إضاءة لماض أنتج الحاضر
بدر الدين شنن
ليس تكراراً ، وإنما تأكيداً لحقائق ، يحاول البعض إخفاءها تحت رماد النسيان والقهر والجمر . وعلى خلفية تلك الحقائق يمكننا البناء لمعرفة الحاضر القادم من الماضي ..
في شباط 1954 كانت البداية . حيث تمكنت القوى الوطنية بالتحالف مع تكتلات عسكرية مناوئة للديكتاتورية ، أن تطيح بثالث ديكتاتورية عرفتها سوريا مابعد الاستقلال مابين 1949 و1952 ، وأن تؤسس لمرحلة ديمقراطية ، كانت رغم شوائبها ، هي الأرقى بين عهود لاحقة زعمت أنها ديمقراطية ، أو هي بصدد الدمقرطة المرحلية المتدرجة . فقد احتوى المشهد السياسي السوري مابين الانتخابات البرلمانية في 14 آب 1954 وقيام الوحدة السةرية المصرية في شباط 1958 ، احتوى تعددية حزبية سياسية ، أعطت البرلمان روحاً وحيوية ، عبرت عنها التفاعلات الصراعية السلبية والايجابية ، بين مؤيدي الحكومة ومعارضيها ، وأعطت الشعب حراكاً سياسياً نشطاً متمثلاً بالانتماء الحزبي السياسي الحر ، وفي التعبير عن الرأي المعارض والمؤيد ، الذي تجلى بشكل رئيسي ، في مناقشات البرلمان وفي الصحافة المتعددة الخلفيات الحزبية والمستقلة ، وأعطت الإنسان السوري ، رغم زخم الصراعات الدولية على سوريا للهيمنة عليها والالتفاف على ا ستقلالها الوطني ، وأبرزها حلف بغداد ، الذي كان مؤلفاً من العراق الملكي وتركيا وإيران الشاه وباكستان وفرنسا وبريطانيا كأعضاء مباشرين وأميركا وإ سرائيل كأعضاء غير مباشرين ، أعطته الثقة بالمستقبل ، ومنحته الرغيف دون غلاء أوعناء ، وسوق عمل مفتوح ، واقتصاد نشط مستقر . وجعلت من سوريا قلب العروبة النابض .. وقلعة للحرية .
وهذا ، رغم الإمكانيات المتواضعة مامكنها من الوقوف إلى جانب الشعب المصري الشقيق ضد العدوان الثلاثي 1956 الذي شنته عليه كل من بريطانيا وفرنسا وإ سرائيل .
وقد توج تلك المرحلة ظهور المقاومة الشعبية إبان العدوان الثلاثي على مصر ، التي انخرط فيها ، حسب الرقم شبه الرسمي ، نحو مائة ألف متطوع ، قدموا من مختلف الأحزاب والتيارات السياسية والطبقات الاجتماعية الشعبية . وعلى الرغم من وجود تيارات سياسية وقوى اجتماعية لاتخلو العلاقات فيما بينها من التناقضات في المسائل الاجتماعية والسياسية الداخلية ، فإن المقاومة الشعبية بقيت حتى تاريخ حلها مع قيام الوحدة السورية المصرية ، بقيت تمثل وحدة وطنية متراصة نصرة لمصر ، وتحدياً للحصار الاستعماري من كافة أطراف الوطن .
في تلك المرحلة لعبت ثلاثة عوامل دوراً رئيسياً حاسماً في تحقيق ما تم إنجازه على مستوى الحكم ، والعملية السياسية الداخلية والخارجية ، وعلى مستوى مواجهة التحديات المهددة للكيان الوطني .. تزامنت وتكاملت ، من خلال تقاطعات اللحظة التاريخية الإيجابية ، بالنسبة لمصالح لاعبي هذه العوامل . على مستوى الحكم شكل تحالف ” التجمع القومي البرلماني ” الذي ضم ” الحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الوطني وتكتل المستقلين بزعامة خالد العظم والتكتلات العسكرية التي أطاحت بالديكتاتور الشيشكلي ” وقد شاع في الأوساط السياسية في حينه ، أن لجنة خماسية مؤلفة من قيادات هذا التجمع ” خالد بكداش وأكرم الحوراني وصبري العسلي وخالد العظم واللواء عفيف البزري ” هي مصدر القرار في البلاد . والعامل الثاني والهام ، كان القيم الديمقراطية ، التي نظمت التفاعلات السياسية الحادة ، التي كان أبرزها مايجري أحياناً بين الشيوعيين وجماعة الأخوان المسلمين . فعلى أي مستوى من الأنشطة السياسية .. التظاهرات .. حراك هيئات المجتمع المدني .. كان القاسم المشترك أو التتناقض البيني يدور ضمن في الأغلب ضمن الأصول الديمقراطية . وكان الشعب هو سيد الموقف في تحديد القواسم المشتركة ، أو الحكم في التناقضات البينية ، فقد رفع الشعب زعامات وقوى مغمورة وأسقط زعامات كانت تهيمن على البلاد في أزمنة سابقة . والعامل الثالث ، كان الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي ، الذي وقف بحزم ضد الحصار المفروض على سوريا وضد التهديد باجتياحها من الجهات الأربع وتقسيمها بين تركيا والعراق والأردن وعودة العرش الهاشمي إلى دمشق ، وكان أيضاً مع مصر التي بدأت تتبو أ دوراً قومياً تحررياً بارزاً ، لاسيما بعد تأميم قناة السويس وعدم الاستسلام أمام العدوان الاستعماري الصهيوني .
وقد شكل ذلك المناخ الذي أبرز القوى الديمقراطية واليسارية ، التي قادت تلك المرحلة وطبعتها بطابعها ، والذي لعب دوراً كبيراً في فهم مسألة الخيارات الاجتماعية السياسية المستقبلية ، حيث باتت الاشتراكية سمتاً مقبولاً ، إلى حد لابأس به ، على المستوى السياسي والثقاقي ، وباتت أيضاً حديثاً شعبياً مرحباً بها لضمان الاستقلال والحرية والمستقبل المعيشي الكريم . وقد عبر العدد الهائل من المواطنين الذين حضروا الحفل الذي أقامه الحزب الشيوعي عام 1955 ، بمناسبة مرور عام على انتخاب أمينه العام خالد بكداش نائباً في البرلمان ، عبر عن التحول الكبيرالذي بدأ يتبلور في المشهد السياسي السوري . إذ حضر هذا الحفل حسب تقديرات الحزب مائة ألف مواطن .. وقدرت صحف لم يسرها الحفل ، أن الحاضرين لم يتجاوزا الخمسين ألفاً .
ثم جاء العدوان الثلاثي على مصر 1956 والحصار الاستعماري الرجعي على سوريا 1957 ، ما أدى إلى نشوء حالة هي أقرب في تجلياتها إلى التحالف بين سوريا ومصر والاتحاد السوفياتي . فقد تدفقت الأسلحة السوفييتية والشرقية على مصر وسوريا . ودوى إنذار رئيس وزراء الاتحاد السوفياتي للمعتدين على مصر ، لوقف عدوانهم والانسحاب فوراً ، وإلاّ فإن اللاتحاد الفياتي سيحقق ذلك بنفسه . كما دوى صوت الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية ضد كل من تسول له نفسه العدوان على سوريا .
في فترة الحصار على سوريا ، كان الصراع الداخلي يتجلى بين قوى التجمع القومي البرلماني ، التي وقفت ضد حلف بغداد الاستعماري الصهيوني ، وبين القوى خارج التجمع ، التي كان أهمها حزب الشعب والأخوان المسلمون . وكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك على الأوساط الاجتماعية والاقتصادية ، حيث برزت ثلاث تيارات سياسية تتصارع حول الخيارات المفتوحة أمام البلاد . التيار الأول ، كان يمثله الشيوعيون وأصدقاؤهم في أوساط العمال والفلاحين والمثقفين ، الذي كان لايخفي وجوب انحياز الدولة إلى الخيار الاجتماعي المعبر عن مصالح الطبقات الشعبية من خلال التطور الاقتصادي المبرمج . والتيار الثاني ، كان يمثله حزب البعث العربي الاشتراكي وقوى قومية أخرى ، الذي كان يخشى ، متوهماً ، من تنامي شعبية الشيوعيين ، ما سوف يؤدي إلى حصولهم على الأغلبية في البرلمان وتسلم مقاليد الحكم ، الأمر الذي دفعه في حينه إلى التصور أن ذلك سوف يعزله في الداخل ، وسوف يهدد مشروعه القومي الوحدوي . والتيار الثالث ، كان يمثله حزب الشعب والأوان المسلمون وقطاعات واسعة من البورجوازية التجارية وكبار الملاكين ، التي باتت نتيجة التخويف من ” الشيوعية ” تبحث عن مخرج يقيها مصير الخضوع لحكم ” شيوعي ” يتسلم فيه العمال معاملهم وممتلكاتهم . ولما فشلت مساعي قوى هذا التيار لجر سوريا إلى حلف بغداد ، كان لابد لها من التقاطع مع قوى التيار الثاني ، الذي بدأ يطرح الحل القومي ، أي الوحدة مع مصر ، بديلاً للديمقراطية ، وبديلاً للخيار الاجتماعي – الاشتراكي ، الذي قد يخرج عن السيطرة القومية – البوجوازية .
وقد انعكس هذا الصراع على الكتل العسكرية الداعمة للتجمع القومي البرلماني والحكم الديمقراطي ، وأدى بها إلى أن تأخذ زمام المبادرة بالاتجاه القومي – البورجوازي ، دون عداء للتيار الأول ، وقد تجلت تلك المبادرة بذهاب قادة الكتل العسكرية ، في الأيام الأولى من عام 158 إلى مصر ، حيث عقدوا اتفاق الوحدة السورية المصرية ، الذي ا شترط فيه عبد الناصر نقل أنموذج حكمه في مصر إلى سوريا . . وبدا المشهد السياسي السوري أنه يتجه ، بما يشبه الإجماع ، نحو الخيار الذي بلوره التياران الثاني والثالث ، ما أدى إلى ارتباك التيار الأول . فلا هو أيد ” الوحدة مع مصر ” .. الخيار القومي – البورجوازي ، ولاهو عارض هذا الخيار . وذلك دون أن يدعم موقفه نظرياً وسياسياً ، وخاصة فيما يتعلق بجدلية المسألة القومية والصراع الطبقي والديمقراطية ، حيث أتاح لخصومه ا ستخدام هذا الارتباك لصالحهم . وقد ضاعف هذا الارتباك غياب الأمين العام للحزب الشيوعي عن جلسة البرلمانالمخصصة للتصويت على اتفاقية الوحدة السورية المصرية .
هنا ينبغي مقاربة موقف البورجوازية وكبار الملاك من الديمقراطية ومن المسألة القومية ومن التحولات الاجتماعية . لقد تصادمت البورجوازية مع الديكتاتورية من أجل الديمقراطية ، ومن أجل سيادتها على الدولة لضمان مصالحها . وعندما وجدت بالأفق ماقد يهدد مصالحها الطبقية الضيقة ونفوذها السياسي ، خانت الديمقراطية وسلمت مقاليد الحكم لديكتاتورية أخرى ، حيث قبلت بشروط عبد الناصر بحل كافة الأحزاب والتنظيمات السياسية كي يقبل بإقامة دولة واحدة تضم سوريا ومصر .
بعد أشهر قليلة على الوحدة السورية المصرية ، التي سميت ب” الجمهورية العربية المتحدة ” أجاب أحمد قنبر ” وزير الداخلية في حكومات حزب الشعب ” في جلسة خاصة ، لماذا أيد حزب الشعب الوحدة مع مصر .. ألا خوف على سوريا من عبد الناصر ..؟ أجاب ، لقد أتينا بعبد الناصر حتى يخلصنا من الشيوعيين ولضمان مصالحنا .. وعندما نجد لدى عبد الناصر مايهدد هذه المصالح سوف نعيده إلى مصر .
بعد ثلاث سنوات ونيف في 28 أيلول 1961 ، تم إ سقاط دولة الوحدة ، وأعيد إلى مصر ، وعاد أحمد قنبر وزيراً للداخلية في حكومة الانفصال التي شكلها حزب الشعب برئاسة معروف الدواليبي .
كيف ولماذا حدث فصم الوحدة السورية المصرية .. وماهو الثمن الذي دفعه الحلم الديمقراطي و المشروع القومي واليسار السوري وخاصة ” الحزب الشيوعي ” .
الحوار المتمدن