأن يعود التوتر فور عودته إقليمياً، أو فور تصاعده بين إيران والولايات المتحدة، دون أن ننسى قدرة حرب إسرائيلية جديدة على إرباك الأوضاع وجعل أي مآل لها منطلقاً لارتدادات شبيهة بتلك التي خلّفتها حرب تموز 2006.
الأهم، بعد صراع الرمزيات الذي شهدنا، هو جدول الأعمال الذي سيحكم العلاقات الرسمية اللبنانية السورية في المرحلة “الجديدة”، أو على الأقل الى حين رسوّ المنطقة على حال واضحة. وللتذكير، ففي هذا الجدول قضايا ترسيم الحدود، ومزارع شبعا، وقواعد “القيادة العامة” في البقاع والناعمة، والمفقودون في السجون السورية، من دون أن ننسى ما قد يرتبط بالمحكمة الدولية، إن تسارعت أعمالها أو تباطأت.
وكل ذلك، سيؤثر في مسار التواصل بين السراي وقصر المهاجرين، كما بين الحلفاء والخصوم في بيروت وضواحيها الشرقية والشمالية والجنوبية…
صراع رمزيات
زياد ماجد
لا يمكن فصل الرمزي عن العاطفي ولا الأخلاقي عن السياسي في الزيارة المرتقبة لسعد الحريري الى سوريا، فأركان النظام في دمشق توّاقون الى استقبال رئيس الحكومة اللبنانية القادم من زعامة الأكثرية النيابية ومن معسكر 14 آذار الاستقلالي الذي قام إثر اغتيال والده. وهم يسعون الى إعلان تطبيع سياسي مع الساحة اللبنانية يزكّي انتهاء عزلتهم الديبلوماسية الدولية والعربية بعد الانفتاح الفرنسي عليهم ثم المصالحة السعودية معهم وتوالي الإشادات بدورهم “التسهيلي” لتشكيل الحكومة اللبنانية. ويريدون أن يكون التطبيع ذا رمزية عالية من خلال صورة تجمع الرئيس الحريري بالرئيس الأسد فتعلن ألوانها مصالحة تغطّي على المسار القانوني المنطلق قبل 4 سنوات والمفضي محكمةً دولية، وتهمّش كل ما سبقه ورافقه من اتهامات سياسية حول دور مباشر للنظام السوري في مسلسل الاغتيالات في لبنان.
لكن التوق السوري للتطبيع ولانتزاع رمزية الصورة قد لا يكونا بالسهولة المشتهاة، ولو تمّت الزيارة. ذلك أن جدول أعمالها وشكل حصولها والكلام العلني الذي سيليها قد تحدّ من وهج ألوان الصورة، أو على الأقل ترسم صورة الى جانبها.
فالإصرار على البحث في ترسيم الحدود وفي قضية مزارع شبعا وفي بعض القواعد المسلّحة في الناعمة وقوصايا، والنقاش في مراجعة الاتفاقيات بين البلدين وتحويل العلاقات الديبلوماسية الى إطار جدّي يبعد ركاكة “المجلس الأعلى”، والمطالبة بكشف مصير المفقودين والمخطوفين اللبنانيين في السجون السورية، والتأكيد على دعم الحكومة اللبنانية للمحكمة الدولية، وغير ذلك من الأمور، كفيلة لرفع رمزية مضادة ولجم المسعى السوري، أو على الأقل تقليص “إنجازاته”.
وهذا الكلام ليس من باب المكابرة. فالإقرار بنجاح النظام السوري في فكّ العزلة عنه – وهو نجاح حصل – شيء، واعتبار استعادته زمام المبادرة في لبنان وتحكّمه الجديد به شيء آخر. وما النكتة السمجة التي أطلقها ما يسمّى بالمكتب الإعلامي لأحد الضبّاط اللبنانيين السابقين، وإعلانه عن الدعوى التي رفعها أمام إحدى المحاكم البعثية في دمشق ضد سياسيين وأمنيين وقضاة وصحافيين لبنانيين وعرباً وأجانب، سوى دليل على لجوء أنصار النظام السوري إليه مباشرة والى مؤسساته “القضائية” لاقتناعهم بعدم جدوى الاستقواء به داخل لبنان ولمعرفتهم بأفول الزمن الذي كانوا يملون فيه على القضاء في بيروت ما يريدون، أو ينفذّون أحكاماً حتى من دون إبلاغ المحاكم المختصة بها! وهذا ليس بالتفصيل، وينبغي التركيز عليه، والتمسّك برمزيّته والدفاع (في الأشهر والسنوات القادمة) عن الإنجاز الذي صنعه…