وعي الحاضر وتأهيل الذات
(كلماتٌ لمجلة “الحوار” في ذكرى انطلاقها*)
ياسين الحاج صالح*
سجّلت السنوات الأخيرة من العمل العامّ المُعارِض والمستقلّ في سورية تطوّراً مهمّاً تمثّل في اندراج الحقوق الفرديّة والجماعيّة للكرد السوريين بَنداً ثابتاً على أجندة العمل الوطنيّ. قد تتفاوت التعبيرات عن هذا الحضور، وقد يكون مثارَ أخذٍ و ردّ هنا وهناك، إلاّ أنّ التّجاهل لم يعد ممكناً. النظام ذاته اضطرّ لأخذ هذا الواقع بعين الاعتبار في تصريحاتٍ معروفة، وهي إنْ لم تتمخّض عن شيء عمليّ فإنّها مؤشرٌ على حضورٍ عام للمطلب الكرديّ.
لا ريبَ أنّ لكفاح الشعب الكرديّ من أجل المساواة والحقّ في تمثيل الذّات الدور الأول في بروز قضيته كقضية وطنيّة.وفي المقام الثاني تنامي الوعيّ في أوساط الديمقراطيين السوريين، أحزاباً ومثقّفين و نشطاء مستقلّين، بأنّ رؤيةً ديمقراطيّة لسورية لا تتضمّن المساواة الفرديّة والجمعيّة بين السكّان هي رؤيةٌ مشوّهة ومنقوصة، وقبل كلّ شيء غير ديمقراطية.
نقترب من تقدير القيمة الحقيقية لهذا التطوّر بالتنبّه إلى أنّه أضحى في حكم الممتَنع أن يجري تغييرٌ سياسيّ في سورية دون أن يخاطب المطالب الكرديّة ويتفاوض مع ممثليّ الشعب الكردي في سورية. لقد تأسّست الشراكة في صنع المستقبل الوطنيّ على الشراكة في خوض النضال من أجل المساواة والديمقراطيّة.
ولقد وجد هذا التطور الفكريّ السياسيّ صيغةً مؤسّسيّة له تمثّلت في “إعلان دمشق” الذي شاركت في تأسيسه أحزابٌ كردية. ورغم أشكال متنوّعة من التضييق تتعرّض لها قوى الإعلان، ورغم اجتهاد النظام في فرطه وتصفيته، ورغم التحوّل الكبير في ميزان القوى النسبيّ بين النظام والمعارضة لمصلحة الأول، إلاّ أن الإعلان يبقى الصيغة المنظّمة الأصْلَح للتفاعل والتنسيق بين قوى المعارضة السوريّة، العربيّة والكرديّة بصورة خاصّة. وهو بذلك يستجيب لهدفٍ أساسيّ نَذَرْت مجلة “الحوار” نفسها له، أعني الحوار العربيّ الكرديّ.
أعطي شخصياً أهمية كبيرة للتفاعل الإنسانيّ المُعافى بين المشتغلين في الشأن العام، وتعزيز أجواء الثقة والمودّة بينهم، وتطوير أهليتنا الفكريّة والثقافة المتواضعة عموماً. هذا مهمٌ لأنّ تفاعلاتنا شحيحة أو غير سويّة، ولأنّ علاقاتنا وأجواءنا موسومة عموماً بتدنّي مستوى الثقة والتفاهم، ولأنّ سويتنا الفكرية والثقافية متواضعة في الغالب. وهو أكثر أهمية بعد في شروط تتّسم بانكفاء الفاعلية العامّة المترتّبة حتماً على انتعاش أحوال النظام واستئنافه جهوده لحصار وضرب وتحطيم أيّ نشاطٍ معارض. وهو أخيراً ما يقع في صلب “رسالة” منبر ثقافيّ مثل “الحوار”.
المستقبل غامض، وقدرتنا على صنعه لا تزال محدودة. لكننا مطالبون بوعي حاضرنا دون أوهام تهوينية أو تهويلية، وبالعمل على صنع أنفسنا في صورة أكثر تسامحاً وإنسانيّة وانشراح صدر. فهذا ما يسوّغ لنا التطلّع إلى مستقبلٍ أكرم.
*كاتب وباحث سوري- دمشق
*العدد 60-61 من مجلة “الحوار” (فصلية ثقافية حرّة تصدر في سوريا منذ العام 1993- غير مرخّصة- تهتم بالشؤون الكردية وتهدف لتنشيط الحوار العربي-الكردي)