صفحات ثقافية

غياب الطيب صالح وحضور تجربته الروائية

راسم المدهون
لا تصدق مقولة إن الأدب العالمي يطلع من المحلية على تجربة كما هي حالها مع تجربة الروائي السوداني الراحل الطيب صالح، والذي لا نبالغ حين نقول إنه نقل أجواء ومناخات وعوالم بلده السودان، ومعه إفريقيا إلى العالم بأسره، من خلال روايات صوّرت بحساسية عالية العادات والتقاليد المحلية، والأهم الذهنية الشعبية وطرائق التفكير، ومعها رؤية الناس هناك للحياة والعالم.
حين قرأنا روايته الأشهر والأهم “موسم الهجرة إلى الشمال” انتقلنا عبر سطورها إلى كل ذلك الفضاء الاجتماعي بالغ الخصوصية، والذي يصعب الوقوف على صورته ومضامينه في أية تجربة روائية أخرى، ذلك أن الراحل الطيب صالح نجح أكثر ما يكون في القبض على “الحالة السودانية” بما هي خصوصية اجتماعية، وبما هي أيضا صور الناس والطبيعة وأيضا صورة الروح لبشر يعيشون في تلك البقعة من العالم بالذات.
هكذا وصلت الرواية إلى أوسع مساحة من القراء العرب ، تماما كما إلى مساحات واسعة من القرّاء في اللغات الأخرى العديدة التي ترجمت إليها، والتي تعرّف خلالها بشر آخرون لا يعرفون السودان على عوالم الطيب صالح وشخصياته الروائية.
من المهم هنا الإشارة إلى ما تتمتع به روايات الطيب صالح من فرادة في أجوائها لعلّها تذكّرنا دائما بذلك الفرح الذي يصيبنا عند اكتشاف عوالم أدبية روائية مغايرة كما كان حالنا مع اكتشافنا رواية أميركا اللاتينية أولا ، ثم الروايات اليابانية بعد ذلك، وما حققته تلك الروايات على الصعيد الكوني من إثراء للرواية العالمية انتشلها من ضيق المساحات الثقافية والاجتماعية التي تتحرك عليها روايات “المركز” الأوروبية والأميركية على السواء. الطيب صالح هو بمعنى ما واحد من روائيي الأطراف الذين القوا بحجر ضخم في بركة سكون الرواية الجديدة في العالم فأثاروا الاهتمام، مثلما أثاروا الأسئلة والجدل.
غاب الطيب صالح ولكن القراء العرب سيتذكرون دوما “عرس الزين” بمناحاتها وأجوائها وعوالم شخصياتها، كما بنكهتها شديدة المحلّية، وبالغة الخصوصية، فمن تلك المحلية والخصوصية بالذات يمكن لنا أن نقبض على حياة اجتماعية وثقافية لها مذاق مختلف. يلفت الانتباه هنا ذلك السحر الخاص والمذاق المميز لتناول الكاتب الراحل لهموم بلاده بجماليات فنية عالية تنكبت عن تقليديات “الالتزام” بمعانيها وأشكالها المتداولة، إذ توغلت رواياته في شقوق القضايا الاجتماعية والإنسانية بأساليب وبنائيات فنية ارتقت إلى مصاف جمالية مميزة تحض على القراءة ، وتمنح القارئ متعة خاصة.
بغياب الطيب صالح تنطوي صفحة هامة وجميلة من الأدب السوداني والعربي والإفريقي، ولكنها من جهة أخرى تظل مفتوحة على مزيد من القراءات العميقة ، التي يمكن أن تكتشف كل مرّة ما هو جديد وغني، مثلما تنفتح على تأثيرات بالغة، هامة ومفيدة في تجارب الكتاب السودانيين والعرب الشباب، والذين أفادتهم عميقا تجارب الطيب صالح وعوالمه.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى