2009-2010: أربعة مستويات للأزمة البنيوية العربية
عمرو حمزاوي
دون مبالغات صحافية أو تعميمات تجافي الواقع، يمر العالم العربي بلحظة بالغة الخطورة بها من التراجعات والتحديات الدولية والإقليمية
والداخلية ما يصعب مواجهته اليوم وسيثقل كاهل مجتمعاتنا ودولنا خلال الأعوام المقبلة.
دوليا، أصبح واضحا وبعد مرور عام على رئاسة باراك أوباما أن الإدارة الاميركية الجديدة ترتكز في فعلها الخارجي ونشاطها الديبلوماسي في إتجاه المحيط العربي-الإسلامي إلى أولويات ثلاث هي النجاح العسكري والسياسي في أفغانستان – باكستان ومواصلة الحرب على الإرهاب واحتواء الملف النووي الإيراني إن بالأدوات التفاوضية أو بوسائل أخرى.
يعني هذا: 1) أن الولايات المتحدة وعلى الرغم من الجهد الديبلوماسي لإدارة أوباما خلال الأشهر الماضية لإحياء مفاوضات السلام العربية – الإسرائيلية لا ترى في حل القضية الفلسطينية وإنهاء غيرها من قضايا الصراع العربي-الإسرائيلي نقاط الانطلاق الرئيسة لإعادة تعريف دورها في المحيط العربي-الإسلامي وتجديد علاقتها بدوله.
2) أن الانحياز الاميركي لإسرائيل على حساب الحقوق الفلسطينية والعربية وكذلك إحجام أوباما عن ممارسة ضغوط فعالة على إسرائيل إن لإيقاف سياستها الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس الشرقية أو للدفع نحو حل نهائي عادل للقضية الفلسطينية ليسا بمرشحين للتغير في المدى المنظور.
3) أن الإيجابية التي ولّدها خطاب إدارة أوباما المتوازن في إتجاه المحيط العربي-الإسلامي، وكذلك مجمل الفعل الخارجي للإدارة المستند إلى صناعة التوافق مع القوى الكبرى الأخرى والعودة إلى تفضيل الديبلوماسية المتعددة الطرف بدلا من الانفرادية التي ميزت إدارة بوش، سريعا ما ستتوارى على وقع غياب الترجمة الواقعية لوعود أوباما بحل القضية الفلسطينية وإنهاء الحرب على الإرهاب وصوغ علاقات احترام متبادل مع الدول العربية والإسلامية.
4) أن على العرب، شعوبا وحكومات، ألا يتوقعوا الكثير من أوباما ويستعدوا لمواجهة المزيد من تعنت إسرائيل وفرضها المستمر لحقائق جديدة على الأرض في الضفة الغربية والقدس في ظل انشغال الولايات المتحدة خارجيا بإفغانستان وباكستان وإيران وداخليا بأجندة تداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية وملفات كالرعاية الصحية والتغير المناخي.
5) أن محاولات بعض دول الاتحاد الأوروبي أو روسيا أن تحل محل الولايات المتحدة في تنشيط مسارات السلام والتفاوض بين العرب وإسرائيل محكوم عليها بالفشل نظرا الى محدودية أوراق ديبلوماسيات هذه الدول وانتفاء قدراتها الفعلية للتأثير على إسرائيل.
إقليميا، الى جانب الفاعلية المحدودة للدور الاميركي في ما خص قضايا الصراع العربي-الإسرائيلي وتعنت إسرائيل، تواجه الدول العربية سلسلة من التحديات الخطيرة المتنوعة المصدر والبعد:
1) يشكل الملف النووي الإيراني وتنامي الدور الإقليمي للجمهورية الإسلامية إن في منطقة الخليج أو في العراق أو في لبنان وفلسطين تهديدا حيويا للأمن القومي لعدد من الدول العربية أبرزها دول مجلس التعاون الخليجي والعراق ومصر، والأخيرة ترى في تنامي الدور الإيراني تراجعا لدورها هي.
2) تتخوف الدول العربية التي تنظر بعين الريبة إلى إيران، خاصة السعودية ومصر، من أن يرتب الانفتاح التفاوضي الراهن للولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى على إيران بهدف التسوية السلمية لملفها النووي تقديم تنازلات كبرى تؤمن للجمهورية الإسلامية مساحات إضافية للفعل في الشرق الأوسط وتطلق يدها كالقوة الإقليمية الأهم في منطقة الخليج، وهو التخوف الذي يشار إليه دوما بالحديث عن فرص “المساومة الكبرى” بين واشنطن وطهران.
3) على الرغم من تخوف أطراف عربية مهمة كالسعودية ومصر من إيران ومساعيها لمواجهة الدور الإيراني في الخليج ولبنان وفلسطين، يبتعد عدد آخر من الدول العربية عن هذه القراءة وينظر إلى إيران كحليف إستراتيجي كما هي الحال في سوريا أو كجار تربطهم به علاقات اقتصادية وتجارية متنامية على النحو الذي يظهره التعامل القطري والعماني وبدرجة أقل الإماراتي مع إيران.
4) يواجه العرب اليوم كذلك التصاعد الواضح للدور الإقليمي التركي الذي تحوّل من البحث عن دور في الشرق الأوسط انطلاقا من التحالف الإستراتيجي مع الولايات المتحدة وإسرائيل إلى الابتعاد تدريجا عن تل أبيب والانفتاح باستقلالية لا تخشى الاختلاف مع واشنطن على إيران والجوار العربي، ومحاولة التوسط تفاوضيا للمساهمة في حل صراعات المنطقة أو على الاقل نزع فتيل انفجارات محتملة، وبناء علاقات تعاون اقتصادي وتجاري متطورة مع الجوار.
5) في الوقت الذي تغيب به عن المشهد الإقليمي نماذج عربية ناجحة، تشترك تركيا مع إيران في طرحها نموذجا متكاملا ورؤية متسقة لمستقبل الشرق الأوسط، مع التباينات المركزية بين النموذجين التركي والإيراني. ففي حين تمثل إيران داخليا حالة من التداخل بين الدين والسياسة تغيب عنها الديموقراطية، تقف تركيا معبرة عن إمكان الجمع الناجح بين علمنة مؤسسات الدولة والمجال العام والتحول نحو ديموقراطية تقبل مشاركة بل هيمنة الحركات الإسلامية على الحياة السياسية في إطار ضمانات دستورية وقانونية واضحة. وفي حين ترفع طهران إقليميا وخارجيا شعارات مواجهة الهيمنة الاميركية والغربية في الشرق الأوسط ورفض الاعتراف بإسرائيل ودعم حركات المقاومة في لبنان وفلسطين، وتعمل على تكوين جبهة تضم إلى جانبها إطرافا عربية لمناوئة الغرب ولا تتحفظ في هذا الإطار عن التدخل في شؤون بعض الدول العربية، تتسم السياسة الإقليمية لتركيا بالديبلوماسية الهادئة وبالبحث عن صناعة التوافق والحلول التفاوضية إن بين الغرب وإيران أو بين سوريا وإسرائيل أو بين الأخيرة والفلسطينيين، وبتقديم التعاون الاقتصادي والتجاري على الشعارات الإيديولوجية أو التدخل غير المسؤول في شؤون الدول الأخرى. والحقيقة أن أهمية النموذجين التركي والإيراني وجاذبيتهما، مجددا على الرغم من تبايناتهما، مرشحتان للتصاعد خلال الأعوام المقبلة وهو ما سيشكل واقعا ضاغطا على الدول العربية الحائرة بين التحالف مع الغرب والابتعاد عنه، بين المقاومة والسلام، بين الدين والديموقراطية، بين السياسة والاقتصاد.
6) تواجه الدول العربية مجموعة إضافية من التحديات والمخاطر الإقليمية ترتبط بغياب الاستقرار عن العراق، وتحوّل أزمات اليمن في صعدة والجنوب ساحة جديدة للصراع الإقليمي بعد العمليات العسكرية السعودية في شمال اليمن وما يقال عن الدور الإيراني هناك، وعدم حسم ملفات المصالحة الفلسطينية بين “فتح” و”حماس” ومستقبل دور “حزب الله” في السياسة اللبنانية مع تتامي التنازع حول سلاحه.
أما التحديات الداخلية التي تواجهها مجتمعاتنا فهي في المجمل نتيجة أزمة الدولة الوطنية وتعثر الإصلاح السياسي والتنمية المستدامة على الصعد الاقتصادية والاجتماعية. فالدولة الوطنية ومؤسساتها تمر في الغالبية الساحقة من المجتمعات العربية بأزمة عميقة تتنوع مستوياتها ومضامينها. فالتطورات الراهنة في اليمن تنذر بخطر انهيار الدولة على وقع عجز متنامٍ عن ضمان حد أدنى من الأمن والخدمات الاجتماعية والاقتصادية لغالبية المواطنين، وكذلك تمرد مناطق في الشمال (حركة الحوثيين) والجنوب (الحراك الانفصالي) على السلطة المركزية بعدما عانت طويلا من التهميش الاقتصادي والسياسي والثقافي وأخفقت دينامية التعددية السياسية منذ الوحدة اليمنية (بداية التسعينات) في بلورة مساحات حقيقية للتمثيل والتعبير المنظم عن مطالبها داخل المؤسسات الرسمية. ثم يفاقم من خطر انهيار الدولة في اليمن عاملان إضافيان، المحدودية الشديدة لموارد المجتمع الأساسية – خاصة المياه ومصادر الطاقة – في علاقتها بالكثافة السكانية المتصاعدة، والتدخل الخارجي من بعض الأطراف الإقليمية ومن تنظيمات عنفية كـ”القاعدة” التي أضحت بعض مناطق اليمن بمثابة سموات مفتوحة لفعلها التخريبي.
وإن كانت اليمن اليوم، وبدرجة أقل السودان ومن قبلهما الصومال، تواجه خطر انهيار الدولة، فإن مجتمعات عربية أخرى تعاني من تراجع شديد في قدرات وفاعلية الدولة على نحو يفقدها تدريجا شرعية الوجود أو يحول بينها وبين استعادتها. والإشارة هنا هي من جهة إلى لبنان الذي لم يعد في استطاعة مؤسسات دولته الاضطلاع بدور حقيقي في تخصيص موارد المجتمع الاقتصادية والاجتماعية بعدما استولت الطوائف وتنظيماتها السياسية على الوظيفة التوزيعية للدولة، ومازالت استعادة الأجهزة العسكرية والأمنية لحقها الدستوري في احتكار الاستخدام المشروع للقوة المسلحة في الداخل والخارج وممارسته على الأرض غائبة بالكامل. من جهة أخرى، تبدو الوضعية الراهنة للعراق مع انهيار استقرار عام 2008 وبدايات 2009 الأمني، ومع الشكوك المتنامية في الآونة الأخيرة حول قدرة ورغبة أطراف اللعبة السياسية العراقية الالتزام بقواعد عادلة لإداراتها وللتنافس السلمي على السلطة، مثيرة للعديد من المخاوف والتساؤلات بشأن مستقبل الدولة الوطنية وشرعية مؤسساتها. فاستمرار غياب السلم الأهلي والتوافق السياسي والمجتمعي يدفع المواطنين العراقيين للارتماء في أحضان طوائفهم وتنظيماتها كسبيل وحيد لضمان الحماية والحصول على حد أدنى من الخدمات الاجتماعية والاقتصادية ويحول عملا بينهم وبين تطوير شعور جمعي بالثقة في نزاهة الدولة العراقية الجديدة وعدالتها وفاعلية مؤسساتها.
يضاف إلى خطر انهيار الدولة في اليمن والسودان وأزمة شرعية الوجود التي ترد على مؤسساتها في لبنان والعراق، وكلا الأمرين يعطي صدقية كبيرة لاستخدام مفهوم الدولة الفاشلة في الحالات الأربع، مستويان مكملان لأزمة الدولة الوطنية هما الأكثر شيوعا في العالم العربي وإن صعب توصيفهما بعبارات رنانة أو جمل خاطفة. ففي الخليج – باستثناء الكويت – وكذلك في سوريا وليبيا تتبدى ثنائية خطيرة بين مجتمعات تعرضت بناها الاقتصادية والاجتماعية والإدارية خلال العقود الماضية لتحديث أنتج حقائق جديدة على الأرض ودول تحكم هذه المجتمعات استنادا إلى ترتيبات سياسية قديمة أحادية الطابع باتت تخفق بصورة شبه يومية في الاستجابة لمقتضيات وآفاق التطور المجتمعي. فعلى سبيل المثال، في حين تغيب التعددية السياسية والفصل الفعلي بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية عن الخليج ويظهر العديد من القيود على ممارسة المواطنين للحريات العامة والمدنية في استمرارية تقليدية لسلطوية لم تنقطع منذ نشوء دول الخليج أو استقلالها، تعكس البنى الاقتصادية المدارة وفقا لمبادئ اقتصاد السوق والادارة ذات التعقيد المشابه لمجتمعات الغرب الرأسمالي صورة لمجتمعات حديثة لم يعد في الإمكان اختزالها في القبيلة والعشيرة والولاءات البسيطة لأولي الأمر. وبدرجة أقل يظهر الواقع السوري والليبي الراهن الثنائية الخطيرة وذاتها، المجتمع المتطور المعقد في مواجهة الدولة التقليدية الأحادية، وإن اكتست الدولة بالرداء الجمهوري ورفعت مؤسساتها شعارات تقدمية. وعلى الرغم من نجاح دول الخليج وسوريا وليبيا إلى اليوم في المحافظة على استقرار الحكم إلى حد بعيد معتمدين في ذلك إن على ريع الوفرة النفطية أو قمع الأجهزة الأمنية أو كليهما، إلا أن ثنائية المجتمع المتطور والدولة التقليدية تنذر بتوترات مقبلة سيرتبها عملا نزوع قوى المجتمع الحية إلى الاصطدام بحكام الدول لانتزاع المزيد من الحريات المدنية والعامة وللدفع في اتجاه تحديث المؤسسات.
ثم يأتي غياب الرضاء الشعبي عن السياسة والساسة في مجتمعات كالمغرب والجزائر وتونس ومصر والأردن، وهي في المجمل تتمتع بتواكب حداثة بنى مجتمعاتها مع حداثة ظاهرية لمؤسساتها ولا تتعرض شرعية وجود دولها لمساءلة شعبية واسعة النطاق، ليشكل المستوى الأخير لأزمة الدولة الوطنية في العالم العربي. تختلف طبيعة الترتيبات السياسية في المجتمعات محل النظر هنا وتتنوع مكونات نخب الحكم بها، كما تتفاوت قدرات مؤسسات الدولة على ضمان الخدمات الاقتصادية والاجتماعية الأساسية للمواطنين، وتتطور الفجوة بين الأغنياء والفقراء في اتجاهات متباينة، بعضها إيجابي كحالة تونس التي نمت طبقتها الوسطى سريعا خلال العقود الثلاثة الماضية والبعض الآخر سلبي كالمثالين المغربي والمصري وبهما يضغط الفقر على ما يزيد عن 20 في المئة من المواطنين. مع ذلك، يوحد هذه المجتمعات تصاعد معدلات الرفض الشعبي الموجه ضد مؤسسات الدولة وحكامها وفقدان قطاعات واسعة من المواطنين الأمل في غد أفضل على الرغم من الاستقرار النسبي الذي تتمتع به الدولة في المغرب العربي ومصر والأردن. والحقيقة أن أبرز إرهاصات الرفض الشعبي هذا أضحت ترتبط في المقام الأول بتواتر الاحتجاجات الاجتماعية ذات الخلفيات المحددة كمكافحة الغلاء والبطالة وتحسين الخدمات الأساسية ومستويات الأجور والإعانات المقدمة لمحدودي الدخل وغيرها، وبدرجة أقل بالعزوف الشعبي عن المشاركة في الحياة السياسية الرسمية بمقاطعة الانتخابات والابتعاد عن الأحزاب بعدما شاع الشك بصدقيتها وقدرتها على التعبير المنظم عن مطالب وتطلعات المواطنين.
تثقل كاهلنا أزمة الدولة الوطنية في العالم العربي بمستوياتها الأربعة، خطر انهيار الدولة، وتحدي فقدانها شرعية الوجود، وثنائية المجتمع المتطور في مواجهة الدولة التقليدية، وغياب الرضاء الشعبي في الدول المستقرة، وتحول دون اضطلاع مؤسسات الدولة بأدوارها ووظائفها الرئيسية. والحصيلة المؤلمة لذلك في حدها الأدنى هي إعاقة التنمية المستدامة في مجتمعاتنا واستمرار تعثر مساعي التحول نحو الديموقراطية والحكم الرشيد، وفي حدها الأقصى تفكك الدولة وتقطع أوصال المجتمع.
عظيمة هي التحديات الدولية والإقليمية والداخلية التي سنواجهها كعرب خلال الأعوام المقبلة وحولها يكمن مناط البحث عن سبل وإستراتيجيات الحل والتقدم. فهل ستسمح ثقافتنا السياسية وبنية نقاشاتنا العامة، بما صار يغشاهما من تحايل في الطرح وتهافت في القضايا، بالتناول الجاد لتلك التحديات دون خطوط حمراء وبموضوعية جريئة تتناسب مع ما يتهددنا؟ أغالب شكوكي وتشاؤمي لأضع كلمة “أتمنى”.
(كاتب مصري – باحث أول في مركز كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط في بيروت)