الصحوة الإسلامية: الأسباب والنتائج
منذر خدام
لقد استخدمت العرب فعل “صحا” ومنه “الصحو” بمعنى انجلاء الغيم أساسا، لكنها استخدمته أيضا بمعنى ارتفاع النهار، أو الخروج من حالة السكر. ليس في استخدام الفعل “صحا” ما يشير لغويا إلى الاستيقاظ من النوم كما في الاستخدام الاصطلاحي الدارج لمفهوم “الصحوة”، أي ” لقد كان العرب نوما فصحو أي استيقظوا من نومهم”. بهذا المعنى فإن مصطلح “صحوة” لا يخاطب واقعا عربيا، فالعرب لا يزالون نوماً، بل غارقون في نومهم حتى الثبات رغم قرع الطبول من حولهم، وكأن التاريخ قد دفع بهم إلى قاعه حيث بقايا شعوب كثيرة بائدة.
وإذا نظرنا إلى المصطلح من زاوية جذره اللغوي الذي يعني انقشاع الغيوم وصفو السماء، فإن المصطلح أيضا لا يخاطب واقعا عربيا لأن سماء العرب ملبدة بالغيوم أكثر من أي فترة أخرى في تاريخهم وهي تشتي باستمرار أزمات على كل صعيد ومن كل لون حتى أصبحت مألوفة إلى درجة لم يعد من الممكن تصور وجود العرب بدونها.
قد يكون المصطلح قد استند إلى جذره اللغوي الذي يعني ارتفاع النهار، بمعنى أن ليل العرب قد استطال كثيرا حتى أن جاءه الإسلامويون بصبح منير سماؤه صافية ونهاره يعد بشمس مشرقة تبعث الحياة في جسد العرب الذي شارف على الموت. لكن واقع الحال يقول غير ذلك فليل العرب لا يزال يستطيل، بل ازداد حلكاً خلال العقود القليلة الماضية رغم صحوة الإسلاميين ونوم غيرهم، حتى انعدمت الرؤية أو كادت من أمام البقية الباقية من أصحاب الرؤية “الثاقبة” وهي قليل عديدها وتزداد ندرة على ندرة، مع كل استطالة جديدة في ليل العرب.
وإذا كان مصطلح “الصحوة” لا يستند إلى جذوره اللغوية السابقة الذكر، فلا بد والحالة هذه من أن يستند إلى جذره اللغوي الباقي الذي يعني خروج العرب من حالة السكر مع أن إسلام العرب قد حرم المسكرات كلها. ثم أن السكر يفترض ضمنا وجود ما هو قابل للسكر من عقل أو ما شابه يكون فاعلا في وجود العرب في العصر الراهن. وعلى افتراض أن السكر المعني هنا هو السكر بالمعنى المجازي، حيث أن الإنسان يمكن أن يسكر فرحا من نجاحاته لا من إخفاقاته وهذا ما حصل للعرب في فترة من تاريخهم عندما كانوا قاطرة التاريخ الحضاري للإنسانية جمعاء في فترة صعود الحضارة العربية الإسلامية، لكنهم بعد تلك النجاحات التي حققوها في جميع ميادين العلم والتقدم منحوا عقولهم إجازة لا تزال مستمرة حتى الوقت الراهن حتى كادت هذه الإجازة تتحول إلى استقالة فعلية.
يتضح مما سبق أن مصطلح “صحوة إسلامية” ليس له في اللغة العربية أي جذر يستند إليه أو عليه، فسماء العرب لا تزال ملبدة بالغيوم التي تمطر عليهم مشكلات وأزمات من كل نوع، وليلهم لا يزال مستمرا دامسا حتى تكاد الرؤية تنعدم فيه، وعقل العرب لا يزال في إجازته التي تشبه الاستقالة من التاريخ أو تقاربها. وفي البداية كما في النهاية وكمحصلة لا يزال العرب نوما رغم قصف الرعود من حولهم. فالصحوة التي قال بها الإسلاميون، وقال بما يشبهها(ثورة، تقدم، نهضة..) “العلمانيون” على اختلاف مشاربهم، لا تعبر عن واقع حال العرب في الوقت الراهن، كما لم تعبر عنه منذ ما أصطلح عليه بعصر النهضة عند العرب أي منذ قرن ونيف من السنين. فالعرب لا يزالون سائرين بخطى كبيرة و متسارعة على طريق الخروج من التاريخ. لقد خرجوا وبنجاح من وضعية العالم الثالث إلى وضعية العالم الرابع والخامس رغم كل ما يمتلكونه من عناصر التقدم عكس الاتجاه، وهم في طريقهم لاحتلال الموقع الأخير على سلم التقدم بالمعنى الحضاري الشامل. السبب في كل ذلك يكمن في طبيعة النظام السياسي الذي بنوه على امتداد التاريخ ولا يزالون مستمرين في التمسك به وتجديده ألا وهو النظام الاستبدادي. الإسلاميون وأشباههم كما العلمانيون على اختلاف تلاوينهم لم ينقضوا هذا النظام الذي توارثوه جيلا عن جيل بالمعنى البنيوي، فاكتفوا بنقده الاستبدالي لا غير. والاستبداد كما ذكرنا أكثر من مرة فإنه يتمحور حول السلطة، في حين يتمحور النظام الدكتاتوري حول الدولة، أم النظام الديمقراطي فهو يتمحور حول المجتمع. وإذا كان النظام الدكتاتوري قد مثل ضرورة في التاريخ وبالتالي فقد لعب في زمنه دورا تقدميا فيه، وإذا كان النظام الديمقراطي هو الذي يلعب هذا الدور في التاريخ المعاصر، فإن النظام الاستبدادي كان على طول الخط عبئا على التاريخ يثقله يشده نحو الوراء يخرج من هم فيه منه، وهذا هو حال العرب اليوم كما كان حالهم لقرون مضت.
إن الحديث عن الصحوة الإسلامية، وهي تسمية أطلقها على كل حال الإسلاميون على أنفسهم، يحيلنا مباشرة لا إلى دور نهضوي معين يمكن أن تتضمنه الصحوة، بل إلى تلك الإشارة المتضمنة في الخطاب السياسي اليومي والتي تعاير الدخول النشط للحركات السياسية الإسلامية ميدان المعترك السياسي الراهن. لقد كان الإسلام الديني والإسلام الأيديولوجي عبر التاريخ في خدمة النظام السياسي الذي شيده، هكذا كان في عهد الراشدين وفي العصر الأموي وفي العصر العباسي وفي العهد العثماني وفي العهود المعاصرة والراهنة. ربما الاستثناء الوحيد في هذا السياق هو ما حصل في إيران عندما نجح رجال الدين في الوصول إلى السلطة عبر انتفاضة شعبية منذ نحو ثلاثة عقود. وحتى في المثال الإيراني فإن الدين كان في خدمة بناء الدولة، حيث نجح الإيرانيون في إعادة قراءته من منظور نهضوي معين انعكس ذلك في بناء السلطة الإيرانية على أسس ديمقراطية في إطار الاتجاه الواحد، وفي التركيز على الاستجابة لتحديات العصر على الصعيد العلمي والتكنولوجي والاقتصادي وقد حققوا نجاحات مشهودة على هذه الصعد.
بالنسبة للإسلام السياسي في العالم العربي فهو في غالبيته العظمى يحاول الإجابة عن الأسئلة التي أخفق القوميون واليساريون عموما في الإجابة عنها، وتسببت في خروجهم من دائرة الفعل السياسي، هي ذاتها أسئلة النهضة الأولى أي تلك المتعلقة بالخروج من التخلف وتحقيق الوحدة القومية، والتحرر من الاستعمار بمختلف أشكاله وتحرير الأراضي العربية المحتلة. وكان السبب في ذلك هو عجزهم عن بناء النظام السياسي القادر على الدخول بهم في العصر وفق شروطه ومتطلباته. بدلا من ذلك لقد أعادوا إنتاج النظام الاستبدادي ذاته الذي تنطحوا للقضاء عليه .
وإذ يحاول الإسلام السياسي في البلدان العربية الإجابة عن الأسئلة السابقة الذكر فإنه لا يقترح نظاما غير النظام الاستبدادي ذاته، وهو في ممارسات بعض اتجاهاته يقدم نموذجا عن هذا النظام شبيها بالنظام الطالباني في أفغانستان. غير أن بعض اتجاهاته الأخرى الأكثر اعتدالا يحاول الدخول في العصر بمظاهر عصرية وهو في حقيقته لم يقطع مع الماضي الاستبدادي الذي سرعان ما يرتد إليه في اللحظات الحاسمة. وإذا كان البعض الأول من الإسلام السياسي قد اعتمد على الإرهاب كوسيلة لتحقيق طموحاته السياسية فإنه قد نجح إلى حد كبير في إعطاء قيمة انفعالية سلبية للإسلام بصورة عامة لدى الآخرين، لكنه في الوقت ذاته شكل عامل جذب كبير لما يمكن تسميتهم بالمنبوذين اجتماعيا. بالنسبة لهذا النموذج للإسلام السياسي فإن العودة إلى الماضي هي الحل لمشكلات الراهن وبالتالي فهو يرفض الدخول في العصر وفق شروطه ومتطلباته بل وفق شروط ومتطلبات الماضي.
النوع الثاني من الإسلام السياسي هو الآخر يعمل على نموذج سياسي استقاه من الماضي، لكنه يحاول الدخول إليه أو بناؤه بوسائل وأدوات العصر، كما يفعل الإسلام الإيراني أو من نهج نهجه بهامش من الاختلافات التي تراعي الخصوصيات المحلية أو العقائدية مثل حزب الله أو الإخوان المسلمين في مصر أو حزب النهضة في تونس أو تيار الترابي في تونس أو الإخوان المسلمين في سورية وغيرهم في بلدان عربية أخرى. لذلك فإن العديد من المفردات السياسية المعاصرة أخذت طريقها شكلا إلى خطاب هذا النوع من الإسلام السياسي مثل مفاهيم الديمقراطية والحرية والاختلاف والتسامح وغيرها كثير. أقول شكلا لأنها في الخطاب السياسي أو الفكري الواحد تتحايث مع مفردات فكرية وسياسية أخرى نقيضة لها لكنها أكثر أصالة واستقرار منها من قبيل الحاكمية لله، وثنائية الإيمان والكفر والحضور الكثيف للتراث كمرجعية في فكر وسلوك هذا النوع من الإسلام السياسي. لم يعد من مجال معرفي أو علمي أو اجتماعي إلا وأصبغوه بصبغة إسلامية، حتى العلوم الطبيعية حاولوا إعطاءها صبغة إسلامية في تعبير عن نزعة مفرطة للتمايز. فهناك الاقتصاد الإسلامي وعلم الاجتماع الإسلامي والفن الإسلامي والتربية الإسلامية وحتى الرياضيات الاسلامية والفيزياء الاسلامية والنكاح على الطريقة الاسلامية..الخ. لقد أصبحت صفة ” الاسلامية” لازمة لأي ميدان معرفي أو سلوكي لدى تيارات الإسلام السياسي على اختلافها. هذا النمط من التفكير والسلوك لا يقبل أن يتحدد على قاعدة الاختلاف مع غيره بل على قاعدة النفي وهذا من طبيعة الاستبداد، وبالتالي فهو يتناقض بنيويا مع الديمقراطية وما يرتبط بها من مفاهيم مثل الحرية والتعددية والاختلاف وتبادل السلطة..الخ، وفي أحسن حالاته يمكن أن يقبل بها تكتيكيا أو في إطار الاتجاه الواحد. من هذه الناحية فإن الإسلام السياسي ” المعتدل ” لا يختلف عن التيارات القومية واليسارية التي سبقته وعرفت ذاتها بأنها علمانية، وقدمت نماذج في الحكم استبدادية بامتياز تسببت ولا تزال تتسبب في الكثير مما تعانيه الشعوب العربية من تدهور شامل على كل الصعد الوطنية والقومية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية..الخ.
وإذا كان هذا التدهور الشامل في وجه من وجوهه هو من الأسباب الرئيسة لصعود الإسلام السياسي بمختلف أشكاله، إلا أن هذا الصعود لا يشكل صحوة بالدلالة النهضوية المتضمنة في مصطلح ” صحوة”، ولا يشكل في الحد الأدنى إيقافا لعملية التدهور الجارية والمستمرة بل تسريعا لها من خلال تأجيجه للصراعات الطائفية والمذهبية عداك عن السياسية. ولا يغير من هذه الحقيقة كون بعض فصائله (حزب الله وحركة حماس) قد حققت نجاحات باهرة على صعيد مقاومة إسرائيل فهي محكومة بالأفق ذاته والمآل عينه بدرجات مختلفة بعض الشيء.
لكي تأخذ الصحوة التي يجري الحديث عنها بعدها النهضوي فعلا ينبغي أن تأخذ صبغة وطنية لا إسلامية أولا، ووان تعمل على الدخول في العصر وفق شروطه ومتطلباته وبأدواته لا بشروط وأدوات الماضي ثانيا. وثالثا ينبغي أن تعمل على نقض الاستبداد في الثقافة وفي المجتمع وفي الدين وفي السياسة، أي أن تؤسس لثقافة الحوار والاختلاف والتعددية حيث تتحدد الأطراف فيها، إسلامية كانت أو علمانية، دينية أو لا دينية، ذكورية أو أنثوية، أقواميه عربية أو غير عربية على قاعدة الحق بالوجود المختلف والحق في الدفاع عنه كوجود مختلف في إطار بيئة قانونية مشبعة بقيم الحرية والديمقراطية.
الحوار المتمدن