صبحي حديديصفحات العالم

اجتماع الـ 20: جعجعة تخفي الطحن الحقيقي

null
صبحي حديدي
في شريطه التسجيلي الجديد ‘خديعة أوباما
‘ The Obama Deception
، يسعى الإعلامي الأمريكي أليكس جونز إلى البرهنة على أنّ حكم العالم الراهن الفعلي لا تتولاه مجموعة حكومات القوى العظمى الغنية أو الصناعية، ولا أعضاء مجموعة الـ 20 التي عقدت اجتماعها في لندن أمس (وقيل لنا إنه سيكون ‘تاريخياً’ في علاج اعتلال اقتصاد السوق والاقتصادات الكونية)، أو حتى أية مجموعة مماثلة موسّعة إلى 40 أو 60. حكومة الكون الفعلية هي ‘مجموعة بيلدربرغر’، مؤسسة ظلّ بامتياز، سرّية مكتومة كتيمة، وإنْ كان الأعضاء فيها ليسوا البتة من الأشباح، بل من كبار مشاهير الكون.
وفي أواخر أيار (مايو) سنة 1954، شهد فندق بيلدربرغ الفاره، الواقع في بلدة هولندية صغيرة تدعى أوستربريك، اجتماع نفر من أقوى رجال الكون، بمبادرة من أسرة روكفلر اليهودية الأمريكية، وولي العهد الهولندي الأمير برنارد (الذي تولى التنسيق مع والتر بيدل سميث، رئيس المخابرات المركزية آنذاك)، لمناقشة تنامي العداء للولايات المتحدة في العالم. غير أنّ المداولات تطوّرت سريعاً، وكان لا بدّ لها أن تتمحور حول الاقتصاد عموماً، والنظام المالي والمصرفي العالمي خصوصاً، وضرورة تشكيل ‘مصرف كوني’ من نوع ما، تُعهد إليه مسؤولية اتخاذ القرارات الكبرى في الملفات الدورية ذات الطابع الدولي، ولكن أيضاً تلك التي تخصّ علاج الأزمات الطارئة. والنجاح الذي أحرزته تلك القمة الأولى، إذْ يجوز تسميتها هكذا بالفعل، دفعت المشاركين إلى انتخاب رئيس (الهولندي بول رييكنز، مدير تجمّع ‘يونيليفر’ المؤلف من 70 شركة، تعمل في 80 بلداً)، وتشكيل مكتب دائم، وإقرار عقد اجتماع دوري سنوي، على أن تكون الولايات المتحدة هي البلد المضيف مرّة كلّ أربع سنوات.
ليس هنا مقام الخوض في المزيد من التفاصيل حول ‘مجموعة بيلدربرغر’، وتكفي الإشارة هنا إلى أمرين: أنّ العديد من المراقبين، الأكثر رصانة من أن تتلقفهم نظريات المؤامرة المثيرة، يجمعون على أنّ المجموعة انقلبت تدريجياً إلى حكومة الظلّ الأوحد على نطاق كوني، وفي مسائل تتجاوز الإقتصاد بطبيعة الحال، وتشتمل على السياسة والأمن والاجتماع الإنساني والثقافة؛ والأمر الثاني هو أنّ مستوى عضويتها أخذ، تدريجياً، يقتصر على نخبة النخبة، من متقاعدي رئاسات وحكومات ووزارات أساسية، ورؤساء شركات متعددة الجنسيات بين الأضخم في العالم، وخبراء وصحافيين وضباط جيوش واستخبارات، من أمريكا وأوروبا وآسيا. وتجب الإشارة إلى أنّ اجتماع 2007 عُقد في إسطنبول، تركيا؛ والاجتماع الـ 56 في شانتيللي، ولاية فرجينيا، حيث يساجل شريط ‘خديعة أوباما’ أنّ الأعضاء الحاضرين فيه صوّتوا لصالح أوباما ضدّ خصمه الجمهوري جون ماكين.
وحتى ساعة كتابة هذه السطور، كانت النصوص التي رشحت من مشروع البيان الختامي الذي سيعتمده اجتماع لندن، تسوّغ المحاججة بأنّ اجتماعات الـ 20 ـ أو الـ G-7 مضافاً إليها الإتحاد الروسي، أو لقاءات دافوس، أو مؤتمرات صندوق النقد الدولي، أو اجتماعات البنك الدولي… ـ ليست سوى تلك الجعجعة التي تخفي الطحن الفعلي، الذي شهدته وتشهده أروقة فنادق اجتماعات ‘مجموعة بيلدربرغر’.
ولعلّ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي كان الواجهة الكوميدية من المستور التراجيدي، حين اعتبر الولايات المتحدة مسؤولة عن استمرار الأزمة المالية العالمية الراهنة، وهدّد بالإنسحاب من اجتماع لندن إذا لم تتنازل واشنطن وتتخذ ‘إجراءات جذرية’ للعلاج. والحال أنّ ردّ أوباما إنما تمثّل أوّلاً بابتسامة متعددة المعاني، لا تقتصر على الكياسة البروتوكولية وحدها، تذكّر ساركوزي بأنّ إحدى الركائز في حملة الأخير أثناء الإنتخابات الرئاسية، قبل سنتين فقط، كانت إجبار الإقتصاد الفرنسي على الإقتداء بالنموذج الأمريكي!
الرئيس البرازيلي لولا داسيلفا، ذهب أبعد، ولكن ليس في الكوميديا بل في ‘التراجيديا البيولوجية’ إذا جاز القول، حين اعتبر أنّ ‘سبب الأزمة هو السلوك الطائش لأناس بيض ذوي أعين زرقاء، اتخذوا قبل الأزمة في مظهر العارفين بكلّ شيء، ثمّ يتبدّون الآن في صورة الذين لا يعرفون شيئاً’!
صحيح أنّ الغالبية الساحقة من مواطني الشطر الجائع الفقير المريض من المعمورة هم من السمر أو السود أو الصفر، وهذا ما افترضه الرئيس البرازيلي، إلا أنّ هذا التوزيع في المسؤولية على أساس الأعراق ينتهي إلى الخلاصة الكوميدية ذاتها التي بلغها الرئيس الفرنسي: ألا يضمّ اجتماع لندن دولة سوداء فقيرة مثل إثيوبيا، ودولة سمراء غنية مثل السعودية؟
نعرف، على سبيل المثال الأوّل، أنّ مسوّدة بيان لندن لن تتطرّق إلى ما صار يُسمّى ‘فقاعات الإقراض’ السكني، التي صنعتها المصارف الأمريكية وكانت السبب المباشر في تكريس الركود، ولهذا فإنها استطراداً الفتيل الذي فجّر الأزمة الراهنة (تماماً كما كانت فقاعات البورصة الأمريكية هي السبب في أزمة 2001، هذه التي لا يتطرّق إليها بيانات الـ 20 السابقة، بما فيها قمّة واشنطن الخريف الماضي). ولكننا، في المقابل، وعلى سبيل المثال الثاني، نعرف أنّ مسوّدة البيان سوف تشدّد على استئناف، واستكمال، جولة الدوحة الخاصة بمنظمة التجارة الدولية، والتي لم تكن في صالح الدول النامية منذ البدء، وثمة الكثير من الشكوك في إمكانية أن تحظى بموافقة هذه الدول في أيّ من مؤتمرات المنظمة القادمة.
ولقد شاءت المصادفة أن ينعقد اجتماع لندن بعد أيام على القمة العربية (أو بالأحرى: قمّة ‘فقاعات المصالحة’، ما دمنا في السيرة!)، والقمة العربية ـ الأمريكية الجنوبية الثانية (حيث أتيح للرئيس الفنزويلي هوغو شافيز أن يخطف المزيد من ‘فقاعات’ الوجدان العربي الجريح)، فينجلي الفارق الهائل، بعد المفارقة المحزنة. هذه دول تدفع أبهظ أثمان ذلك التقاسم غير العادل للأدوار والمحاصصات والثروات، وتلعب دور صنبور الطاقة ومنجم الموادّ الخام وسوق الإستهلاك في آن، ولا غنى عنها لكي تدور آلة الإقتصاد الدولي، ولكي يعرف الكبار أفضل طرائق استثمار موارد الأرض، وأفضل أَوجُه التنعّم بها. الأخطر، ربما، أن الحيلة قد تنطلي على هذه الدول، فتواصل مكوثها في صفّ الضحية ظانّة أنها إنما تلعب دور الشريك المشارك في صناعة نظام العلاقات الدولية، أو صناعة التاريخ ليس أقلّ!
ولقد انطلت وتنطلي هذه الحيلة على دول الجنوب التي تقرّر فَرِحة، طروبة، مفاخرة ــ أنّ دورها في صناعة التاريخ إنما ينحصر في مكافحة ما يُسمّى ‘الإرهاب الدولي’ (بالنيابة عن الكبار الذين يستهدفهم الإرهاب بهذا القدر أو ذاك)؛ وفي الحدّ من انتشار التكنولوجيا النووية (بالنيابة عن النادي النووي الذي يحتكر الكبار حقّ الإنتساب إليه)؛ وفي فرض الرقابة الذاتية الصارمة على إنتاج ‘أسلحة الدمار الشامل’ (وهذه، بدورها، ينبغي أن تُحصر بين مزدوجات، لأننا لم نعد نعرف لها معنى دلالياً عادلاً أو ملموساً).
والحيلة سوف تنطلي أكثر فأكثر، وبمعدّلات متضاعفة، إذا قرّرت مجموعات دول الجنوب أنّ ليس من شأنها تقويض أنظمة داخلية كبرى صيغت لصالح الكبار وحدهم، في مؤسسات كبرى تنتهي أسماؤها دائماً بصِفة ‘الدولي’: مجلس الأمن الدولي، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي. المسألة هنا لا تدور حول ‘الجنوب’ في أيّ معنى موازٍ لـ ‘الشمال’، على نحو تناحري تناقضي عدائي صرف، بقدر ما تدور حول التمثيل السياسي الفعلي والفاعل لثُلثَي البشرية، الآن بالذات حين تكون الصين الشعبية عضواً غير منتسب في نادي الـ G-7، بالمعنى الإقتصادي أولاً، ثم بالمعنى الجيو ـ سياسي ثانياً. ولقد رأينا الدور الخجول الذي لعبته الصين الشعبية في خلخلة التوازنات الغربية داخل مجلس الأمن الدولي، بصدد استمرار الحصار على العراق مثلاً؛ كما رأينا الدور المتواضع الذي لعبته في اجتماع لندن الاخير، إذا وضع المرء جانباً سخونة البلاغة وحروب اللفظ.
وبالطبع، سوف تنطلي الحيلة ــ بنسبة فاضحة فاقعة هذه المرّة ــ إذا تناست دول الجنوب أنّ الإقتصاد الدولي معتلّ من الرأس حتى أخمص القدمين، من روسيا إلى اليابان إلى أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، قبل الصومال والإكوادور والهند والأرجنتين ومصر، وأنّ الكبار هنا تحديداً يريدون من الضحية أن تقدّم المزيد من القرابين. ما نملكه اليوم من إحصائيات صادرة عن ‘برنامج الأمم المتحدة للتنمية’، يسجّل نتيجة جوهرية كبرى مفادها أن البون الشاسع بين الدول الغنية المصنّعة والدول النامية لم يعد مجحفاً فحسب، بل بات وحشياً كالعولمة ذاتها: ‘العالم اليوم مسرح لاستقطاب جلي حادّ على الصعيد الإقتصادي، سواء في المستوى الوطني أم العالمي (…) وإذا تواصلت الاتجاهات الراهنة فإن التباينات الإقتصادية بين الدول المصنعة والدول النامية لن تكون مجحفة فحسب، بل غير إنسانية أيضاً’.
اللافت أنّ القضايا الأكثر استعصاء أمام اجتماع لندن لم تكن تدور حول ابتكار وسائل جديدة لإسباغ طابع إنساني، غير وحشي، على الهوّة الفاغرة بين الشمال والجنوب، بل اعتصار (ولا مناص من القول أيضاً: استجداء!) تنازلات من الجانب الأمريكي، في ثلاثة ملفات: كتلة الدولار التي ما تزال تتدفق، كسيول جامحة، إلى أسواق البورصات الهائجة؛ وحقيقة أنّ المصارف المركزية الأوروبية الكبرى، وخارج الولايات المتحدة إجمالاً، مجبرة على خدمة العجز في الموازنة الفدرالية للولايات المتحدة، ضمن سياقات خضوعها القسري لاعتبارات الصرف بالدولار؛ وثالثاً، الطبيعة العسكرية الغالبة على ذلك العجز الأمريكي.
ومسوّدة بيان لندن لا تشير إلى أنّ أوباما قد قدّم تنازلاً في أيّ من هذه الملفات، ولكنها أقرب إلى تثبيت النقيض في الواقع، أو إعادة إنتاج نظرية سلفه وحليفه بيل كلنتون: ‘ما من أمّة، غنية كانت أم فقيرة، ديمقراطية أم شمولية، في وسعها الفرار من المتطلبات الاقتصادية الجوهرية للسوق الكوني’. وصدّقوا، تالياً، أنّ هذا التصريح الأخير جاء ردّاً على اقتراح يطالب الدول الرأسمالية بفرض ‘تقنين’ على حرّية مناقلات العملات بين الدول والأمم والأسواق، أملاً في منع مضاربي البورصات من صياغة أقدار اقتصادات حساسة في اليابان أو روسيا!
ما الذي يتبقى من الرأسمالية، إذا حُجِر على البورصة؟ وما الذي يتبقى من معنى في فكرة ‘السوق’ الذي لا يخضع لغير قوانينه، أو ذاك الذي لا يخضع لقوانين الدول على الأقلّ؟
أليس هذا هو ‘الإقتصاد الموجّه’ الذي هجاه الجميع واندلعت من أجله ثورات القرنفل في ‘المعسكر الاشتراكي’ سابقاً؟ ولكن… أليس هذا، بالضبط، ما جعجع به الرئيس الفرنسي، وساندته فيه المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، اليوم بالذات؟ ألم يهدّد بالإنسحاب إذا لم تُتخذ إجراءات تنظيم من هذا القبيل؟ وقبل أشهر معدودات، ألم يعلن عجز اقتصاد السوق، وكاد أن ينعي وفاته، هو الذي اعتبره على الدوام درّة الإنسانية، سياسة واقتصاداً واجتماعاً؟
وإذا جاز الإفتراض بأنّ اجتماع الـ 20 في لندن كان صناعة الصخب المعلَن، الذي ينبغي أن يخفي هدوء القرارات الأخرى الكبرى، المنوطة بحكومة الكون الجبارة القابعة في الظلّ، أفلا يتوجّب أن نفتح العقول والأعين على اتساعها، في انتظار التئام ‘مجموعة بيلدربرغر’، في أثينا، صيف هذه السنة؟
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى