أزمة قيادة “الإخوان” بين مرحلتين!
وحيد عبد المجيد
واجهت جماعة “الإخوان المسلمين” في مصر قبل نصف قرن بالتمام أزمة قيادة مماثلة تقريباً لتلك التي تمر بها الآن. فالانقسام الحاد الذي كشفه انتخاب مكتب الإرشاد الجديد عشية اختيار المرشد العام الثامن، لا سابق له إلا الخلاف الشديد الذي حدث على اختيار المرشد العام الثاني في عام 1949 بعد اغتيال المرشد المؤسس حسن البنا في فبراير من ذلك العام.
ومع ذلك فما أبعد الطريقة التي أديرت بها الأزمة في الأسابيع الأخيرة عن تلك التي اتُبعت قبل خمسين عاماً. فقد فرض التيار الأقوى في الجماعة سيطرته على مكتب الإرشاد وأصبح اسم المرشد الثامن بين يديه، ورفض حلاً توافقياً طرحه التيار الأضعف وهو أن يكون هذا المرشد من خارج الجماعة.
فقد اقترح بعض قادة هذا التيار إسلاميين مستقلين معروفين بتعاطفهم مع الجماعة مثل المستشار طارق البشري والدكتور محمد عمارة، بعد أن أبدى آخرون أبرزهم الشيخ يوسف القرضاوي (وهو عضو سابق في الجماعة، لكنه تركها منذ زمن طويل) عدم استعدادهم لحمل هذه المهمة. لكن التيار المحافظ الأقوى حسم الأمر لمصلحته.
وهكذا تبدو جماعة “الإخوان المسلمين” الآن أقل قدرة على بناء توافق داخلي مما كانت عليه قبل نصف قرن عندما واجهت أزمة لا تقل خطراً عقب اغتيال البنا في الوقت الذي كان الحصار مضروبا عليها بعد قرار حلها في عام 1948.
ولم يكن هناك اتفاق وقتها على من يخلفه. فكان من الصعب أن يظهر الرجل الثاني في ظل قيادة غير عادية (كاريزماتية) تميز بها البنا. لذا كان الطامحون إلى خلافته رؤوساً متساوية، في الوقت الذي أدى رحيله المفاجئ إلى ظهور الخلافات التي كانت كامنة، فبرزت على السطح وقد اختلط فيها ما هو سياسي بما يعتبر شخصيا. وكان بإمكان “النظام الخاص” أو الجهاز السري حسم الخلاف بقوة السلاح لمصلحة مرشحه المفضل صالح عشماوى نائب المرشد حينئذ، في مواجهة منافسيه الذين كان في مقدمتهم أحمد حسن الباقوري وبعض أقارب البنا.
وكان واضحاً أن حسم التنافس لمصلحة أي طرف يمكن أن يعرَّض الجماعة إلى انشقاق أو أكثر. لذلك تغلبت الحكمة التي ما كان لها أن تفعل فعلها إلا لوجود روح توافقية أتاحت التفاهم على اختيار مرشد عام من غير المتنافسين بل من غير الأعضاء العاملين، وهو المستشار حسن الهضيبي الذي حال عمله في القضاء دون انضمامه للجماعة. لكنه كان على علاقة شخصية وثيقة بالبنا، بل صار موضع سره منذ عام 1942 وفق ما ذهب إليه أكثر من رووا تاريخ الجماعة من داخلها.
وكان الوضع صعباً في الجماعة حينئذ إلى حد أن الهضيبي اعتذر في البداية لخوفه من الخلافات الشديدة. ونُسب إليه قوله إنه لا يستطيع “تسلم قيادة دعوة أقرب معاونيه فيها متفرقو القلوب والأهواء”. كما أن وضع “الجماعة” كان قلقاً في ذلك الوقت بعد أن صدر قرار بحلها إثر تورط بعض أعضاء “النظام الخاص” في عدد من الاغتيالات السياسية.
لذلك ظل الهضيبي متردداً لأشهر طويلة قبل أن يقبل بعد كثير من الرجاء والإلحاح؛ فلم ينتخب رسمياً إلا في 19 أكتوبر 1951 بعد شهر على استعادة الجماعة مشروعيتها بحكم قضائي في 17 سبتمبر من الشهر نفسه.
لكن جماعة “الإخوان” عجزت عن إيجاد مخرج مماثل من أزمتها القيادية الراهنة، وأصر التيار الأقوى على فرض إرادته في انتخاب مكتب الإرشاد بخلاف سلوك من كانوا أقوى في نهاية أربعينيات القرن الماضي.
فقد جرت في نهر الجماعة، كما في مصر مجتمعاً وسياسة وثقافة، مياه كثيرة خلال فترة نصف قرن التي تفصل بين أزمتين اختلف أداؤها فيهما أيماَّ اختلاف. وقعت الأزمة الأولى في مرحلة كان النظام السياسي المصري فيها أكثر انفتاحاً، والثقافة السائدة في المجتمع أوفر ديمقراطية. وفي تلك الأجواء، كان الحوار بمثابة القاعدة في حل الخلافات، سواء داخل الأحزاب والجماعات السياسية والاجتماعية وحتى الدينية، أو فيما بينها، بخلاف ما صار عليه الحال الآن حيث هذا الحوار هو الاستثناء. لذا كان الحوار ممكنا في داخل جماعة “الإخوان المسلمين” حين واجهت أزمة خلافة المرشد الأول، رغم أن مفاجأة تغييبه قتلاً كانت صادمة ومروعة، بخلاف أزمة خلافة المرشد السابع محمد مهدي عاكف الذي أعلن قبل أكثر من عام أنه لا ينوي تجديد ولايته لفترة ثانية.
ولذلك خلت هذه الأزمة من عنصر المفاجأة الذي قد يؤدي إلى ارتباك وتخبط يجعلان الحوار صعباً. ومع ذلك عجزت الجماعة عن حل هذه الأزمة من خلال الحوار، ولجأ التيار الأقوى إلى فرض إرادته في معركة اجتمعت فيها تراكمات خلافات ظلت مكتومة لسنوات.
وارتبط جانب أساسي في هذه التراكمات بانسداد الأفق السياسي وازدياد الميل إلى الانغلاق وعدم الثقة في المجتمع المصري عموما. وقد أثبت قادة التيار الغالب داخل جماعة “الإخوان” فعلياً أنهم ليسوا مستعدين للوثوق حتى في “إخوانهم” وإدارة حوار جاد معهم. ويعني ذلك أن هذه الجماعة تتجه إلى مزيد من الانغلاق والتركيز على العمل التنظيمي الذي يجيده قادة التيار المحافظ الذي سيكون المرشد الثامن أحد رموزه، ووضع حد للانفتاح الجزئي الذي يميز التيار الآخر الموصوف بالإصلاحي.
وإذا صح هذا الاستشراف، ربما تصبح جماعة “الإخوان” في المرحلة القادمة أكثر عزلة مما كانت عليه في أي وقت مضى في تاريخها، باستثناء الفترة التي أعقبت حلها للمرة الثانية في أكتوبر 1954 وسعي السلطات إلى استئصالها قبل أن تتغير سياسة نظام الحكم تجاهها لتقوم على الاحتواء في مطلع السبعينيات.
ومن شأن تكريس ميل جماعة “الإخوان” إلى الانغلاق، على نحو يجعلها أكثر عزلة، أن يزيد الخوف منها في المجتمع، الأمر الذي يضعف فرص الإصلاح السياسي. فقد كان الخوف من “الإخوان” أحد عوائق التطور الديمقراطي حين كانوا أكثر انفتاحاً، إذ اختلط القلق الطبيعي من غموض مواقفهم وخلطهم السياسة بالدين مع التخويف الذي خلقته سياسة استخدمتهم “فزاَّعة” لتأخير أو إبطاء الإصلاح. لذلك قد يصبح الخوف منهم أكبر وأوسع نطاقاً دون حاجة إلى التخويف، حين تغدو مواقفهم المزدوجة والملتبسة أكثر تحديداً ووضوحاً، لكن في اتجاه يؤكد خوف الخائفين وقلق القلقين في قطاعات عدة في المجتمع لا تقتصر على الأقباط والأحزاب التي تختلف معهم سياسياً. ولن يكون بإمكان قياديي “الإخوان” المنفتحين أن يضعوا حداً لهذا التطور السلبي اعتمادا على خطابهم المختلف بعد أن ظهر أنهم لا يمثلون أكثر من قشرة رقيقة على سطح جماعة عميقة الأغوار، ولا يمتلكون القدرة على التأثير في مسارها.
الاتحاد