ثورة مصر

عدنـا إلـى بلدنـا ومجتمعنـا

هويدا صالح
ملحمة خالدة وسرديات كبرى تُشكل المشهد في ميدان التحرير حيث انطلقت ثورة 25 يناير، ملحمة تفوق في روعتها ودهشتها أكبر الملاحم في التاريخ، وسرديات متجاورة من الروعة والإدهاش تُغْني الناس عن أعظم الروايات والمسرحيات. كانت الجموع تزحف في اتجاه واحد هو ميدان التحرير. عملاق كان راقدا كنا نعتقد أنه غفا أو نام أو حتى على أسوأ الفروض مات ثم فجأة يقف عاليا متشامخا يسد الأفق ويصم الآذان، هكذا كنت أرى زحف تلك الجموع الصاعدة نحو الضياء والتي تدوس بأقدامها كل آثار الاستبداد، هكذا رأيت تلك الجموع التي بدأت الدعوة لتجمعها على شبكة الإنترنت عبر «غروبات» للناشطين الشباب، شباب لم يتلوثوا بأكاذيب الساسة وألاعيبهم، شباب ليس لديهم مصالح أو حسابات، فقط لديهم مساحة من الوعي جعلتهم يتجاوزون حتى السياسيين والمعارضة التي حولها النظام إلى مجرد ديكور شكلي حتى لا يبدو فاقدا للشرعية أمام الرأي العام الدولي.
كنت جزءا من هذه الغروبات، بحكم علاقتي الوثيقة بالميديا بدأت لتسويق الفكرة بين المثقفين الذين لم يتحمسوا في بادئ الأمر للفكرة أو ربما لم يصدقوا تماما أن هؤلاء الشباب الصغار قادرون على تحريك الجموع وإيقاظ العملاق.
ثورة بيضاء
انضمت إلى تلك الثورة قطاعات كبيرة من الشعب تمثل شرائح المجتمع المصري بكل طوائفه، عمالا ومثقفين، وأساتذة جامعات وأطباء، شبابا غير مسيس، وآخر مسيسا. ثورة شعبية، حرصت منذ البداية على أن تؤكد أنها سلمية ولا عنف فيها، فهي أقل ما توصف بها أنها ثورة بيضاء، ستغير تاريخ الثورات، فليست عنيفة دامية مثل بعض الثورات في أوربا وأميركا اللاتينية، وليست انقلابية عسكرية كما هي الثورات في تاريخ المنطقة العربية.
في اليوم المحدد للتظاهرات التي لم يتخيل حتى منظموها والمنادون بها أن تتحول لثورة.
بدأت الجموع تزحف من جميع مداخل ميدان التحرير، التقى الجميع في الميدان وبدأوا يهتفون. أدركت قوات الأمن السياسي خطورة الأمر فدفعت في البداية بعربات المطافئ وفتحت خراطيم المياه تغرق المتظاهرين في الميدان. إحدى سيارات المطافئ تسرع نحونا. أسرع شاب وتسلقها. حاول جاهدا أن يغلق خرطوم المياه المتدفق باتجاه الناس. أدرك أحد الضباط الأمر، فقفز هو الآخر بدوره واعتلى السيارة. حاول أن يسقط الشاب إلى أسفل حتى لا يُغلق تدفق المياه. تمسك به الشاب حتى سقطا سويا وسط هتافات المتظاهرين.
هرب الضابط الى الوراء خوفا من المتظاهرين، وقام الشاب قويا نشيطا وسط صرخات الفرح والهتاف. انطلقت الأصوات تحيا مصر. ضغطت علينا قوات مكافحة الشغب تحاول سلبنا المساحات التي استولينا عليها، فتشابكت أجساد المتظاهرين بقوة وحاولت دفع القوات للوراء. وظللنا نهتف ونصرخ كلما أزحناهم عن شبر من أرض الميدان. كلما دفعنا بالقوات للوراء وأخذنا شبرا جديدا نصرخ فرحين وكأننا نحرر الأرض من مغتصب عنيف.
بعد مضي اثني عشر يوما على انطلاق ثورة 25 يناير حُققت الكثير من الانجازات أقل ما توصف بها أنها تاريخية، حيث قضت الثورة نهائيا على إمكانية الترشح مجددا من قبل الرئيس مبارك، كما قضت نهائيا على أمل توريث الحكم لابن الرئيس، كما حققت إمكانية تغيير الدستور الذي ظل حلما يراود الملايين من المصريين منذ ثلاثين عاما، لكن هناك جانباً آخر حققته الثورة على المستوى الاجتماعي وهو إيقاظ الشخصية المصرية، وبث فيها الروح بعد عقود من القهر والاستبداد السياسي، والفقر الانكسار الذي خنق كل إبداع لدى المصري، وجعله يتقزم أمام ذاته، ويشعر بالتدني والمذلة بسبب مواقف النظام الخارجية، وممارساته الداخلية. ظن المصريون لعقود أن الشعب المصري مات وأن تلك الروح الوثابة الخلاقة التي تمتع بها المصري قد ضاعت، حتى أنك إذا قدر لك وجلست في مترو الأنفاق ونظرت في وجوه المصريين لوجدت وجوهاً متعبة كئيبة، لا يعرف الفرح طريقه إليها، وفجأة تتجمع الملايين في ميدان التحرير، ملايين تحتشد وتتراص لتهتف هتافا واحدا يطالب بإسقاط النظام والمطالبة بدولة المواطنة وتبني قيم الحرية. بنى الشعب شكلا منظما نموذجيا للمجتمع يسود فيه الدعم المجتمعي والمساندة. شكل الشباب لجانا للإعاشة تجمع التبرعات من المتظاهرين وتشتري الطعام والشراب، وتوزعه على الجميع بعدالة وحكمة بغض النظر عمن دفع وعمن لم يدفع. يجمع الشباب القمامة ومخلفات الطعام حتى يظل الميدان نظيفا. أقام الأطباء من المتظاهرين عيادات طبية يُعالج فيها من أصيب من جراء اعتداء بلطجية النظام عليهم.
مجتمع مثالي
أقام الشباب مجتمعا يبدو مثاليا، تسود فيه قيم المودة والتكافل الاجتماعي، وكأن الناس شعروا أن هذا البلد أصبح بلدهم مرة أخرى، بعد أن عانوا بغربة واغتراب فصلهم عن الولاء لمجتمعهم. حتى بعد أن أطلق النظام البلطجية تدمر وتخرب، وفتح أبواب السجون، وتخلت الشرطة عن دورها في الشارع، وغاب الأمن، شكّل الناس لجانا شعبية مهمتها حماية البيوت والمنازل. حاول الناس بوعي أن يحموا المال العام ومرافق الدولة ويسدوا الفراغ الأمني، حتى أنهم شكلوا دروعا بشرية تحمي المتحف المصري حتى يسلموه للجيش. لم يقتصر الأمر على حفظ الأمن وحماية الممتلكات الخاصة والعامة، بل شكّلت اللجان الشعبية لجاناً أخرى في بعض المناطق الشعبية مهمتها مراقبة الأسواق حتى لا يغالي الناس في الأسعار، ومراقبة أفران الخبز حتى لا يبيع أصحابها الدقيق في السوق السوداء، ونظموا طوابير الخبز حتى لا يشعر الناس بأزمة.
في الميدان حيث تجمعت الملايين لأيام كثيرة لا تفرق بين الغني والفقير، بين العامل والموظف والطبيب، خلع الناس أردية الخوف، ونهضوا ليدافعوا عن وطن قسا عليهم، لكنهم لم يتخلوا عنه، وطن طحنهم تحت عجلات الفساد السياسي والأخلاقي. لقد جوّع الناس والشعب، فاضطر أن يكسب عيشه بشتى الطرق المشروعة وغير المشروعة، حتى فسدت الأخلاق وضاعت قيم العمل والجدية، واستشرى الفساد والرشوة والابتزاز.
عُرف المصري دوما أنه في وقت الشدائد يصير قويا قادرا على مواجهة ظروفه أياً كانت. لم تندلع الثورة فقط يوم 25 يناير وتدفع الناس للنزول للميدان، بل اندلعت نيران الغضب والصمود من داخل المصريين لتحرق نظاما دكتاتوريا تفسخ من داخله وشاخ. كسر المصريون حواجز الخوف وصفعوا القهر صفعة قوية، وظهر جيل جديد يعتبر نواة جيدة لكوادر سياسية تتشكل في ظل المناداة بالدولة المدنية، ودولة المواطنة، هذه الكوادر ستشكل تاريخ مصر لعقود قادمة.
احتفالات
حوّل المصريون التظاهرات إلى كرنفالات واحتفالات، إن دلت على شيء فستدل على قيم التحضر والتمدن التي يتمتع بها الشعب المصري، وتلك الفوضى السابقة في كل شيء لم تكن إلا نتائج لمقدمات معروفة وطالما نددنا بها. غنى المتظاهرون الأغاني الوطنية، أغان أفرزتها الحقبة الناصرية التي آمن فيها الناس بالقضايا الكبرى والمد الثوري. غنّى الناس ورقص الشباب على أنغام خالدة، وتمايلت الفتيات آمنات وغير خائفات من التحرش الجنسي الذي شاع مؤخرا في شوارع القاهرة علنا دون رقيب. رقص الأطفال، وقال الشعراء القصائد، وهتف السياسيون بالشعارات المسيسة، وصلى الناس في الميدان مسلمين وأقباطا جنبا إلى جنب دون فتنة ودون تمييز.
في الميدان انصهر الشعب المصري بكل فئاته وتلاحم، فلا تقدر على التفريق بين الغني والفقير، بين الصعيدي والبحيري والقاهري، بين المسلم والمسيحي، بين المتعلم والفلاح والعامل.
هي مصر تنهض قوية عملاقة، ملحمة خالدها يصنعها المصريون. هي مصر بخفة دم أبنائها التي ظهرت في اللافتات والشعارات التي تكتب أو يهتف بها المتظاهرون. هي مصر بتعددها وتنوعها وتجاور كل شيء فيها بكرنفالية واحتفالية.
(كاتبة مصرية)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى