سقطت المآذن و…
الطاهر بن جلون
آه! لو استطاعوا أن يختفوا ، أن يتجردوا ليصبحوا دون رائحة و دون لون، أن يلزموا الصمت واذا أمكنهم أن يكونوا لا مرئيين! ديانتهم، ليمارسوها في أماكنهم، دون ضجة، والاجدى من ذلك ان ينطووا على أنفسهم. فالايمان كعقيدة داخلية، لا يحتاج مساجد ولا يتطلب سوى عدد قليل من المآذن. هكذا نعيش في وضع مثالي. مهاجرون ممتازون. ولا شيء يشوّه المنظر الطبيعي.
مهاجرون يؤثرون العمل ليلاً، خوفاً من أن يزعجوا المواطنين الطيبين الذين يخلدون للنوم. نساؤهم لا ينجبن الاطفال، لأنهم وقبل قدومهم الى هنا، أجروا عمليات ربط لارحامهم. وهكذا يصبح وجودهم خفيف الظل، رزينا في اقامته لدرجة لن يلحظه فيها مخلوق. ولا مكان للّوم حينها. لا وجود للحجاب، ولا للبرقع، ولا حتى للعنصرية. وبالمقابل ماذا فعلت الجبهة الوطنية؟ في غياب هذا الموضوع الغني بالخوف والقلق، سيكون بمقدورها أن تحتج على هذه الرؤية. وستعترض على أن وجودهم بدأ يصبح غريبا، مزعجا، مفاجئا لا يحتمل.
سابقاً ، في بداية السبعينيات، لم يكن للمهاجرين وجود. لقد كانوا هنا، يعملون بقسوة، ولكن دون أن يراهم أحد، أو أن يثار أي حديث عنهم. عاشوا في مدن العبور، على هوامش المدن الكبرى و بعيدا عن الشوارع الرئيسية. الا أن العرب كما هم على حالهم، غير قابلين للاصلاح. وها هم في العام1973، يخرجون سلاح النفط. ويحدثون ما يسمى بـ«الصدمة النفطية» أو «الأزمة النفطية».
حدثت كارثة في أحياء مارساي العفنة ، في ليلة يحرسها عشرات الموتى وكلهم من المهاجرين المغاربة. وفجأة ظهروا في الاعلام. بعض الصحف أضاء على ظروفهم الحياتية، وبعض آخر طالب باعادتهم الى بلادهم كرد على الرئيس الجزائري هواري بومدين. أذكر افتتاحية لجان دوتور على الصفحة الأولى في صحيفة «فرانس سوار» حثّ فيها السلطات العامة على الانتقام. وجب علينا أن نسمعه وأن نرسلهم جميعا الى مكانهم الاصلي، فرنسا ستتطور بمفردها دون مساعدة الأيدي العاملة الآتية من المستعمرات القديمة.
بعد ذلك، لم يتوقفوا قط عن الوجود والبقاء بالرغم من الرفض. لذا، وازاء هذا الرفض، ومقابل ما يطاردهم من تمييز وانطواء، حتى الذين لا يأخذون ديانتهم كمحور أساسي في حياتهم شرعوا يطالبون بها، ويدعون الى المحافظة على الثقافة وروحيتها وعلى الهوية الأصلية. أما الباقي فراح يأخذ، وعلى عجل، زوايا قلقة، ليبدأ فصل جديد من التعصب في مرحلة التورط في العنف. الحوار بين فرنسا والمهاجرين تحوّل الى كابوس من الجهل بين الطرفين . المزيج المتنوع، اذاً، العنصرية المعتادة المستترة في الجهل الجماعي، التعاسة والقلق كل هذه الانحرافات استقرت في البلد، منذ وقت طويل.
الحقيقة تمد جذورها في معاناة الحرب، تنبش ذاكرة ما زالت تنزف. وكما قال هيرمان مينفيل، «أثناء انكاشفها دون التباس، تترك الحقيقة دائما أطرافاً ممزقة». وهذا ما يجب أن تفعله فرنسا التي تضغط من أجل تطهير تاريخها الحديث، وترفض الحقيقة التي لا بد يوما ما أن تقترب منها، أن تدق بابها وتعترف. الجزائر الغارقة في التمزق والوهن، لا تعرف فرنسا السبيل الى التواصل معها وتظن أنها، و من خلال مساعدتها للحكام الفاقدين للشعبية والكفاءة في آن، تقدم بذلك خدمة للشعب الجزائري .
ولكن المشكلة الماثلة كحد السكين في هذا الاضطراب هي أنه، ما بين الانسان والحزن، تختار الدولتان الحزن. ملايين من النساء والرجال هاجروا الى هذا البلد ولم يتمكنوا أن يكونوا أطيافاً تلغي أجسادها، أن يمسحوا هيئتهم الخارجية ولا حتى رغباتهم كي يتمكنوا من العيش في مجتمع يرفضهم كليا. أولادهم، ومن بينهم 40% (كما هو الظاهر)، ممن هم محكومون بالبطالة وبالانحرافات الاجرامية، لجأوا الى إحداث الجلبة والضوضاء، كسروا النظام ، حتى يصرخوا يأسهم وألمهم.
اذاً، المساجد، المآذن، البرقع والعلامات الخارجية الأخرى التي تنم عن الوجود، تعد أمورا ثانوية لا تؤخذ بالاعتبار بمواجهة المشكلة الكبيرة. الهجرة الحلم لم تف بوعودها. وفرنسا تسأل ما الذي ارتكبته حتى تستحق هذا الغزو المربك لثقافة كل ما فيها يثير العصبية واليأس.
تعريب: هيفاء زعيتر عن لوموند بتاريخ (19/12/09)