صفحات مختارة

شعار النهضة وشعارات الأزمة

نصر حامد أبو زيد
كان شعار عصر النهضة العربي – من بدايات القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين – “ليكن الوطن محلا للسعادة المشتركة بيننا نبنيه بالحرية والفكر والمصنع”. مثل كلّ العبارات الدالّة – التي تتجاوز في مغزى دلالاتها أفق القائل كما تتجاوز أفق اللحظة التاريخية التي قيلت فيها – تُنْسَب هذه العبارة إلى كثير من مفكّري النهضة. تنسب إلى رفاعة رافع الطهطاوي وعلي مبارك المصريين، كما تنسب إلى عبد الرحمن الكواكبي السوريّ وإلى كثير من النهضويين في كلّ الأقطار العربية. ومعنى ذلك أنّ أهميتها وعموم دلالتها لا يعودان إلى القائل بقدر أهميتها في ذاتها. سنقوم – أوّلا – بتحليل العبارة تحليلا سريعا، كاشفين عن المغزى العميق للدعوة النهضوية التي تتعرّض اليوم لعمليات تجريف لا تتوقّف باسم “الأصالة” تارة، وباسم “الهويّة” تارة أخرى. وهذا التجريف – بتجلّياته وتعبيراته المختلفة – سيكون محور التحليل في هذه المقالة.
الوطن-الحداثة:
العبارة – الشعار، تتحدّث عن “الوطن” وهو مفهوم حداثيّ يَتَضَمَّن – تضَمُّن لزوم – مفهوم “المواطن” الذي ينتسب لهذا الوطن بالميلاد أو بالإقامة. مفهوم “المواطن” يتضمّن بدوره – تضمّن لزوم أيضا – مفهوم “المساواة” باعتبار أنّ “المواطنين” سواء في الحقوق والواجبات. من هذا الثلاثيّ – الوطن، المواطن، المساواة – ينبثق مفهوم “السعادة المشتركة” التي هي في الفكر الإنساني الكلاسيكيّ – ومنه الفكر الفلسفيّ الإسلاميّ – غاية التجمّع الإنساني، أي غاية الحياة الاجتماعية، تمييزا لها عن التجمّعات الحيوانية التي تسيطر عليها وتحكمها غريزة “حبّ البقاء”. لا يدخل “الدين” في تعريف الوطن، ولا في تحديد هوية “المواطن”، ومبدأ “المساواة” في الحقوق والواجبات يستبعد التمييزات دينية كانت أو عرقية، لغوية كانت أو ثقافية. لنر كيف يحدّد مفكّر نهضويّ – ورائد من روّاد الإصلاح الديني – هو محمد عبده مفهوم “الوطن” ويربطه بالمساواة والحرية: كان هذا التعريف ضمن مقالة نشرها الشيخ الجليل في جريدة الأهرام بعنوان “الحياة السياسية والوطن والوطنية” بتاريخ 28 نوفمبر 1881. في هذا المقال يخوض “عبده” في تحديد معنيي “الوطن” و”المواطنة”، فيربط معنى الوطن بأمرين: الحماية والأمان من جهة، والحرية من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى أنّ تحديده لمعنى “المواطنة” لا يتضمّن إدراج “الدين” فيه:
الوطن في اللغة محلّ الإنسان مطلقا، فهو السكن بمعنى: استوطن القوم هذه الأرض وتوطّنوها أي اتّخذوها سكنا. وهو عند أهل السياسة مكانك الذي تنسب إليه ويُحفظ حقّك فيه، ويُعلم حقّه عليك، وتأمن فيه على نفسك وآلك ومالك. ومن أقوالهم فيه: لا وطن إلا مع الحرية … بل هما سيّان؛ فإنّ الحرية هي حقّ القيام بالواجب المعلوم، فإن لم توجد فلا وطن لعدم الحقوق والواجبات السياسية، وإن وجدت فلا بدّ معها من الواجب والحقّ، وهما شعارا الأوطان التي تُفتدى بالأموال والأبدان، وتُقدَم على الأهل والخلان، ويبلغ حبّها في النفوس الزكية مقام الوجد والهيمان. أمّا السكن الذي لا حقّ فيه للساكن، ولا هو آمن فيه على المال والروح، فغاية القول في تعريفه أنّه مأوى العاجز، ومستقرّ من لا يجد إلى غيره سبيلا، فإن عَظُم فلا يسرّ، وإن صَغُر فلا يساء. قال لابروير (الحكيم الفرنسي): “ما الفائدة من أن يكون وطني عظيما كبيرا إن كنت فيه حزينا حقيرا أعيش في الذلّ والشقاء خائفا أسيرا!”
على أنّ النسبة للوطن تصل بينه وبين الساكن فيه صلة منوطة بأهداب الشرف الذاتي، فهو يغار عليه، يذود عنه كما يذود عن والده الذي ينتمي إليه وإن كان سيّئ الخلق شديدا عليه. ولذلك قيل في مثل هذا المقام إنّ ياء النسبة في قولنا مصريّ وإنجليزيّ وفرنسيّ هي من موجبات غيرة المصريّ على مصر والفرنسيّ على فرنسا والإنجليزيّ على إنجلترا، فأنكر ذلك بعض الناس، وكان في الأمر لا شك سوء فهم أو سوء إفهام.
وجملة القول إنّ في الوطن من موجبات الحبّ والحرص والغيرة ثلاثا تشبه أن تكون حدودا: الأوّل أنه السكن الذي فيه الغذاء والوقاء والأهل والولد، والثاني أنه مكان الحقوق والواجبات التي هي مدار الحياة السياسية، وهما حسّيان ظاهران، والثالث أنّه موضع النسبة التي يعلو بها الإنسان ويعزّ أو يسفل.
يرى النهضويون أنّ بناء الأوطان يقوم على دعائم ثلاث: الحرية – الفكر – المصنع. الحرية شرط لازدهار الفكر، والفكر هو الحامل للتقدّم العلمي (المصنع). بعبارة أخرى يرى النهضويون أنّ الأوطان لا تنبني إلا على أعمدة الحداثة الثلاثة: الحرية وإعمال العقل والانتقال إلى عصر الصناعة بالعلم الذي لا يزدهر إلا بازدهار الفكر، وازدهار الفكر لا يتحقق إلا بالحرية. الحداثة في هذا المفهوم منظومة متكاملة ترتبط مكونها الأول – الحرية – بمكونها الثالث – عصر التصنيع – الذي يخصَّب بدوره المكون الأول: يتحرر الفرد أولا – فيزدهر الفكر – وبالتصنيع يتحرر الإنسان من قيود الضرورات الطبيعية بالعلم فتصبح الحرية سلوكا ومنهج حياة تتخلل شرايين الحياة الاجتماعية، تصبح الحرية بداهة لا تحتاج لإثبات، ويصبح الإخلال بها جريمة لا تغتفر. لذلك لا تفهم مجتمعاتنا عجز الحكومات في المجتمعات الغربية عن إلجام الساخرين من النبي محمد ومن المنددين بقيم المسلمين. المسألة ببساطة أن “الحرية” – حرية الرأي والتعبير – من المقدسات التي لا يجوز المساس بها. يعجب المسلم العادي: ولكنهم يسخرون من مقدّساتي فيجب لجمهم، ولا يجد المسلم من يقول له: إنّها مقدساتك وعليك أن تتعلّم كيف تدافع عنها بالفكر دون أن تطالب بإخراس الآخرين. المشكلة أنّ المسلم يقع ضحيّة من يحسَّن له ممارسة العنف لحماية المقدّسات.
تجريف الوطن:
باسم الأصالة والهوية تمّ تجريف الوطن واستلاب المواطن، كما تمّت مصادرة الحريات. لكنّ العجيب أن قيمتيِ “الأصالة” و”الهوية” تتعرّضان بدورهما إلى عمليات تجريف باسم “الدين”، الذي أصابه تجريف حادّ بدوره حوَّله إلى “وقود”، مجرّد وقود، لعربة السياسة. والتجريف ظاهرة معروفة في التعامل مع الأرض الزراعية: إزالة خصوبة الأرض من أجل تحويلها إلى أرض بناء. إنها عملية أشبه بعملية “الإخصاء” التي كانت تُمَارس في القرون الوسطى مع العبيد الذكور لكي يُمكّنوا من خدمة النساء الحرائر دون خطر. يستلزم الأمر إزالة خصوبة التربة للوصول إلى القاع الصلب حتى تصلح الأرض لوضع الأساسات والأعمدة الخرسانية، التي يقام عليها البناء. في بعض الأحيان تسمى هذه العملية “تسقيع”، وذلك حين تترك الأرض بوارا، أي بلا زراعة، حتى تجف وتفقد بالتدريج خصوبتها.
بدأ الانقلاب على مشروع النهضة تدريجيا وعلى مهل منذ أوائل الربع الثاني من القرن العشرين. كان مشروع النهضة الحداثي مواكبا لمشروع “تحديث الفكر الديني”، الذي استشهدنا بأحد رواده – محمد عبده – في تعريف معنى الوطن والمواطنة والحرية. تحددت “الأصالة” في الفكر الحداثي العربي في التراث الإسلامي العقلاني الإنساني، تراث المعتزلة وابن رشد تحديدا، أي في التراث الذي يمكن أن يستوعب قيم الحداثة داخل المنظومة الدينية الإسلامية. في عملية استدلالية واعية أدرك المصلح الحداثي أن التراث – مصدر الأصالة وحاملها – ليس تراثا واحدا. ميّز عبده تمييزا واضحا – وهو يناقش قضايا المرأة : تعدّد الزوجات وحقّ الطلاق والميراث والنقاب – بين عالم القرآن وعالم الفقه. وهو في هذا التمييز – الذي سنناقشه في مقالة مستقلة – يدرك كيف أن الفقهاء فهموا القرآن وفسّروه من خلال رؤيتهم للعالم، ويطرح عبده – على استحياء وبطريقة ضمنية – ضرورة فهم القرآن وتفسيره في ضوء رؤيتنا الحديثة للعالم.
هكذا فتح عبده الباب لقاسم أمين ولحركة تحرّر المرأة التي تزعمتها هدى شعراوي بعد ذلك، وتولّى تطويرها الطاهر الحداد التونسي. لماذا السعي إلى تحرير المرأة من قيود سجن البيت بالتعليم ومن قيود النقاب بخلعه علنا؟ كان ذلك في سياق تحرر وطني عام من ربقة الاستعمار والاستبداد الملكي في ثورة 1919 التي رفعت شعار “الدين لله والوطن للجميع”. لم ينفصل تحرير المرأة عن تحرير الوطن، ولم ينفصل كلاهما عن تحرير المواطن وتحقيق المساواة. كان الوطن يبنى بالحرية والفكر، وحاول “طلعت حرب” قيادة معركة التحرر الاقتصادي لبدء ثورة التصنيع. يلم يكن ذلك منفصلا عن إصلاح التعليم: إنشاء الجامعة الوطنية العصرية عام 1908 التي فتحت أبوابها للرجال والنساء والتي أُعلن في حفل افتتاحها أنها “لا دين لها إلا العلم”. كانت العلمانية ترفرف في الأفق في سياق صياغة دستور 1923 حيث لم يجد أعضاء الصياغة من الأقباط ضررا في النص في الدستور على أن “دين الدولة الإسلام”. من الواضح أن هذا التوافق كان تعبيرا عن ثقة الأقباط في الوطن الذي ينبني، ومن الواضح أن إدراج هذه المادة كان أمرا قيد النقاش، أي لم يكن أمرا مسلّما به. بعد سنوات قلائل – عام 1926 تحديدا بعد محاكمة الشيخ على عبد الرازق بسبب كتابه المعروف “الإسلام وأصول الحكم” – كتب طه حسين: ظن الناس أن لا ضرر من هذه المادة من الدستور – الإسلام دين الدولة – ولكننا واثقون الآن أن فيها الضرر كل الضرر.
كانت المعركة هي التي خاضها كتاب الشيخ على عبد الرازق “الإسلام وأصول الحكم” معركة إلغاء الخلافة عام 1924 حيث كان الأتراك – بزعامة مصطفى كمال – يريدون أيضا بناء وطنهم على أساس مفاهيم الحداثة وقيمها، القيم التي لا تستوعبها الإمبراطورية التي كانت تتقطع أوصالها في عصر اضمحلال الإمبراطوريات. بين دعاة الحداثة ودعاة العودة إلى إقامة “الخلافة” – الذين تواطأت معهم كل الزعامات وفي ضمير كل منهم أن يحظى بالمنصب الرفيع – نشأ النزاع. كانت تلك هي بداية التراجع التدريجيّ عن قيم الحداثة ومفاهيمها، بداية تجريف مفاهيم الوطن والمواطن باسم الأصالة التي تمّ تجريفها باختصارها في التراث الفقهي، وباسم الهوية التي تمّ ابتسارها في “الدين”. تمّ إنشاء جماعة “الإخوان المسلمين” عام 1928 بقيادة الشيخ حسن البنّا وعلى رأس أولوياتها “أسلمة” المجتمع المصرى بأساليب “الدعوة”، أي أن الجماعة كانت في أصل نشأتها جماعة دعوية تنأى بنفسها عن شئون السياسة والحكم. لكن هدف “أسلمة المجتمع” يفصح ضمنيا عمّا تمّ إعلانه من بعد من أنّ المجتمع المصري لم يعد مجتمعا مسلما. الدلائل على انحراف المجتمع تكشف عنها رسائل حسن البنا في مظاهر “العلمنة” التي تتركز في المؤسسات السياسية، الأحزاب والبرلمان، التي يرى البنا أنها تشرذم الأمة وتمزق روابط وحدتها. ومن مظاهر العلمنة التي تزعج الجماعة الفنون والآداب – خاصة فنون النحت والتصوير والموسيقى والمسرح – التي تشيع قيم الفحشاء والمنكر. من مظاهر العلمنة المثيرة للحاجة للأسلمة شيوع الفكر الفلسفي “الغربي” الذي يحتفي بالإلحاد ويدافع عن حرية الفرد وعن حرية المرأة. يرى البنا – ومن بعده سيد قطب – أن ينابيع الإسلام الأولى الصافية قد أصابها التلوث بترجمة الفلسفات اليونانية والهندية والفارسية. ويصل الأمر إلى غاية التمييز العنصري حين ينسب إلى غير العرب – من الفرس خاصة – أن دخولهم الإسلام كان وبالا على هذا النبع الصافي؛ لأنهم أدخلوا في الإسلام معتقداتهم الوثنية. وباختصار كان مشروع جماعة الإخوان – وما يزال – مشروعا دينيا ينظر لمفهوم الموطن والمواطنة وما يرتبط بهما من مفاهيم الحرية والمساواة نظرة تشكك وريبة في أحسن الأحوال، ونظرة رفض وتكفير في أسوئها، إنها “نتنة” في لغة سيد قطب الذي لا يميز بين قيم الانتماء وأمراض “التعصب” التي لا يقرّها الإسلام. هكذا تم تجريف الوطن، باختصاره في دين الأغلبية. وتم تجريف الدين باختصاره في الرؤية الفقهية للعالم التي كانت محل نقد خطاب الإصلاح ومراجعته.
تجريف الدين:
في تقديري أن هذا بالضبط ما حدث للتدين، وهو أمر لم يحدث بين يوم وليلة، بل حدث في مدى زمني فسيح؛ أي أن ما حدث أقرب للتسقيع منه للتجريف، لكن النتيجة واحدة، فقد فَقَدَ التديُّنُ خصوبته وروحه. فقد قدرته على النمو والازدهار بفعل تفاعل التربة – تربة الدين – مع الهواء والشمس والريح والمطر. هذا الدين تحول إلى تظاهرات شعائرية تتمثل في امتلاء المساجد بالمصلين لدرجة خنق المرور – المختنق أصلا – في شوارع القاهرة والمدن الكبري في مصر. تمتلئ المساجد بالمصلين في صلوات الجمعة والأعياد وصلوات التروايح في شهر رمضان. مظاهر للتدين رائعة (!) تعجز عن أن تخفي خواء روحيا وأخلاقيا ملموسا في مجال التعامل اليومي. صارت رحلات الحج والعمرة درجات: عادي وسياحي وممتاز،وصرنا نرى بعض الأطباء – المسئولين عن رعاية مرضى الحالات الحرجة في المستشفيات السياحية الخاصة – لا يهمهم أمر مرضاهم بقدر الحرص على تأدية شعائر الحجّ والعمرة بانتظام مع أنّ حجّا واحدا يكفي.
صارت “الصدقات” العلنيّة مجالا للمنافسة بين رجال الأعمال، وتحوّلت مجتمعات الإيمان إلى مجتمعات “الصدقة” بعد أن كانت في سبيلها لتكون مجتمعات “التضامن الاجتماعي”. صارت “موائد الرحمن” في شهر رمضان مجالا للمفاخرة بين المشاهير، وأصبح المواطن (الكلمة ليس لها معنى في هذا السياق) يتمتع بتذوق أصناف الأطعمة الفاخرة إذا وجد له مكانا في هذه الموائد.
في مقابل هذه المظاهر التدينية في شهر رمضان تعرض الفضائيات برامج الفتاوى جنبا إلى جنب مسلسلات الترفية ومسابقان مسح المخّ. كله “بيزينيس” بالمعنى الرثّ لاقتصاد “السمسرة” في مجتمعاتنا، الاقتصاد غير الإنتاجي، الذي لا يقيم صناعات ثقيلة ولا يخلق فرص عمل للمواطنين بقدر ما يركز على إنتاج سلع تهدف لإفقار المواطن الفقير أصلا عن طريق سيل الإعلانات المستفز لسلع لا قيمة لها جعلها الإعلان سلعا أساسية. كيف يخلق “الإعلام السِّلَعي” بالتخييل بالصورة احتياجات غير حقيقية ولا ضرورية في ذهن الفقراء، فيتنافسون على الحصول عليها. من تلوم ومن تدين؟
لكنّ للتخييل دورا أخطر في زمن الإيمان بمعجزات الحظّ (برامج من سيربح المليون، ثقلك ذهب، برامج الأسئلة التي يتمّ تلقّي الجواب عليها بالنقّال بجوائز تتراوح بين بضعة ألاف من الجنيهات وعشرات الآلاف من الدولارات، والإجابة معروفة والفائز هو المحظوظ)، ومعجزات اللوتارية – اليانصيب – والمحصلة أنّ قيمة “العمل” فقدت مصداقيتها. ولعلّ مسألة “الحظّ والنصيب” – ودورها في تجريف الطاقة الإبداعية للخيال وتحويله إلى “توهمات” أقرب إلى حالة الوقوع تحت تأثير المخدرات – جزء من آلية ذهنية وعقلية ترتبط بنمط الإنتاج النفطي.
يحتاج الأمر البدء بطرح التساؤل البلاغي: هل كان اكتشاف منابع الطاقة – البترول – في بلادنا العربية النفطية ضربة حظّ من السماء؟ نعمة أنعم الله بها على هذه البقعة المباركة من الأرض التي ظهر فيها الإسلام ومنها انتشر إلى كل بقاع الأرض فملأها نورا وسلاما ومحبة بعد أن كانت ترزح في ظلمات الكفر والشرك والضلال؟ يبدو أن بعض البسطاء من ملح الأرض يعتقدون ذلك، خاصة هؤلاء الذين ضاقت بهم سبل العمل في أوطانهم فهاجروا إلى بلاد النفط بحثا عن فرص عمل أفضل وفرص حياة أفضل. ويبدو أنّ “الهبات والمنح” التي بدأت تنهال من حكام الدول النفطية على المجتمعات العربية غير النفطية تؤكد هذا التصور. إنها هبات ومنح في شكل إحسان لإنشاء مناطق سكنية ومستشفيات ومدارس في مجتمعات أفقرتها الحروب، وأدخل الفساد – الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وسنؤجل الحديث الآن عن الفساد الثقافي والفكري – أغلبية مواطنيها تحت حزام الفقر.
بدلا من الاسترسال في تعداد نعم ذوي الفضل على ذوي الحاجة – نحن نتحدث عن دول ومجتمعات لا عن مؤسسات خيرية وأفراد – لنتأمل تأثير هذه البنية الإنتاجية على البنية العقلية. لم يكتشف العرب البترول، إنما اكتشفته شركات أجنبية وبمقتضى هذا الاكتشاف حصلت على امتيازات التنقيب والاستخراج ومدّ الأنابيب للتصدير والتصنيع إن أمكن. هذه ثروة طبيعية انبثقت من الأرض بلا عمل ماديّ أو فكري. الآخرون الأجانب عملوا وفكروا ونحن ننعم بثمرات عملهم وفكرهم. هكذا سخّر الله لنا هؤلاء الأجانب (الكفار!) يعملون ويعرقون ويفكرون لنتفرغ نحن لما هو أهمّ: عبادة الله الواحد القهار والتسبيح بحمده. هذا ليس استنتاجي بل هو كلام قاله الشيخ (الإمام !) محمد متولي الشعرواي رحمه الله وردده بعده كثيرون. تلك إذن إرادة الله أن يسخِّر الكفار تسخير عبودية لعباده المؤمنين.
انعكست هذه البنية الاقتصادية – ثروة بلا عمل – في بنية عقلية فحواها معرفة بلا تفكير. التفكير كله حدث في الماضي، وقد قال الأسلاف كلّ شيء، وكلامهم وحلولهم مخزونة في بطون كتب التراث، مثل النفط المخزون في باطن الأرض. كما أننا وصولا إلى الثروة المخبوءة بلا فعل سوى الحفر – أو نكتري من يحفر لنا بالأجر – فإننا لا نحتاج أكثر من البحث في كتب الأسلاف عن حلول لكل مشكلاتنا. وليس مطلوبا من كل شخص أن يفحص ويبحث فهناك حرس التراث وحراس العقيدة والأمناء على دين الله من الفتنة والردّة. هم وكلاؤنا في البحث والتقصّي، وما علينا إلا استفتاؤهم وطاعتهم. ثروة بلا عمل = معرفة بلا تفكير، وكفي الله المؤمنين شرّ ما قد يسبّبه التفكير من كفر وضلال وإلحاد.
لا تحدّثني إذن عن الغرب وعقلانيته ولا عن تقدّمه العلميّ ولا عن الانجازات التي تحققت في مجال احترام الحريات والمساواة وحقوق الإنسان، ولا عن الثورة الهائلة في مجال الاتصالات والمعلومات. كلّ ذلك حلال لنا أن نستمتع به ونوظّفه في تعميق إيماننا وفي خدمة ديننا، لكن أن نفكّر كما يفكّرون، وأن نساهم معهم في تطوّر المعرفة والعلم وألا نكون مجرد مستهلكين، فهذا تجديف؛ لأنّ هؤلاء الناس قد استبدلوا حاكمية البشر بحاكمية الله (سيد قطب رحمه الله)، فهم يعيشون “جاهلية القرن العشرين” – عنوان كتاب لمحمد قطب – رغم تقدّمهم المادي والعلمي والتقني. هؤلاء القوم نقلوا مركز ثقل الكون من الله إلى الإنسان وفصلوا الإنسان عن جذوره الروحية. حوّلوا الإنسان إلى كائن مستهلك يبحث عن أقصى إشباع لحاجاته المادية، فضاع الإنسان وتفرّقت به السبل، بدليل عودة البحث عن الدين في كل أنحاء المعمورة. هكذا يتم نقد الحداثة باستعارة مفردات “ما بعد الحداثة”، هكذا شهد شاهد من أهلها (ومن دقنه وافتل له حبل من يقال في المثل الشعبي المصري). إذا كان أهل الحداثة ينقدونها ويهلهلونها فلماذا تصدعون رؤوسنا بها؟ “الإسلام هو الحلّ” صار شعار الأزمة.
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى