صفحات ثقافية

من يوميات سعدالله ونوس غير المنشورة أيام في القاهرة

null

ترك سعدالله ونوس يوميات دوّنها في عشرة دفاتر كبيرة استودعها زوجته فايزة شاويش وابنته وصديقه الكاتب فيصل دراج.

إنها مفاجأة كبيرة ولافتة تؤرخ لمسيرته الفكرية والمسرحية والسياسية والإنسانية.

أخبار الأدب” المصرية التي تفرّدت بنشر جزء من هذه اليوميات. ولم تقرر عائلة ونوس نشر هذه الكتابات.

نقتطف من هذه اليوميات من “أخبار الأدب” في هذه الذكرى.

منمنمات تاريخية، ثلاثة أجزاء. الحصار والمذبحة أو باختصار الهزيمة، وهذه منمنمات (1) والانقلاب المسرحية التي تتناول أول تدخل عسكري في السياسة وهناك منمنمات (2) والانحلال؛ المسرحية التي تتناول مجيء العسكري الى قريته لافتتاح قصره وهذه منمنمات (3)، ولكن لماذا لا تكون الأولى حول المرحلة الفيصلية بحيث يكون ثمة اتساق في الأجزاء الثلاثة. وأدع الحصار والقلعة خارج هذا المشروع الثلاثي. أليس ما أحلم به هو شهادة على العصر الذي عشت فيه. إن هذه الثلاثية ستكون بمثابة الشهادة. والمنمنمات هي الشكل الموافق لمعالجة مثل هذه الفترات التاريخية الواسعة.

نمت جيداً هذه الليلة. تلفنت لمحسنة. وقت شديد الازدحام.. قدمت لي القاهرة أكثر مما قدمته للمسرح العربي. وهذا الاهتمام الذي يبديه الناس بي يكفي لكي يشعرني بالامتلاء، وبأنني لم أعش عبثاً. لكن لست من القوة بحيث أتجاوب مع هذا الاهتمام بشكل صحي ينعكس علي وعليهم! كيف همشت نفسي كل هذه الفترة وهناك من ينتظرني بهذه الحرارة، وبهذا الأمل!

أفطرت. تلفنت ماجدة الرفاعي. وعدتها أن أزور دار الثقافة الجديدة بعد زيارتي للوزير فاروق حسني. التقيت عبدالرحمن الصالح. تناولنا القهوة معا. أعدت له المبلغ الذي قدمته لي فِرقة دبي في دمشق خلال مهرجان دمشق الماضي. أستغرب أن أزعج نفسي بهذه الصورة. وقال لي إنهم أولاد. وقال لي إنهم محرجون وبسبب الحرج لم يجرؤوا على لقائك. وفي النهاية أنت أكبر بكثير من أن تهتم بهذه الصغائر. شرحت له شعوري بالإهانة فاستكبر أن يراودني مثل هذا الشعور، ولكن لماذا كل هذا اللغو، وفي قصة بائسة كهذه القصة. ألا أحاول استنقاذ حقوقي بطريقة متكبرة! ليذهبوا الى الجحيم! أعرف أنه ليس إيجابياً ولا تقدمياً أن يتخلى المرء عن حقوقه. ولكن مع بدو كهؤلاء، يخلطون الحقوق بالصدقة لتذهب حقوقي الى الجحيم.

وزارة الثقافة مبنى أبيض وأنيق. مكتب الانتظار مريح ثمة لوحات تقليدية وتمثال من الخزف كان ورائي. إحساس بالخفة.. ما أثقل جهاز الدولة. هناك رجل ينتظر هو الآخر. الوزير شاب وسيم، متفرنج، أمضى سنوات طويلة في باريس وروما.. استقبلني على الباب، وحياني بالقبلات.. وجلسنا في ركن من أركان المكتب الواسع المفروش بالسجاد والمزين بلمسات شرقية. هل أقول إن الاستشراق يبدأ من فرش المكتب.. وبدأ الوزير يتكلم. اندفع فوراً للحديث عن الملك هو الملك وعظمة النص وأهمية العرض. رن التليفون.. حزرت من الكلام أن يوسف إدريس على الخط.. ودافع الوزير عن حفل الافتتاح، وقال له “إنهم أولاد ولا يجوز أن نبالي بهم. إنهم غير متحضرين. عرض يعجب به يوسف إدريس وآدم حنين ولويس عوض والوزير لا يمكن أن يكون عرضاً سيئاً. ثم نحن لم نقدم عرضاً مسرحياً، نحن أردنا أن نقدم حفلة منوعة.. لا.. دول ما يعرفوش حاجة..” ويبدو أن يوسف اشتكى له على لويس عوض. فطمأنه، وقال له سأتكلم معه، وما تهتمش.. وتعرف مين عندي دلوقتي.. وذكر له اسمي.. ويبدو أن يوسف قال له ما يعرفش يلتم علي واتفقنا على أن نلتقي ونسهر معا. وبعد التليفون عاد الوزير بشيء من الزهو، وبثقة بالنفس يتحدث عن منجزاته. قلت له: المشكلة في البلاد العربية أنها حولت وزارات الثقافة الى ملاحق لوزارات الإعلام.. وأن العمل الجاد ينبغي له أن يركز على الأساسيات، وعلى بناء ثقافة تستمر وتتنامى. وأن هذه الموالد والمهرجانات لا تخدم الثقافة إلا قليلاً بل هي تتحول الى عبء على الثقافة. لكنه انبرى للدفاع، وقال إنه يخلق الأسس لصناعة ثقافية منتجة، وأنه بتسويق هذه الصناعة سيغطي نفقات بناء ثقافي مستقبلي، وحدثني كيف أخرج من الخراب والإهمال أماكن أثرية هامة، وكيف رممها وحوّلها الى مسارح متحررة في بنائها وتسمح للإبداع بالتجدد والحرية. حدثني عما فعله بمبنى الغوري وما يفعله بمبنى مقياس النيل، وما فعله بمبان أخرى، وكيف افتتح الأوبرا في ميعادها وكيف حوّل المستودعين الطويلين الجانبيين الى مسرحين إضافيين وصالحين للتجريب ولخلق علاقات بصرية جديدة بين المتفرج والممثل. في حين أن الجميع كانوا يريدون أن يحولوا المستودعين الى مساكب زهور وحدائق. و.. في زمنه نال نجيب محفوظ جائزة نوبل. ولم يكن ذلك ضربة حظ، وأنما يعود الفضل الى المناخ الذي وجد، والذي جعل الأدب العربي يصل الى الغرب.. وهو يعتقد أن أدبنا عظيم لكنه معزول، ومتى انفكت العزلة عنه سيحتل مكانه بين الآداب العالمية المرموقة. وهو ليس مهتماً بقي وزيراً أم لم يبق. لديه عمله، ولديه فنه. لكنه الآن لا يرسم إلا قليلاً.. وقد فوجئ به كل المثقفين في مصر، لأنهم لا يتذكرونه إلا صغيراً، وحين فوجئوا به وقد نضج.. وهذا طبيعي.. وفي غربته لم يكن يفعل شيئاً إلا متابعة النشاط الثقافي في بلده وما يجري فيها.

وهكذا.. وهكذا. كان يرافع ضد خصوم لا أعرفهم. وكانت مرافعته مليئة بالزهو والتثاقف. وهو في النهاية مصري تأورب، وعاد الى مصر ليقود الثقافة بعين الغربى الذي يحب الغرائب، ويشجع الفولكلور، ويقنعنا بأن أصالتنا كامنة فيما لدينا ولا نحتاج الى أي جهد سوى الكشف عن كنوزنا الشعبية وموجوداتنا التعبيرية وصقلها وتصديرها.

عدت الى الفندق. محسنة تلفنت مرتين. شعرت بالتعب. لا أريد الاعتذار. والوقت ضيق.. بعد الظهر جاء محرر في مجلة الهلال واصطحبني الى الدار لإجراء ندوة.. دار الهلال في المبتديان شاهد تاريخي وأثري. هذا المبنى الذي كان يغويني بالأماني وبالأحلام غير المؤكدة، ها هو يستقبلني بصورة مختلفة تماماً.. إني أدخله كاتباً يجمع الكثيرون على تقدير وتمييز عمله. دار عتيقة، والدرج العريض يوحي بعراقة شائخة ومتعبة. صعدت الدرج التقيت الدكتور أمين العيوطي. إنه يزداد نحولاً وتدهوراً، لكن ضحكته الخجولة التي تكشف عن فم كبير ما زالت كما هي. تبادلنا القبلات وفاحت رائحة الخمر. إحساس بالرثاء والتقزز. لم يستطع أن يمنع نفسه من الشراب ظهراً.. ثم جاء علي الراعي وعاطف مصطفى مدير التحرير، وبعدهم يوسف القعيد. لن أتحدث عن الندوة، لأنها ستنشر في الهلال.

وفيما كنا نتحدث جاء آخر الصعاليك بهجت عثمان متأبطاً حقيبته وأوراقه وكتبه ونظارته. بعد انتهاء الندوة، نزلت مع بهجت وذهبنا الى بيت توفيق صالح حيث موعدنا مع سهرة الحرافيش التي تضم نجيب محفوظ، وأحمد مظهر، وعادل كامل (هو الآن مسافر) إضافة الى توفيق وبهجت. هذه السهرة تبدأ في السادسة بعد الظهر. حيث يلتقون جميعاً في كازينو قصر النيل، ويبقون هناك حتى الثامنة تماماً. بعدها يأتون الى بيت توفيق يتناولون العشاء ويشربون. (نجيب وتوفيق لا يشربان) حتى الساعة الحادية عشرة ثم ينهضون ويغادرون البيت. يركبون السيارة ويضمون الى الهرم أو على طريق سقارة في مشوار ليلي بالسيارة يستمعون خلاله الى أغاني سيد درويش ومحمد عبدالوهاب القديمة، وحديثاً أضيف الى مكتبة الأشرطة أغنية أم كلثوم الأطلال.

في الطريق الى بيت توفيق والزحام شديد، كان بهجت يحكي عن زمننا، “نحن الجالية العربية في الوطن العربي”، وعرجنا على ناجي العلي، وشتم بهجت محمود درويش، وقال لي تصور أنهم عملوا أفيشاً إحدى رسوم ناجي وتحتها أبيات كتب عليها للشاعر الكبير محمود درويش، ولا يوجد أي إشارة لناجي. أما عبدالله حوراني فما عاد يطيق رؤيته. إنه ينفر حتى من السلام عليه.. والانهيارات مستمرة. وهو يتناول حقن الأنسولين بانتظام.. ولم يبق أمامنا يا سعدالله إلا الشغل. هذا هو كل شيء.. أن نشتغل، وقد صدر له كتاب بهجاتوس منذ أيام. وبهجت يغالي في المديح والتعبير عن عواطفه، وهذا يربكني ويشعرني أني لست على طبيعتي.. أني أتحرج وأتضايق. وسيزداد حرجي وضيقي حين سيأتي بهجت وتوفيق في تبادل مدحي أمام نجيب محفوظ، كما سيصل هذا الضيق حد الغضب وإحساس الاختناق عندما سنركب السيارة ويتحول بهجت السكران الى إنسان لزج يكرر العبارات، ويكرر العواطف، ويكرر المدائح. لم أعرف كيف أجاريه، ولم أعرف كيف أجاريه، ولم أعرف كيف أستمتع بالمشوار، والغناء. كنت أريد أن أصمت وأتأمل.الخضرة تحف بالطريق في جانبيه، والرائحة الطازجة الخضراء الندية تنفذ الى أعماق (شم رائحة مصر)، وصوت أم كلثوم يتهادى جميلاً، وقبلها صدح صوت عبدالوهاب بأغنية “من أد إيه كنا سوا”، ويبدو أن الأغنيات مرتبطة بذكرى ما عند نجيب “تلك أغنية حبه الأول” هذا ما قاله بهجت ولكن من يستطيع أن ينفذ الى عالم نجيب الداخلي.. الى حياته السرية وذكرياته. في السهرة لم أكتشف ما هو جديد أو غير متوقع. نجيب محفوظ مهزول الجسد. ووجهه نحيل تعلوه جبهة عريضة ملقاة الى الخلف، ونظارته سوداء. وفي أذنه جهاز سمع. لم يعد يرى إلا بصعوبة. إنه لا يستطيع القراءة، ويكتب بخط كبير وبصعوبة بالغة، وهو لا يسمع جيداً ولا بد أن ترفع صوتك عالياً، وأن تتكلم في أذنه حتى يسمعك، وهو سمح، ومتواضع، وشديد البساطة، يضحك من قلبه، وضحكته صافية رقراقة ومتموجة، وتلك الشامة الشهيرة قرب أنفه من الناحية اليسرى.. “وهل هناك أجمل من لقاء الأديب بالأديب” هكذا أجابني حين عبرت عن حرجي من التطفل على سهرتهم الحميمية، واستنكر ذلك، وقال وافقنا ورحبنا بمجيئك. وحين تقول له شيئاً فإنه يصغي بكثير من الجدية وما زال يندهش دون تصنع وكأنه يسمع أخبار الأدباء أو حواديث الثقافة والمثقفين لأول مرة. لمم أحاول أن أكون فضولياً. ما كنت أسأله إلا السؤال الذي يعرض خلال الحديث. “أنا أقول لك.. قبل المقاطعة العربية كان ناشري يطبع 20000 نسخة في الطبعة الأولى، ولكن بعد المقاطعة خفض الكمية إلى 10000، وهو يدفع لي بانتظام. طبعاً ما انت عارف في هذا الجو الفاسد لا يمكن أن تتوقع أمانة مطلقة.. ولكن، أهو.. انه يعطيني قدراً لا بأس به من حقوقي” وهو لا يعرف شيئاً عن الطبعات المسروقة المنتشرة في لبنان وسوريا.. وسهيل ادريس لم يدفع له إلا عن الطبعة الأولى أما الطبعات التالية فإنه لا يعطيه إلا الفتات.. وحتى هذا الفتات توقف منذ زمن بعيد.. وقال “أنا لاحظت حاجة غريبة في عملية النشر. فالوحيد الذي يتآمر عليه الجميع ولا يريدون أن يعطوه أي حق هو الكاتب نفسه. ودي حاجة غريبة مش كده..” وحين حدثته عن فرح السوريين بحصوله على النوبل قال “أتعرف يا أحمد.. واحد صاحبي قال لي ان المصريين محببون كثيراً في سوريا ولبنان.. أو انهم في سوريا ولبنان يحبون المصريين أكثر من أي قطر عربي آخر..” وقال بهجت وفي السودان وليبيا أيضاً. ولم يوافق نجيب على حب السودان.

والمنظر جميل في شرفة توفيق وكان الهواء لطيفاً وطرياً. النيل في الجيزة والأضواء الملونة، وثمة كوبري، وعوامة، وسماء عميقة الغور، وفي البعيد تجثم القلعة التي تم فيها افتتاح المهرجان والتي كانت سجناً. “في الـ54 سجن محمود السعدني فوجد الفريد فرج والعالم يوسف ادريس والخولي وسواهم، فقال دول ماسكين سقوط فرعون والمتفرجين الذين حضروها” وهاجم بهجت الفريد، وقال “ده بيوسخ والسبب امرأته” ودار حديث حول سقوط المثقفين وقال توفيق انه بعد ما رآه في العراق من انهيار وتهافت المثقفين لم يعد يستغرب شيئاً، ووصل إلى نتيجة مفادها أن عمل المرء هو ما يحكم عليه لا سلوكه أو علينا الاكتفاء بالحكم على انتاج المثقفين لا على تصرفاتهم وسلوكهم. وقال نجيب “ولكن ما سمعت أن الفريد قد انحدر كغيره” وأجيب “أصلك أنت ما بتسمع يا عم نجيب انت لا تسمع إلا ما تريد سماعه” وتعالت القهقهات، وكانت أعلاها قهقهة نجيب نفسه. وأحمد مظهر فارس متوحد، ولا يحب الثرثرة، ونجيب أكل بشهية. وقد بدأ الأكل منذ جلس إلى الطاولة. وفي التاسعة والنصف أخرج علبة الكانت وأشعل سيجارة. وتطلعت إلى الساعة، وقلت “على التمام” وقال له توفيق “أصلي سعد الله تطلع إلى الساعة حين دخنت” وقال نجيب “أصلي انا اكتشفت انه حين تكون هناك مسافة زمنية بين السيجارة والسيجارة يصبح طعمهما أفضل أما لو دخنت السيجارة تلو السيجارة يصبح ذلك تعفير”.. وروى لنا كيف أقلع عن الشراب بعد الحرب الثانية حين ظهرت لديه حساسية في الكبد.

كان بسيطاً، وتحدث بأريحية عن سواه من الروائيين، وكان أول اسم ذكره حنا مينه، وبالنسبة للجيل الشاب ذكر الغيطاني وصنع الله ابراهيم ويوسف أبو رية وعبد الحكيم قاسم وهو يعتبر أن أفضل من كتب عنه ابراهيم فتحي.

ويدور الحديث عن ذكريات قديمة وعن أهل المغنى القدماء.. وهو يحب ان يسمع أخبار الناس ويسأل عن قرابتهم وصلاتهم.. ويندهش “ياه!” وأحمد مظهر متعب وناعس، وبهجت يكرع الخمر ككل كحولي خوفاً من أن تنتهي السهرة قبل أن يرتوي.

لم أكن مندهشاً، ولم أحس بخطورة اللقاء. وهذا الرجل الهزيل الهادئ الطيب أعرفه منذ زمن بعيد، وأهميته في ذهول لحظات القراءة، وليس في هذا اللقاء المتأخر. سكنا نشتري زجاجة ويسكي.. أصل زجاجة الويسكي كانت بـ29 قرشاً، وكان لدينا صديق يأتي ويقول تسكروني بشلن” ويفرقع بالضحك.

في السيارة كنت أتأمل رقبته المعروقة الناحلة، وأختلس النظر إلى يده المتكئة على مقبض عصاه والتي كان يرنحها مع الغناء، وكان الصوت عالياً ومزعجاً، ولكن لا مفر من ذلك كي يسمع وأصر أن يقودني إلى فندق أولاً، وأصر على النزول من السيارة وودعني بالقبلات.. ودخلت الفندق غريباً وجياشا بالانفعال.

المستقبل

الاثنين 8 تشرين الأول 2007

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى