كل عام والإنترنت بخير!
محمد عارف
مثل “طرطوف”، بطل مسرحية الأديب موليير الذي اكتشف أنه كان يتحدث نثراً طوال عمره، أدرك العالم أن “الإنترنت” ولدت منذ ظهور الكومبيوتر كجهاز اتصالات. حدث ذلك قبل أربعين عاماً عندما أرسل كومبيوتر في جامعة “كاليفورنيا” في لوس أنجلوس كلمة إلى كومبيوتر في جامعة “ستانفورد”. وكانت الكلمة التي تم تبادلها في 29 أكتوبر عام 1969 LOGIN وتعني “دخول”. طَرقَ كومبيوتر جامعة “لوس أنجلوس” حرف L ثم O فيما كان يتأكد عبر الهاتف من ظهور الحرفين على شاشة كومبيوتر جامعة “ستانفورد”، وعندما طرق الحرف الثالث انقطع الاتصال. تلك الكلمة “المبتورة” سجّلت ميلاد “الإنترنت”!
وكان اسم “الإنترنت” في البدء “أربانيت” ARPAnet من الحروف الأولى لاسم “وكالة مشاريع البحث العلمي”، التي نشأت في أحضانها، وهي وكالة تمولها وزارة الدفاع الأميركية، وانتقلت عام 1985 إلى “المؤسسة القومية للعلوم” التي تحظى بتمويل حكومي يبلغ مليار دولار سنوياً، وأصبحت تُدعى بالحروف الأولى من اسمها NSFnet، وحُصر استخدامها بمؤسسات الدولة، والأكاديميين العاملين في الأبحاث والتطوير.
وفي عام 1988 دعا العالم اللبناني الأصل “مايكل عطيه” العلماء العرب إلى الاستفادة من هذه الشبكة واستخدامها كوسيلة للاتصال اليومي بينهم. وقال عطية، الذي يعد واحداً من أعظم علماء الرياضيات الأحياء، إن “الوسائل الإلكترونية الحديثة للاتصال اليومي بين العلماء، تجعل العملية العلمية مناقشة كثيفة متواصلة الأفكار يتم إنتاجها وتبادلها باستمرار”. والمفارقة أن ذكر عطية للوسائل الإلكترونية التي شرعت تربط كل شيء في العالم جاء عرضياً في خاتمة حديثه الصحفي معي حول أبحاثه في ربط علوم الرياضيات والفيزياء لتطوير نظرية شاملة تفسر كل شيء في الكون!
ولم تكن “الإنترنت” موضوع لقائي صيف عام 1991 بالمهندس اللبناني جان مخول، رئيس علماء شركة “بي بي إن” BBN التي حققت سمعة “أسطورية” حين طوّرت في عام 1972 البريد الإلكتروني، وابتكرت رمزه @. كان حديثي مع “مخول” حول لغة التخاطب بين الآلات والبشر، أو ما يسمى”الكلام المركب”، وهو الذي نال أرفع جائزة تمنحها “جمعية مهندسي الكهرباء والإلكترونيات” لتوفيره مليارات الدولارات من عمل استعلامات الهاتف، والتشغيل الآلي للمكائن والمحركات، والبشر الآليين، وأعمال التحقق من الهوية، والترجمة الآلية. وتمتد معارف “مخول” الذي درس الهندسة الكهربائية في الجامعة الأميركية ببيروت من فسلجة الدماغ وتركيب الكلام إلى علوم اللغة والصوت، والترجمة الآلية، وفلسفة اللغة، وتلخص أبحاثه حكمة الأديب الفرنسي أكزوبري: “المكائن لا تعزل البشر عن الطبيعة، بل تدفعهم نحوها بقوة أكبر”.
وتلك حكمة معظم أفراد نخبة الباحثين والعلماء الذين طوروا الكومبيوتر، رغم مناهضتهم لمؤسسة الدفاع الأميركية التي تمول أبحاثهم! وتصور العلاقة بين الجانبين أغنية أطفال يابانية مشهورة تكرر اللازمة التالية: “وصلت رسالة من المعزى السوداء. المعزى البيضاء أكلتها قبل أن تقرأها. وكان عليها أن تكتب رسالة تسأل ما كان محتوى رسالتك الأخيرة؟ وصلت رسالة من المعزى السوداء. المعزى البيضاء أكلتها قبل أن تقرأها”. وهكذا دون توقف!
كتبتُ ذلك في أول تقرير عن “الإنترنت” بعثته من واشنطن في يونيو عام 1993. تضمن التقرير مقابلة مع مسؤول في “المؤسسة القومية للعلوم” التي شرعت آنذاك في إطلاق “الإنترنت” للاستخدام العام والصناعة. وكان العالم آنذاك مقسماً حسب طرق الاتصال الكومبيوتري إلى نحو عشر شبكات رئيسية، بينها “بيتنت” BITNET و”فيدونت” FIDONET و”غولف نت” GULFNET… وكل واحدة من هذه الشبكات تربط عدة شبكات، و”إنترنت” التي تعدُّ أم الشبكات تربط أكثر من 11 ألف شبكة.
وكثير من العلماء العرب الشباب في الولايات المتحدة كانوا قد تحولوا آنذاك إلى الكومبيوتر و”الإنترنت”، وبعضهم كان قد حصل على الدكتوراه في الفيزياء، أو الهندسة المعمارية، وكانوا يخلبون لبي بالحديث عن الذكاء الاصطناعي والإنسان الآلي “الروبوت” حتى يداروا خجلهم من الحديث عن أشغالهم التي تبدو كعمل التقنيين في الاتصالات الهاتفية. ولم يحدث في التاريخ العالمي أن أطلقت تقنيات غير مثيرة تغيرات بالغة الإثارة بسرعتها وقوتها، كالتي أثارتها الإنترنت. فبعد مرور 12 عاماً على تبادل أول كلمة بين جهازي كومبيوتر لم يكن هناك سوى 213 جهاز كومبيوتر متصلة فيما بينها، ولم يمض سوى 14 عاماً حتى أصبح عدد الأشخاص المتصلين عبرها 16 مليونا، وبلغ عددهم عام 2001 أكثر من 513 مليونا، ويقدّر عددهم حالياً بنحو مليار و700 مليون مستخدم. وكانت موارد آلة التصفح عبر الإنترنت Google “غوغل” عام 2001 صفراً، وتحقق حالياً 20 مليار دولار.
والإنترنت، إذا صحّت المقارنة، كالروح تحتاج إلى حيز أكبر من الجسد. هذه “الروح” كانت وما تزال تبعث تقنيات، منذ الستينيات عندما تم “تحويل الرزم” التي تجزئ معطيات الكومبيوتر إلى أجزاء بالغة الصغر، لتبثها عبر شبكات عدة في لمح البصر. و”بروتوكول” TCP/IP، في السبعينيات، الذي يربط الشبكات المختلفة. و”الشبكة العالمية” WWW في التسعينيات، والتي تعمل كنظام المرور الدولي للمعلومات.
وتثير الإنترنت أسئلة فلسفية، كالتي أثارتها الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، وقد تكون استمراراً لتلك الثورة في أدوات الإنتاج التي أطلقت صراعات واضطرابات ونزاعات دموية أثارها التناقض بين خيرات إنتاجها الباذخة وبؤس العلاقات الإنتاجية وتوزيع العمل الدولي الذي يخنقها. فالبشرية لم تر هذا القدر من التفاؤل والمرح الذي تثيره منتجات “الإنترنت”، كمواقع أفلام الفيديو “يوتيوب”، والثرثرة الدائمة “الزقزقة” Twitter، ودائرة المعارف التي يحررها قراؤها “ويكابيديا”، ونادي التعارف وتمضية الوقت “فيس بوك” الذي يضم حالياً 300 مليون عضو. وعلى الجانب الآخر، ما لا حد له من الكراهية والفاقة والكآبة التي سببتها عمليات غزو، وحروب، وأزمة مالية عالمية مستعصية، وذوبان جليد وتصحر وطوفان وأعاصير… وغير ذلك من مخاطر تغير المناخ العالمي.
وكما في الأعوام الماضية، قد تُسّري عنا أبراج الإنترنت، والتي تخبئ في العام الجديد لمواليد برج الحمل 365 يوما من الحياة، ولمواليد برج الثور “لا تقبل بالعيش بديلاً للحياة”، وللجوزاء “البطل الوحيد في حياتك هو أنت”، ولبرج السرطان “السعادة تبدأ بعد نقطة اللاعودة”، وللأسد “ما لم تراهن على حياتك لن تفوز بها”، وللعذراء “الحب هو انتصار المخيلة على الذكاء”، وللميزان “لا تعتذر عن الحب أبداً”، وللعقرب “العيش بسعادة كل يوم أفضل انتقام من المشاكل”، وللقوس “تذكر دائماً أنت المشكلة وأنت الحل”، وللجدي “لن تعرف إلى أين تمضي لكنك في الطريق إلى ذلك حتماً”، وللدلو “حياتك كالسيرك يجمع خيامه ويرحل”، وللحوت “عام 2010 نهر من دون ضفاف”!
الاتحاد