صفحات ثقافية

البوكر العربية”… والصبيانية الثقافية

null
د.خالد الحروب
سجالات جائزة “البوكر العربية” للرواية التي تنهي عامها الثالث تحمل آفاقاً واعدة، وتكشف في ذات الوقت أعراضاً بائسة للمشهد الثقافي العربي. الأفق الواعد يتمثل في النجاح الكبير الذي شهدته هذه الجائزة على رغم عمرها القصير، ذاك أنها وفرت لعشرات الروائيين، المعروفين والجدد إطلالات إعلامية وترويجية ما كان لهم أن يحظوا بها من دون قوائم التصفيات الطويلة والقصيرة وما يرافقها من متابعات وأضواء. كما أنها، بالتالي، أوصلت رواياتهم لدوائر من القراء ما كان لهم أن يصلوها. ثم إنها اشتغلت جسراً لترجمة الروايات الفائزة بالمراكز الأولى إلى لغات أجنبية، وساهمت في توسيع عالمية الرواية العربية بصفة عامة. وإلى جانب ذلك، عملت الجائزة، وتعمل، على ترسيخ تقاليد جديدة في المشهد الأدبي، والروائي منه على وجه التحديد. التقليد الأول الشفافية ووضوح الخطوات. فهذه الجائزة تعمل تحت الشمس بدون تردد، وبوضوح: الكل يتابع مراحل كل دورة من دوراتها، ولا يتوانى في نقد تفاصيل ونتائج كل مرحلة بحق أو بتحامل. والتقليد الثاني الاستقلالية وعدم وجود ضغوط من المؤسسة المانحة. الجائزة ورعايتها المالية مُقدمة من مؤسسة الإمارات في أبوظبي، بيد أن آلية عملها مستقلة تماماً.
والتقليد الثالث، وهو ناتج عن سابقه، يتمثل في استقلالية لجان التحكيم. فمجلس الأمناء يعين لجنة تحكيم جديدة كل سنة، يُراعى فيها ما أمكن التمثيل الجغرافي العربي، وتمثيل النوع والعمر والتخصص. ويحرص المجلس ألا تكون اللجنة مقصورة على نقاد الأدب، فذائقة الرواية تتعداهم والكاتب لا يتقصدهم بنصه وحسب. وكما في لجان تحكيم الروايات في العالم، ينبغي أن تتسع اللجنة لقراء عاديين، وصحفيين، وربات بيوت، وآخرين. وبعد تعيين اللجنة ليس لمجلس الأمناء أي تأثير خلال فترة التحكيم، يرفض المجلس وأعضاؤه أي ممارسة مباشرة أو غير مباشرة على أعضاء لجنة التحكيم، حتى لو كانت مجرد الإشارة عليهم بآلية ما لاختيار الروايات الفائزة. ويعود ذلك لأعضاء اللجنة المعنية، فهم بخبراتهم وتعاملهم البيني يصلون إلى الطريقة التي يرونها مناسبة. ونتيجة ذلك بالطبع أنه ليست ثمة جائزة في العالم، أدبية أو غير أدبية، تقوم على الذائقة والتقدير الذاتي لأشخاص مختلفين تكون موضوعية تامة وعادلة بالمطلق. فمن جوائز نوبل وحتى جوائز المطالعة المدرسية، هناك دوماً نقص ما يمكن نقده.
وعلى رغم كل ما سبق لم تتعرض جائزة أدبية في العالم العربي لما تتعرض له “البوكر” من اهتمام ونقد، وتشكيك واتهام، وهو في كل الأحوال ما يؤكد نجاحها. فمثقفون كبار، وروائيون مبدعون، وكتاب معروفون، يستسهلون الهجوم على الجائزة وتوجيه الاتهامات إليها. وهناك طبعاً ما يمكن نقده في الجائزة كما في أي نشاط آخر، ولكن كثافة النقد وعدم موضوعيته أمر مثير للاهتمام والبحث العميق، ويعكس فيما يعكس سوسيولوجيا مثقف مرحلة الانحطاط. فهنا لا ينجو المثقف من الحالة العامة التي يعاني منها المجموع، مشاركاً من ينقدهم في انفعالاته وردود أفعاله، تتقدمها الحيرة، والشيزوفرينيا، والتهويل، وعقلية المؤامرة، واستدعاء البطولات الدونكيشوتية. ويُضاف إلى ذلك كله، بسب طبيعة الاختصاص، السقوط الأبله في إغواء اللغة وإغراءات الغوغائية. فالحيرة والشيزوفرينيا يستفزهما كون الجائزة منبثقة في فكرتها عن جائزة “البوكر البريطانية”. فهنا نجد المثقف نفسه الذي ينظِّر للمجموع العام بضرورة التفريق بين حداثة الغرب وسياسة الغرب ينزلق إلى جمع الاثنتين معاً، ناسياً تنظيره ونقده السابقين. وتصبح الجائزة، إن لم تتماشَ ومزاجه، “إمبريالية”، والقائمين عليها يحملون أهدافاً مشبوهة. مثقفون وأدباء لا يمكثون في عواصم بلدانهم أكثر مما يمكثون ضيوفاً في محافل غربية حضوراً لندوات ومشاركة في نشاطات، لا يترددون في ترداد ما يلوكه أي أُمي عندما لا يجدون أسماءهم أو أسماء من يفضلونهم في قائمة الفائزين.
وحدة لغة الهجوم مدهشة وتستدعي ألف سؤال. يفاقمها التلذذ المرَضي بتفكير المؤامرة. يفوز روائيان مصريان بالجائزة في السنة الأولى والثانية، ولأن القائمة الطويلة في السنة الثالثة لا تحتوي إلا على اسمين من مصر من ضمن 16 اسماً، فإن ذلك “مؤامرة على مصر” وأدبائها! والمؤامرة نفسها التي تدور كل عام على بلد أو منطقة ما، كانت قد بدأت في عامها الأول ضد دول الخليج لأن القائمة الطويلة لم تحتوِ روايات من هناك. زميلة عضو في لجنة تحكيم الدورة الحالية لم يعجبها أن يُصار إلى حسم أسماء الفائزين بالقائمة القصيرة عبر التصويت وبعد تسع ساعات من النقاش، أي أطول من الجلسة النهائية لمؤتمر كوبنهاجن لحماية كوكب الأرض، انسحبت من اللجنة وأصدرت بيانات انتصارية كأنها خرجت من حرب. هل هناك آلية اخترعها البشر لحسم النقاش الطويل سوى التصويت؟ إذا رفضت الزميلة الكريمة قراراً ديمقراطياً في لجنة مكونة من خمسة أشخاص، فكيف يحق لأي مثقف فينا أن يعترض على رفض الأنظمة المستبدة حولنا لأي خيار ديمقراطي نُطالب به؟ روائية كبيرة كانت تنتظر على أحرَّ من الجمر أن تكون هي الفائزة، وعندما لم تفز قالت إنه لا يشرفها أن تفوز بالجائزة أصلا، وشتمت لجنة التحكيم ومن فيها.
هناك معضلتان ضمن أشياء كثيرة يطرحها الهجوم المتوتر على “البوكر العربية”، أولاهما أخلاقية والثانية رياضية. الأولى هي أن استسهال الهجوم على الجائزة يأتي في جانب كبير منه بسبب استقلاليتها، وعدم وجود أكلاف مباشرة للهجوم عليها. فمعظم الجوائز الأدبية العربية لا تتمتع باستقلالية وشفافية “البوكر العربية”، ولكن تلك الجوائز لها “أب”. و”الأب” هناك يلقن الناقد دروساً قاسية، بالحرمان من الدعوات واللقاءات في البلد المعني، وسوى ذلك. والمعضلة الثانية، أي الرياضية، تكمن في الحقيقة الفلسفية القائلة إن عدد الروائيين الذين من الممكن أن يحتلوا المركز الأول في كل دورة هو واحد، وأن عدد الروايات التي من الممكن أن تحتل مواقع في القائمة القصيرة المكونة من ستة مواقع هو ست روايات فقط. كيف يمكن إقناع الناقمين على الجائزة باستحالة تغير هذه المعادلة الرياضية، واستحالة حشر عشرين روائياً، مثلاً، في المركز الأول؟
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى