المدونات العربية وقضايا المجتمع
إدريس لكريني
القدس العربي 21/05/2008
تنامت ظاهرة التدوين بشكل مكثف ولافت في السنوات الأخيرة؛ بالموازاة مع التطورات التي طالت مجال التكنولوجيا الحديثة عموما وحقل الأنترنت علي وجه الخصوص؛ وأضحت هذه المنابر تتطور بصورة متسارعة دخلت من خلالها عالم المنافسة إلي جانب مختلف القنوات الفكرية والثقافية والإعلامية.. التقليدية.
وقد أسهم توافر مجموعة من العوامل والشروط في هذا التصاعد والتطور؛ فعلاوة علي وجود قوالب جاهزة تقدمها بعض المواقع المهتمة بهذا الشأن لمرتاديها، وعدم تكلفتها المادية، إضافة إلي إمكانية فتحها ـ المدونات ـ بأسماء مستعارة تسمح بمقاربة المواضيع ونشر الأفكار بجرأة وموضوعية؛ بعيدا عن أي إكراه أو ضغط موضوعي أو نفسي، فإن هذه التقنية تتيح إمكانيات تواصلية وإبداعية جمة.
وضمن هذا السياق أكدت بعض الإحصائيات أن عدد المدونات بلغ إلي حدود شهر سبتمبر(أيلول) 2007؛ ما يناهز 106 مليون مدونة بلغات مختلفة؛ وهو رقم مرشح لمزيد من التطور والارتفاع.
وفي المنطقة العربية التي تعيش عددا من الإكراهات والمشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. تزايد الإقبال علي إحداث مدونات تعني بمختلف الشؤون والقضايا والاهتمامات.
ولعل التساؤلات التي تظل مطروحة أمام هذه المعطيات هي: ما هي الإمكانات والفرص التي تتيحها المدونات في منطقتنا العربية الذي يعاني معظم أقطارها من مجموعة إكراهات ومشاكل اجتماعية وسياسية واقتصادية.. مختلفة؟ وكيف يمكن استثمار هذه التقنية الواعدة لخدمة قضايا الوطن العربي في عالم يتطور بسرعة فائقة؟ وكيف يمكن تطوير أدائها في هذا الصدد وتجاوز مختلف الإشكالات والصعوبات التي تواجه مسارها السليم؟
إمكانات مذهلة في محيط مأزوم
نظرا لحيويته وأهميته؛ لقي التدوين إقبالا واسعا في المنطقة العربية؛ حيث برزت العديد من المدونات التي تهتم بمختلف القضايا والشؤون (ثقافية، علمية، سياسية، اجتماعية، رياضية، فنية، بيئية تاريخية دينية تربوية، شخصية، إبداعية..)؛ إلي الحد الذي اعتبر فيه البعض أن هذه الإمكانية انتقلت من مجرد هواية ظهرت لأول مرة بالولايات المتحدة في منتصف التسعينيات من القرن المنصرم؛ إلي قوة ضغط حقيقية في السنوات الأخيرة.
وهكذا مكنت التطورات الحاصلة في مجال التدوين من تجاوز احتكار الدول بقنواتها الإعلامية والتربوية والثقافية للمعلومة والأخبار ووسائل التعبير بصفة عامة.. بل إنها أضحت في الواقع منافسا حقيقيا لهذه القنوات؛ وهو ما تؤكده نسبة التردد والمقروئية المتزايدة يوما بعد يوما لعدد من هذه المدونات؛ التي أتاحت إمكانيات فائقة في التواصل بين مختلف الأشخاص في مختلف المناطق؛ وتبادل الأفكار بصدد عدد من القضايا؛ بعدما أسهمت في تكسير الحدود الجغرافية والاجتماعية والسياسية بين الدول لتعزز تواصلا أكثر نجاعة وتطورا.
ولعل ما يمنح هذه المدونات مصداقية في نظر مرتاديها؛ هو استثمارها لهامش الحرية الذي تتيحه الشبكة العنكبوتية للمعلومات؛ وعدم الخشية من مقص الرقابة الحكومية الذي لم يعد قادرا علي التحكم في هذا المجال المنفلت؛ مما يمكنها من طرح مواضيع وقضايا سياسية واجتماعية وشخصية.. جريئة؛ لا تجد طريقها للمتلقي عادة إلا من خلال هذه التقنية بأسلوب مبسط وساخر أحيانا؛ عكس التقنيات التقليدية التي طالما تغلق أبوابها أمام طرح عدد من هذه القضايا؛ أو تقاربها في أحسن الأحوال بنوع من التحفظ أو الانحراف أحيانا؛ بالنظر للرقابة الذاتية التي تفرضها علي نفسها؛ أو بفعل ضيق هامش التعبير والحريات داخل معظم البلدان العربية.
إن ما يؤهل المدونات للقيام بأدوار طلائعية مستقبلا؛ ويسهم في ازدياد انتشارها وتأثيرها في المنطقة العربية؛ هو اهتزاز ثقة المواطن في مختلف المنابر الإعلامية التقليدية بشتي أشكالها المرئية والمكتوبة والمسموعة؛ المندرجة سواء ضمن القطاع الخاص أو العام.. التي لا تعبر بالضرورة عن همومه وانشغالاته الحقيقية؛ بحكم الضغوطات المختلفة التي تتعرض لها.. في الوقت الذي تستفحل فيه المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية بشكل ملحوظ داخل معظم الأقطار العربية.
فهي ـ المدونات ـ تسمح في جانب هام منها برواج مجموعة من الأفكار والمعلومات المتعلقة بقضايا قريبة من نبض المجتمع، وتعكس مشاكله الحقيقية بشكل غير منمق أو منحرف؛ مما يجعلها تصل بسرعة إلي المتلقي الذي يشعر من جانبه بمصداقيتها وجديتها.
كما أن الإمكانية التي تتيحها المدونات عادة؛ فيما يخص التعليق علي الأخبار والمقالات والدراسات والإبداعات؛ هي مدخل هام يمكن أن يسهم في تعزيز هذه التقنية؛ ويسمح ببلورة نقاشات فكرية جادة وعميقة تطرح الرأي والرأي الآخر بشكل أكثر وضوحا وجرأة وموضوعية.. ويتيح بذلك تكريس ثقافة الاختلاف وتطوير الأفكار علي درب الخروج بخلاصات هامة؛ يمكن أن تسهم في حل عدد من الإشكالات والمعضلات بمختلف مظاهرها وأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية..
إن المتتبع لفضاء التدوين يكتشف أنه أضحي مجالا للنقاش والتواصل والحوار المستمر؛ كما أصبح يتسم بالجرأة؛ إلي الحد الذي جعل البعض يعتبره بمثابة طفرة تحررية نوعية بعد التحول الذي أحدثته القنوات الفضائية في المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة.
وهذا ما سمح للمدونين بتنظيم حملات تضامنية مع مختلف الشعوب المظلومة؛ ومع ضحايا الاستبداد والقمع في مختلف المناطق العربية والعالمية أيضا؛ وحملات تحسيسية أيضا مكنت من الوقوف علي مجموعة من القضايا العادلة (حملات ضد تهويد القدس، حملات ضد الرسوم المسيئة للرسول ص)، كما أسهمت العديد من المدونات في فضح عدد من مظاهر الفساد السياسي والتهميش الاجتماعي.. وأكدت نجاعتها في الوصول بتوصياتها ومطالبها وحملاتها إلي صانعي القرار علي اختلاف مستوياتهم ومجالات اهتمامهم.
وقد حظيت قضايا عربية كبري باهتمام المدونين من قبيل القضية الفلسطينية، والاحتلال الأمريكي للعراق، والتحولات السياسية في لبنان.
هذا بالإضافة إلي قضايا إقليمية ودولية حيوية كالملف النووي الإيراني، تداعيات أحداث 11 ايلول (سبتمبر) 2001 والتحولات السياسية والاقتصادية في أوروبا.
المدونات والتحديات الكبري
إن ما يعزز من مصداقية المدونات العربية ويفتح آفاق المراهنة عليها في عالم سمته التطور والتسارع؛ هو مدي قدرتها علي استيعاب وفهم المحيط العربي بإمكانياته وتحدياته؛ وانفتاحها المستمر علي المشاكل والقضايا الحقيقية للمجتمع والتفاعل معها بشكل إيجابي علي طريق مواجهة العديد من الإكراهات المجتمعية، وتكريس الإصلاح المنشود علي مختلف الواجهات والصعد..
ففي الوقت الذي استوعبت فيه العديد من دول العالم في كل من إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا دروس المرحلة وحجم التحديات التي أصبحت تفرضها التحولات الدولية الراهنة (مخاطر العولمة بكل تجلياتها، أهمية التكتل، الديمقراطية، التربية والتعليم..) وانخرطت بحزم وإرادة قويتين في قطع خطوات مهمة وثابتة علي طريق التنمية الشاملة والديمقراطية الحقيقية؛ تعيش العديد من الأقطار العربية وبحكم الطوق المفروض علي أي إصلاح أو تغيير حقيقيين؛ شبه ركود تعكسه الإكراهات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الداخلية المستمرة؛ والتي لا تخلو في عمقها من تداعيات دولية خطيرة.. من جهة؛ وكذا تنامي مظاهر التهافت علي المنطقة العربية في شكل مشاريع إصلاحية ملغومة؛ أو في شكل تدخلات زجرية مقنعة أو مباشرة (احتلال العراق وما تمخض عنه من آثار كارثية محليا وإقليميا، أزمة دارفور، الأزمة السياسية في لبنان..) بالإضافة إلي تزايد الصراعات العربية الداخلية؛ البينية أو الإقليمية (مأزق القضية الفلسطينية بصفة خاصة، والصراع العربي الإسرائيلي بصفة عامة، قضية الصحراء في المغرب، الاقتتال في الصومال..).
وأمام هذه المعطيات يجد المدونون أنفسهم وجها لوجه مع واقع عربي صعب يفرض كثيرا من التحرك والعمل الدؤوب.
ويعتبر وضع مبادئ واتفاقات عامة تنظم وتؤطر حقل التدوين الذي يزداد إشعاعا وإقبالا؛ علي طريق التنسيق والتواصل والتعاون بين مختلف المدونين (باحثين، مفكرين، علماء، مبدعين، طلبة؛ مهنيين..) الذين يجمعهم هاجس التغيير والانعتاق.. أمرا ملحا وضروريا؛ لما يمكن أن يسهم به في تأسيس عمل تدويني جاد وملتزم بقضايا مجتمعه؛ وكفيل بتخليق هذا الفضاء الحيوي، وقادر علي استثمار الإمكانيات الفعلية التي يتيحها؛ سواء في تأطير وتنشئة وتنوير المجتمع؛ أو الضغط علي صانعي القرار باتجاه بلورة قرارات أكثر مصداقية وقربا من الشعوب.
ويكتسي هذا التنسيق والتعاون أهميته وضرورته بالنظر لعدد من الاعتبارات؛ فالتدوين يفتح آفاقا مذهلة ومتسارعة علي مستوي التطور والابتكار؛ مما يحتم وضع عدد من الضوابط والمبادئ التي تمنع تحوله إلي سلاح عكسي؛ يكرس الفوضي والصراع والميوعة والتعتيم والاعتداء علي حريات وحرمات الآخرين.
وضمن هذا السياق؛ يطرح مضمون ومحتوي المدونات مجموعة من التساؤلات فيما يتعلق بصحة ومصداقية ما يتضمنه من معطيات وأخبار ومعلومات، ومدي انتسابها بالفعل لأصحاب المدونات التي تنشرها، ومدي التزام هؤلاء بأصول الأمانة العلمية والإعلامية في نقل الأخبار والمعلومات بالدقة المطلوبة والالتزام بذكر مصادرها.
ومما يؤكد حيوية وملحاحية التنسيق والتعاون في هذا الشأن؛ هو أن عددا من المدونين تعرضوا بفعل مقاربتهم بشجاعة لملفات حساسة مرتبطة بالأوضاع الاجتماعية والسياسية والحقوقية.. ببلدانهم إلي عدد من التضييقات؛ بلغت إلي حد شطب المدونات وتعريض أصحابها للمتابعة القضائية والسجن (تونس؛ مصر؛ الإمارات العربية؛ البحرين..).
ولعل العمل علي إحداث مدونات عربية بلغات أخري (الإنكليزية، الفرنسية، الإسبانية..)؛ يمكن أن يسهم في فضح الأوضاع التي ترزح تحتها الشعوب العربية داخليا وخارجيا، ويتيح إمكانية التواصل مع مختلف الثقافات والشعوب الأخري وتصحيح الصورة القاتمة التي يحاول البعض تقديمها عن العرب والمسلمين.
وعلي العموم، فالحضور الذي ميز المدونات العربية في السنوات الأربع الأخيرة لا زال بحاجة إلي مزيد من التطور والعطاء؛ انسجاما مع حجم التحديات العربية المطروحة والإمكانات والفرص اللامحدودة التي تتيحها شبكة الأنترنت في وقتنا الراهن