صفحات العالم

تقرير التنمية البشرية العربي الخامس: المرآة المرعبة

null
نهلة الشهال
صدر التقرير منذ أسبوع بالتمام، وانتشر في الإعلام العالمي حاملاً عنواناً وحيداً تكرر بلا تغيير: «40 في المئة من سكان المنطقة العربية تحت حد الفقر». وهو يقول إن الوضع قد ازداد تفاقماً منذ صدور التقرير العربي الأول قبل سبع سنوات، وان كل المؤشرات المرصودة مذّاك لم تفعل سوى تعزيز مسارها الانحداري. والتقرير الخامس يتمحور اليوم حول سؤال سبب هذا «الثبات في التدهور»، كما يسميه. وهو يتعامل مع «الأمن البشري»، المختلف عن مفهوم الأمن الأمني والعسكري، بل وربما وفي كثير من الأحيان، المناقض لهما.
فالأمن البشري حسب التعريف العالمي المعتمد، هو «تحرير البشر من التهديدات المكثفة، المهمة والدائمة، التي تتعرض لها حياتهم وحريتهم». وقد أشير إليه للمرة الأولى في تقرير التنمية البشرية العالمي عام 1994 ثم تطور بفعل اشتغال مفكرين وباحثين من العالم كله عليه. وهو يستند إلى المفاهيم التي طورها الاقتصادي الهندي أمارتيا سن، صاحب جائزة نوبل للاقتصاد 1998، الذي اعتبر أن المصدر الأساسي للمجاعات في العالم منبعه ليس نقص الموارد وإنما الافتقاد إلى الديموقراطية، حيث لا تترك للبشر القدرة على تقرير الوجهة اللائمة لتسيير شؤونهم، وعلى الإقدام ذاتياً على مبادرات تناسبهم.
وهو اعتبر أن التنمية البشرية تعادل التقدم في المساواة، وان الأمن البشري يتطور بمقدار «تباطؤ الأمن»، بمعناه القمعي. ويرجع المفهوم أيضا إلى تجارب في تحقيق التنمية أشهرها تلك التي أجريت في بنغلادش على يد حائز نوبل الآخر سنة 2006، وإنما للسلام، محمد يونس، صاحب مشروع التسليفات المتناهية الصغر، أو ما يسمى بنوك الفقراء. كما تطورت تجارب تستند إلى المقاربة ذاتها في أنحاء مختلفة من أميركا اللاتينية، وكانت بالتأكيد واحداً من أبرز أسباب قدرة بلدانها على تحقيق التنمية والتحرر المسجلين هناك.
يعتبر التقرير الخاص بالعالم العربي أن الجواب الرئيس على سؤال عناد الأسباب المفضية إلى التراجع الثابت الملاحظ، هو هشاشة البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية في المنطقة، ثم غياب سياسات تنمية تتمحور حول الناس، وأخيراً التأثر بالتدخلات الخارجية. وهو رصد سبعة أبعاد لما سماه الافتقاد إلى الأمن البشري في المنطقة، تقع على رأسها هشاشة محيط البشر الذي يشتمل على مخاطر التكاثر السكاني، وتعاظم الكثافة المدينية حيث يعيش 55 في المئة من الناس في المدن عام 2005، وسيتجاوزون الـ60 في المئة خلال العشر سنوات المقبلة، ثم إن نسبة الشباب ممن هم دون الخامسة والعشرين، تبلغ حالياً 60 في المئة، وهي الأعلى عالمياً، بينما تزداد شريحة العاطلين عن العمل من بينهم خصوصاً، وهي بلغت كمعدل عام 14،5 في المئة، بينما النسبة العالمية هي أكثر قليلا من 6 في المئة.
وبعد أن تناول التقرير العوامل الأخرى البيئية، من شح المياه، وعدم فعالية الاتفاقات الموقعة حول اقتسامها مع بلدان المحيط،، حيث 56 في المئة من مصادرها تنبع في بلدان مجاورة، وكذلك تسجيل الاستخدام الفظ للمياه الجوفية، وتلوث المياه المتوفرة، وتعاظم التصحر… يذهب إلى البعد الثاني المتعلق بقوة سلطة الدولة وعدم أمان المواطنين، فيعتبرها تهديداً مباشراً للأمن البشري، حيث تسود أنظمة الطوارئ وقوانين الاستثناء، ولا يحوز الناس القدرة على الوصول إلى قضاء عادل، ولا تحترم الدول الاتفاقيات الدولية، وتحرم مواطنيها من المؤسسات التمثيلية. ويركز التقرير على هذا البعد، وفياً في ذلك للمفاهيم التأسيسية التي انطلق منها، وللملاحظات العيانية والميدانية التي تربط بين سيادة القمع وتعاظم الفقر بل العجز عن درء الكوارث، كما كان أمارتيا سن قد أوضح، إذ لا يتمكن البشر المكبلون بالإجراءات البوليسية من التفاوض بينهم لبلورة تصورات وأدوات محلية مشتركة كفيلة بتدبر ما يواجهون وتخطيه، وهم يساقون إلى وضعيات يمتزج فيها الرعب بالاتكالية، سواء كانت قدرية أو سلطوية، حيث تصبح الدولة آلهاً يتحكم بمصائر الناس، ويشل تفكيرهم وإراداتهم.
وإزاء هذه الوضعية، يجري العمل في كل مكان من العالم، وعلى المستويات المفاهيمية والعملية، على تطوير مفهوم «الديموقراطية الكلّية»، التي تقيم ربطاً تاماً بين التقدم القابل للتسجيل في مختلف مناحي حياة الناس، وتعزيز استعادتهم للإقدام على المبادرات. وهي لا تعني بحال إعفاء السلطات من مسؤولياتها، ولكنها تحدد زاوية لمطالبة فاعلة لتلك السلطات وللضغط عليها، تستند إلى كيفية خدمة ديموقراطية شاملة ومن «الأسفل».
وبالعودة إلى التقرير، يشير هذا إلى البعد الثالث المتمثل بضعف الجماعات المهمشة، وعلى رأسها النساء واللاجئون، وهذه ملفات تمثل فضيحة حقيقية، سيما متى أضيف إليها موضوع الاتجار بالرقيق البشري، ويبدو أن منطقتنا أساسية في سيولة شبكاته العالمية. وكبعد رابع يشير التقرير إلى عدم استقرار النمو وهو يسجل الصورة الخادعة التي توفرها العوائد النفطية المرتفعة، بينما، وخلال السنوات الخمس وعشرين سنة الفائتة، لم يتجاوز معدل النمو السنوي الفعلي 0.5 في المئة (صفر ونصف في المئة)!. ويقول التقرير إن معدل الفقر الشديد المعتمد عالمياً (أي حد دولارين في اليوم) يجعل الرقم العربي لمن يعانون منه يدور حول أكثر بقليل من عشرين في المئة لعام 2005، بينما يرتفع هذا الرقم، إذا جرت أقلمة المؤشر ليعتمد متطلبات مستوى الحد الأدنى من الحياة في كل بلد على حدة، إلى 30 في المئة بالنسبة للبنان وسورية، و41 في المئة لمصر و60 في المئة لليمن. ويستنتج التقرير أن حوالى 40 في المئة من سكان المنطقة العربية يعيشون في فقر مدقع. ينتهي التقرير بتناول الأبعاد الثلاثة الأخرى المتبقية المتعلقة بالجوع وسوء التغذية كبعد خامس، وبالأمن الصحي سادساً، والاحتلالات والتدخلات العسكرية سابعاً، حيث انكب التقرير على دراسة تتناول تسببها في انهيار الأمن البشري في العراق وفلسطين والصومال والسودان.
أفظع ما في الأمر، هو الاستقبال الذي يحظى به التقرير: بين تجاهل وعدم اكتراث أحياناً، وتشكيك، أحيانا أخرى بكل منطلقاته وصدقيته، بناء على مواقف «ثورية» رثة تعتمد اللفظية خصوصاً وتعتبر أن الجذرية تكمن في الوصول إلى أقصى التطرف، وهي مواقف بلا معادل ولا تأثير على الواقع، سوى أن أصحابها ينهلون منها رضاً ذاتياً، وأخيراً وفي الختام، مواقف تلك الشريحة المتعالية من المثقفين المتغربين والمحتقرين للذات، التي تعتمد نتائجه للتجريح في المنطقة واحتقار قدراتها على تجاوز واقعها المزري. والأمل هو في شريحة رابعة، مخلصة وواعية، تطبق المبدأ الثوري حقاً والتغييري حقاً: فكِّر بكلية واعمل محلياً!
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى