إشكالية المثقف والدولة/السلطة
نصر حامد أبو زيد
الزواج الكاثوليكي بين المثقف والسلطة، استبعاد العامة:
ثمّة اعتقاد دوغمائيّ عند الفصيل الأكبر من المثقّفين باستحالة التغيير دون مساندة السلطة. أقول اعتقاد “دوغمائي”؛ لأنه نتيجة تراكم تراث طويل ممتدّ من تقسيم الناس إلى “خاصّة” و”عامّة”، حيث لا يسمح بتداول المعرفة “الحقّة” إلا بين “الخاصة”، بينما يترك العامة لعقائدهم وتصوّراتهم المريحة. يكفي للتدليل على هذه الحقيقة التاريخية ما كان يدور داخل قصور “الموحّدين” في الأندلس من نقاش فلسفيّ حول حدوث العالم وقدمه، بينما لا يسمح، خارج أسوار القصر، إلا باتباع العقائد القائمة على أساس الفهم الحرفي للنصوص الدينية.
في هذا التصنيف التمييزيّ بين البشر، يتّفق كلّ من “أبي حامد الغزالي” و”ابن رشد”، رغم البون الشاسع بينهما في مواقفهما اللاهوتية والفلسفية. إنّ كثيرا من المثقّفين المعاصرين يؤمنون أنّ ثمّة قضايا ومسائل لا يجب أن تناقش إلا داخل الأكاديميات، حفاظا على عدم المساس بعقائد العامّة، وهذا هو نفس المنطق القديم. مفهوم “الخاصة”، في الفكر المعاصر، يتسع ليشمل المفكّرين والمبدعين ورجال السياسية، وفي عصر الليبرالية الاقتصادية يشمل “رجال الأعمال”. كلّ هذه التمييزات والتصنيفات، في جوهرها، قيود تنتمي إلى عصور مضت، لكنها ما تزال سائدة للأسف الشديد في عصر انتشار التعليم، والثورة التكنولوجية في مجال الاتصال: عصر السماوات المفتوحة والإنترنت. والأهم من ذلك عصر “ديمقراطية المعرفة”.
يجب أن يتمكن المثقف من إنتاج خطاب لا يضع السلطة في بؤرته سلبا ولا إيجابا. وليست هذه دعوة للتوقّف عن نقد السلطة، بكلّ تجلياتها الاجتماعية، والسياسية، والثقافية: أعني عدم اختصار مفهوم “السلطة” في نظام الحكم. بعض المثقفين يؤمن أنّ التغيير لا يأتي ولا يتحقّق إلا من أعلى، بينما أتصوّر أنّ التغيير الدائم لا بدّ أن يأتي من القواعد لا من القمم. تستطيع السلطة تغيير القوانين، لكنّ هذه القوانين تظلّ فاقدة الأثر ما لم تتغيّر الأذهان.
يجب على المثقف أن يحتفظ لنفسه بمسافة خارج مفاهيم السلطة، حتى لو كان النظام السياسيّ يتبنّى بعض المفاهيم التي يتبنّاها المثقف. هذه المسافة تسمح للمثقف بالاستقلال الفكري الذي يحميه من أن يقوم بتبرير القرارات السياسية أو الدفاع عنها. الاستقلال عن السلطة لا يعني معاداتها، بل يهدف إلى ترشيدها؛ فالسياسة هي فنّ تحقيق الممكن، والفكر سعي لاكتشاف المجهول وفتح آفاق الممكن. المثقّف الغربي متحرّر من تلك القيود الكلاسيكية، التي تصنّف الناس إلى خاصة وعامّة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، يسمح واقع المجتمعات الغربية – التي تأسست فيها الديمقراطية على أساس حرية الفرد – بتداول الأفكار، ليس فقط خارج إطار سيطرة السلطة – أي سلطة اجتماعية أو سياسية أو دينية – بل ضدّ هذه السلطة تحديدا. منطقة “المحرّم” و”اللا مفكر فيه” تتّسع في ثقافتنا، بينما تضيق إلى أقصى حدّ في الثقافات الغربية. من أقدس المقدّسات في هذه المجتمعات: حقّ حرية الرأي، وحقّ حرية التعبير. ولهذا لا تفهم شعوبنا – وبعض مثقفينا للأسف الشديد مرة أخرى – عدم قدرة الحكومات في هذه المجتمعات الغربية على كبح جماح الأصوات المتطرفة ضدّ الإسلام هنا وهناك. إنهم يطالبون الحكومات بالحظر والمنع قياسا على ما ترتكبه السلطة – بالمعنى الواسع لكلمة السلطة، أو فلنقل السلطات – من حماقات ضدّ حرية الفكر والتعبير باسم “الحفاظ على الثوابت”. وهو مفهوم مضلّل ربما نناقشه في مقالة مستقلة. المشكلة في تحالف المثقف مع السلطة في عالمنا أنّ السلطة تعتمد في تأسيس مشروعيتها على الماضي، بينما يجب أن تستمدّ السلطة – أيّ سلطة – مشروعيتها من الحاضر الحيّ، وليس من الماضي الميّت. أقصد بالحاضر الحيّ: الحاضر المتواصل مع الماضي تواصلا ديناميكيا نقديا خلاقا. الحاضر، الذي يعيد إنتاج الماضي بالترديد والتكرار، يفسح المجال لقيام ديكتاتوريات قمعية تسلطية.
دين السلطة وسلطة الدين:
انظر حولك في إيديولوجيا السلطات السياسية، المتمثلة في الألقاب والأسماء التي يحملها الحكام، بل وأسماء بعض الدول. هذا فضلا عن الدساتير – إن وجدت – التي تصر على احتكار السلطة للمعنى الديني، حين تقرر أن للدولة – في مجتمعات حديثة متعددة الأديان، بل ومتعددة الانتماءات المذهبية داخل نفس الدين – دينا. تتضمن معظم هذه الدساتير مادة: “الإسلام دين الدولة الرسمي، والشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي – أحيانا أحد مصادر – للتشريع”.
الدولة ذات الدين تحتاج لسلطة دينية تحدّد معنى هذا الدين، وتحتاج لسلطة سياسية تحمي هذا الدين. وتستقطب هذه السلطات – بالجزرة أو بالعصا – فصائل من المثقفين والمفكرين الذين لا يملون التصدّي للدفاع عن “ثوابت” – دينية ووطنية وقومية وثقافية، في الأعراف والتقاليد الأخلاقية والعائلية – ضدّ التغيير والتطور. باختصار يصبح الدفاع عن هذه الثوابت/الأقانيم دفاعا عن كلّ الأوضاع الراهنة، والسماح ببعض مظاهر التجميل الخارجية في المباني والشوارع.
كلّ هذا التجمّد يؤثّر بشكل أو بآخر علي ذهنية المسلمين، الذين يعيشون في الغرب، والذين تتزايد عند أغلبهم سيكولوجية الخوف من فقدان الهوية، التي انحسرت أخيرا في الهوية الدينية، نتيجة الأسباب المذكورة. يضاف إلى ذلك التحوّل الذي أحدثته مأساة الحادي عشر من سبتمبر، وما تبعها من تفجيرات في مدريد ولندن، بالإضافة إلى مقتل المخرج الهولندي فان جوخ على يد شابّ من أصول مغربية، في تدشين العلاقة بين الإرهاب والإسلام، الأمر الذي خلق حالة الإسلاموفوبيا في الغرب. وهكذا أصبحت العلاقة بين المسلمين في الغرب وبين مواطنيهم علاقة توتّر وتوجّس وشكّ متبادل.
زاد من تعقد الأمر مسألة “حرية التفكير والتعبير” التي لا تُساوم في الوعي الغربي، والتي أدت إلى ازدياد الاحتقان المعادي للغرب في العالم الإسلامي: الكارتون الدانمركي، وتصريحات بابا الفاتيكان، وأفلام اليميني الهولندي فيلدرز، وأخيرا مسألة “المآذن” في سويسرا، مجرد أمثلة. المسألة ليست بالضبط مكانة الإسلام في الغرب، فثمّ دعوات الآن، هنا وهناك، للسماح للمسلمين بالاحتكام إلى الشريعة في شئون الأسرة، بل هي العلاقة بين المسلمين وبين مواطنيهم غير المسلمين في بلاد الغرب. المشكلة هي التي يطلق عليها الساسة ورجال القانون اسم “مشكلة الاندماج” ويتناولها المفكرون والمثقفون من مداخل مختلفة، مثل “التعدد الثقافي”، “النسبية الثقافية”، مفهوم “المواطنة” في الدولة الحديثة المتعددة الأعراق والثقافات والأديان .. الخ
مشروع الإصلاح الدينيّ المؤجل:
هل توقّف المشروع الإصلاحيّ التنويريّ – أتردّد في استخدام كلمة تنوير بسبب ما علق بها كما يعلق بكثير مثلها من حمولات إيديولوجية – الذي بدأ في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؟ نحن مغرمون بالبكاء على الماضي، فقط حين يصبح ماضيا. هذا المشروع الإصلاحي الماضي كان ملعونا في زمنه: محمد عبده كان مرفوضا، وما يزال، من المؤسسة التي حاول إصلاحها ففشل. قاسم أمين: تجهّم له “سعد زغلول” الزعيم السياسي، و”طلعت حرب” الرائد الاقتصادي، فضلا عن الخديوي. الطهطاوي، قبلهما، تم نفيه إلى السودان. قصة طه حسين وعلي عبد الرازق ثم خالد محمد خالد ولويس عوض قصص معروفة، لكن ما حدث لمحمد أحمد خلف الله بسبب رسالته لنيل درجة الدكتوراه عن “الفنّ القصصي في القرآن” بإشراف أمين الخولي عام 1947 غير معروف، وقصة “أبو زيد الأول” الذي رفعت ضده دعوى تفريق في محكمة دمنهور عام 1917-1918 بسبب قوله إنّ القول بنبوّة أدم، أي أنّ آدم كان أوّل الأنبياء، يعتمد على أدلّة ظنّية وليس على أدلّة قطعية. رفع عليه البعض دعوى ردّة مطالبين بالتفريق بينه وبين زوجته أمام محكمة دمنهور الابتدائية التي حكمت بالردّة والتفريق. لكنّ محكمة الاستئناف بالإسكندرية ألغت الحكم، والقصة بتفاصيلها المثيرة يمكن قراءتها في مجلة “المنار” العدد ا. هناك قصص أخرى وقعت خارج مصر يمكن أن تضاف: ما حدث للحدّاد في تونس وما حدث لمحمود محمد طه في السودان. ليس صحيحا إذن أنّ التنوير تحقّق ثم انطفأ؛ ذلك أنه لم يغادر حدود العواصم فأمكن حصاره وقتله. غدا أتوقّع أن يبكي أخلافنا علينا بعد أن نمضي. المشروع لم يتوقّف ولكنّ محاولات حصاره وخنقه تتزايد بسبب هذا الزواج الكاثوليكي بين المثقف والسلطة.
التنوير نجح في الغرب بسبب استقلال المثقف، واستقلال الفكر، عن أن يدور في فلك أيّ سلطة. التنوير في عمقه هو تحرير العقول من كلّ السلطات، سياسية واجتماعية ودينية. وليس معنى تحرير العقل تدمير هذه السلطات، بل تحجيم مجال تأثيرها. من هنا ارتبط التنوير في تطوره بإبداع سلطات موازية لتحجيم تغول السلطة السياسية، مثل السلطة الرقابية والتشريعية – النابعة من ممثلي الشعب عبر تطوير آليات الديمقراطية – والسلطة القضائية المستقلة والسلطة الرابعة، سلطة الرأي العامّ المتمثل في الصحافة والإعلام المستقلين، وهي أهمّها. من هنا إقرار مبدأ “الفصل بين السلطات”. كلّ هذا لم يتحقق في مجتمعاتنا، ما زالت السلطة السياسية تتغوّل على باقي السلطات، وأحيانا تحوّلها إلى مجرّد أبنية وهياكل وظيفية. الصحافة والإعلام في قبضة الأنظمة السياسية، أو في قبضة المال الذي أصبح جزءا جوهريا من السلطة. المال في العالم العربي ليس نتاج العمل، بل هو إما نتاج ركاز الأرض –البترول- أو نتاج السمسرة. كل ذلك يكشف عن بعض أسباب الخلل في البنى التي يمثل التنوير تهديدا لاستمرارها، فلا تبخل بأي جهد يقتله، أو يخنقه، أو يحاصره وهذا أضعف الإيمان في ظل العولمة التي تكشف عن بعد كل الأسرار.
التواصل مع العامة، كيف؟:
والسؤال الآن: كيف يتواصل المثقف بخطابه مع دائرة أوسع من الجمهور؟ وكيف ينتج خطابا عميقا ومفهوما في نفس الوقت؟ ليس عندي وصفة جاهزة لحلّ هذا المعضل، الذي أعتبره تحدّيا حقيقيّا لكل مثقّف في مجتمعات العالم الثالث، حيث “التعليم” في أزمة عضال. المسألة ليست إنتاج خطاب شعبوي، يطبطب على عواطف وغرائز الجماهير. يقوم الإعلام بتحقيق ذلك بنجاح ساحق: أعني يسحق سحقا كل خطابات المثقفين. المطلوب خطاب نقدي يحترم عواطف الناس ومشاعرهم، دون أن يزايد عليها. من المؤكّد أنّ ما لا تصنعه الشعوب لا يستقرّ في وجدانها الثقافي. وما حدث من تشويه للحداثة وابتسار لقيمها في عملية “التحديث” في العالم العربي لم تقترفه الشعوب، بل اقترفته السلطة التحديثية، بمعاونة مثقف حداثي ظل يراوح مكانه بين التراث والحداثة، دون أن ينتج وعيا علميا بأيّ منهما. لا يمكن تحقيق حداثة علوية – من أعلى – مع المحافظة على البنى التقليدية تحت أيّ مسمّى.
موقع الآوان