سوريا ولبنان: طـي صفـحـة الماضـي أم التعلّـم مـن دروسـه؟
فواز طرابلسي
حبس لبنانيون الأنفاس ثم انفرجت أساريرهم عند مشهد الخطوات الخمس من هنا والخمس والعشرين من هناك. وجاء مَن أكد لهم أن عدد القبلات المتبادلة بين الرئيس بشار الأسد ورئيس الوزراء سعد الحريري كان ثلاثاً على الطريقة اللبنانية وأن الوقت الذي استغرقته المباحثات بينهما جاوز الثماني ساعات. وتلصصوا ـ اللبنانيون ـ مع كاميرات الإعلام على المَرْبَع الذي أكل فيه الرئيسان. حتى أنهم عرفوا اسم صاحبه.
وعلموا أين نام رئيس الوزراء ليلته في دمشق. وهم ما زالوا يتساءلون ما إذا كانت الزيارة زيارة رجل دولة، بشهادة عبقري العلاقات الفرنسية ـ اللبنانية برنار كوشنير، أم أن الرجلين هما مجرد إبني أبويهما، على ما يمكن أن تعنيه العبارة الملتبسة.
طمأن الرئيس الحريري اللبنانيين إلى نجاح الزيارة بدليل أن الرئيس السوري كسر البروتوكول الرئاسي السوري غير مرة (تذكّروا أننا في عصر الرمزيات!) وأبلغهم أن العلاقات سوف تقوم من الآن فصاعداً على أساس الصراحة والصدق (لا تعليق) وأن الزيارة أدت إلى «طي صفحة الماضي». ولكن، هل أن الطي ينوب عن التعلّم من دروس الماضي؟ يكفي السؤال. وفي حدود ما نعرف ولا نعرف، يمكن التوقف عند بعض صفحات ذلك الماضي القريب.
أول ما نجم عن الزيارة هو نجاح الرئيسين في تعطيل فتيل صاعق بتأكيدهما معاً على أن المحكمة الدولية هي الآن بيد المجتمع الدولي. هذا يعني، لبنانياً، أن سوريا، البلد والحكم والأجهزة والأفراد، في عداد الأبرياء، في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، إلى أن يثبت العكس عند صدور أحكام المحكمة الدولية. فهل أن «قرينة البراءة» هذه سوف تصير السياسة الرسمية اللبنانية ولكتلة الرئيس الحريري وحلفائه؟
من جهة ثانية، لعبت سوريا السلطة، منذ الحرب الأهلية عام 1975، أحد أدوارها في لبنان بما هي طرف في النزاعات بين اللبنانيين يجري التناوب على الاستنجاد بها على الخصوم المحليين. لم يقم هذا الدور طبعاً دون شهية كبيرة للعبه من الطرف السوري، تولّد عنه انتداب طال واستطال خلال التكليف العربي والدولي في حل الأزمات اللبنانية الدامية والحفاظ على السلم الأهلي. بعيد الرابع عشر من شباط 2005، ارتبطت العلاقات بين البلدين بـ«أجندة» خارجية أكثر منها محلية، أي أنها لم تكن صادرة عن تصورات ومصالح الطرفين اللبناني والسوري بقدر ما كانت صادرة عن صيغ بدرت عن الدبلوماسية الغربية والدولية. وفي طليعة تلك الصيغ ترسيم الحدود والتبادل الدبلوماسي بين البلدين. وهما صيغتان يتضح أكثر فأكثر مدى ابتعادهما عن طبيعة العلاقات المعقدة بين البلدين وعن المسّ بقضايا خلافية فعلية بينهما.
أولاً، يطالب الطرف الرسمي اللبناني بترسيم الحدود ويقول بالبدء من شبعا. فيرد الطرف السوري: بل نبدأ من الشمال. لعل الثاني يريد تأجيل الموضوع ريثما ينجلي مستقبل المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية. والأول يتوهم أن إقرار سوريا بلبنانية المزارع يملي على إسرائيل أن تعيد الأراضي المحتلة إلى لبنان أو أن تضعها في عهدة الأمم المتحدة. بذلك يعود لبنان، حسب الخطاب السائد، آمناً مطمئناً إلى معاهدة الهدنة اللبنانية ـ الإسرائيلية للعام 1949.
لا شيء يؤكد أن الأمور سوف تسير وفق هذا المسار. لقد أنكر الحاكم اللبناني عام 1967 لبنانية مزارع شبعا المحتلة (احتلت تلال كفرشوبا بعد 1967) وارتضى ضمّها إلى الأراضي السورية المحتلة. وكانت الحكمة المزعومة من ذلك هي أن لبنان بلا أراض محتلة سوف يكون خارج نطاق القرار 242 القاضي بمبادلة «أراضٍ محتلة» عام 1967 بمقابل السلام. أي أن لبنان سوف يخرج بذلك نهائياً من الصراع العربي ـ الإسرائيلي. لا يسع الوقت للتذكير كيف أن هذه الرغبة ولدت نقيضها تماماً. ولكن يجدر السؤال: ألا يعني اعتراف لبنان، بعيد التحرير عام 2000، بأن له أرضاً محتلة بات يخضعه للقرار 242؟ فيكون بلد الأرز مضطراً لأن يوقّع معاهدة سلام مع إسرائيل من أجل استعادة أرضه المحتلة؟ وهل لامتناع إسرائيل طوال تلك الفترة عن أن تتنازل عن الأراضي اللبنانية المحتلة من معنى غير أنها تريد استخدامها وسيلة لجر لبنان إلى توقيع معاهدة سلام منفردة؟
هل يعني هذا ضرورة التخلي عن الأراضي اللبنانية المحتلة؟ كلا بالتأكيد. لكنه يعني الاعتراف بأن لبنان بات دولة مواجهة، في زمن تراخت فيه المواجهات. وهو دأبه الدائم: يأتي الحجة والناس راجعة. هكذا يرى العدو إلينا، أعجبنا الأمر أم لم يعجبنا. والسؤال كيف ندافع عن لبنان وبأية وسائل. وكيف نمنع إعطاء مبررات للعدو لمهاجمتنا. هذا هو معنى البحث في الاستراتيجية الدفاعية. وقد خطا حزب الله خطوة نحو التمييز بين المقاومة وبين الدفاع الوطني، ما يفسح في المجال لأخذه على محمل الجد ومباشرة التخطيط والتجهيز والتنسيق والتكامل بين قوتي الدفاع اللتين يملكهما البلد.
ثانياً، أمن لبنان وأمن سوريا. إذا كانت جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وسائر عمليات الاغتيال قد أوكلت إلى المحكمة الدولية والمجتمع، أي وضعت الهواجس الأمنية والمخاوف اللبنانية في عهدة المجتمع الدولي، ماذا يمكن القول عن الهواجس السورية تجاه استخدام لبنان، أو ضلوع أفرقاء فيه، في العداء للبلد الشقيق والسماح باستخدام أرضه وناسه ممراً أو مقراً للتآمر عليه، والتحريض على تغيير الحكم فيه وتهديد أمنه وسلامته؟ السؤال هنا: هل أن هذا الهاجس القديم، المتجدد بعنف خلال السنوات الخمس الماضية، يمنح حكّام دمشق الحق في أن يضمنوا أمن نظامهم بالتدخل في الصغيرة والكبيرة من الشؤون الداخلية اللبنانية؟ هل له أن يسوّغ أن تكون ضمانة أمن سوريا هي حصة الأسد من السلطة في لبنان؟ كيف إذاً تجاوز الهاجسين بإرساء العلاقة على الدولتين والمعاهدات والمواثيق والأجهزة والمؤسسات؟
في مجال الأمن، ثمة ما يحتاج إلى تعديل في «اتفاقية الدفاع والأمن». نذكر على سبيل المثال لا الحصر البند الذي يضم الإعلام، مؤسساته وأشخاصه، ضمن «المخاطر» الأمنية والعسكرية والسياسية التي قد تؤدي إلى «الأذى أو الإساءة» إلى البلد الآخر أو تهديد أمنه، ما يتعيّن على البلد المعني أن يمارس «منع أي نشاط أو عمل أو تنظيم» تصدر عنه هذه المخاطر وتسليم المطلوبين إلى قضاء البلد الآخر.
ثالثاً، لا يحتاج الأمر إلى كبير شرح للتأكّد من أن صيغة التبادل الدبلوماسي بين البلدين مقصّرة عن عمق وتعقيد العلاقات والمشكلات بين لبنان وسوريا. والمؤكّد أن افتتاح سفارة سورية في بيروت لم يحمل لمعظم اللبنانيين، إن لم نقل كلهم، الانطباع بأنه إعلان عن اعتراف سوريا بالكيان اللبناني. ناهيك عن السؤال عن موقع التبادل الدبلوماسي بين البلدين من الإعراب في ظل «معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق» يشرف عليها «مجلس أعلى» يتشكّل من الرؤساء الثلاثة في الدولتين تناط به رسم السياسة العامة بين الدولتين «في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية وغيرها» وتكون قراراته «إلزامية ونافذة المفعول في إطار النظم الدستورية في كل من البلدين».
أخيراً، تحدث الرئيس الحريري عن تعديل الاتفاقات بين البلدين. هل توجد في أروقة الحكم في لبنان لجنة وزارية تعنى برسم السياسات اللبنانية تجاه الجارة والشقيقة، وهل توجد هيئة ما من هذا القبيل لدى الأكثرية والأقلية السابقة؟ أم أن هذه القضايا مرفوعة هي أيضاً إلى الهيئة الوطنية للحوار؟