هل تدفع غزة ثمن التوريث؟!
علاء الأسواني
بعد أن نشرت الخبر جريدة «هاآرتس» الإسرائيلية وأكدته الإدارة الأمريكية، اعترفت الحكومة المصرية ــ أخيرا ــ بأنها تبنى جدارا فولاذيا تحت الأرض على طول الحدود مع غزة من أجل إغلاق الأنفاق التى يستعملها الفلسطينيون لتهريب الطعام والأدوية.. فى ظل حصار خانق قامت به إسرائيل منذ أكثر من عامين واشتركت فيه مصر بإغلاق معبر رفح أمام الفلسطينيين.. ولنا هنا بعض الملاحظات: :
أولا: الهدف من حصار غزة ــ كما أعلنت إسرائيل ــ هو القضاء على المقاومة الفلسطينية وتجويع أهل غزة حتى يركعوا أمام إسرائيل ويقبلوا بشروطها للتسوية النهائية التى سوف تضيع حقوق الفلسطينيين إلى الأبد.. لكن الصمود الأسطورى للفلسطينيين دفع إسرائيل إلى ارتكاب مذبحة وحشية، استعملت فيها الأسلحة المحرمة دوليا وراح ضحيتها أكثر من ألف وأربعمائة إنسان نصفهم على الأقل من النساء والأطفال.. وبرغم المذبحة والحصار لم يستسلم الفلسطينيون وظلوا يقاومون بشجاعة مما دفع إسرائيل إلى التفكير فى طريقة لخنقهم نهائيا.. والثابت أن الجدار الفولاذى تحت الأرض فكرة إسرائيلية أساسا ترددت الحكومة المصرية فى تنفيذها ثم وافقت مؤخرا وشرعت فى إقامة الجدار الذى تم تصنيعه بتمويل وإشراف الأمريكيين.. والغرض من هذا الجدار هو قتل الفلسطينيين بمعنى الكلمة، لأنه يقضى على آخر فرصة لهم فى الحصول على الطعام. ثانيا: إن إغلاق الحكومة المصرية لمعبر رفح ومنع قوافل الإغاثة العربية والدولية من دخول غزة ثم إقامة الجدار الفولاذى لتجويع الفلسطينيين.. كل هذه جرائم مشينة من المحزن حقا أن يرتكبها النظام المصرى ضد إخوتنا فى العروبة والإنسانية. إن التضامن العربى والواجب المصرى نحو المسلمين والمسيحيين فى فلسطين، كل هذه اعتبارات لم تعد تعنى شيئا للمسئولين المصريين وهم يسخرون منها على الملأ. لكن النظام المصرى، فى خضم حماسه لإرضاء إسرائيل، لم يلتفت إلى أنه يشوه صورته أمام العالم أجمع.. إن مذبحة غزة الأخيرة قضت على ما تبقى من سمعة إسرائيل أمام العالم. لقد تزايدت أصوات الإدانة لإسرائيل فى الدول الغربية بطريقة غير مسبوقة. فى شهر أكتوبر الماضى ذهب رئيس وزراء الإسرائيلى السابق إيهود أولمرت لإلقاء كلمة فى جامعة شيكاجو، فوجد نفسه محاصرا بهتافات عدائية من الطلبة الذين أخذوا يصيحون فى وجهه «يا سفاح غزة.. يا قاتل الأطفال»، ولقد صدرت عدة أوامر قضائية غربية بملاحقة قادة إسرائيل بتهمة ارتكاب جرائم حرب فى غزة ولبنان. حدث ذلك فى بلجيكا والنرويج وأسبانيا وأخيرا فى بريطانيا حيث كادت الشرطة البريطانية أن تقبض على تسيبى ليفنى وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة لولا هروبها فى اللحظة الأخيرة. صحيح أن معظم هذه الملاحقات القانونية تم إلغاؤها بفعل الضغوط الصهيونية الجبارة على الحكومات الغربية.. لكنها تدل بوضوح على حالة عالمية من إدانة إسرائيل لم تكن موجودة قط من قبل.. إن النظام المصرى ببنائه لهذا الجدار لا يغامر فقط بشعبيته المصرية والعربية (التى هى فى الحضيض) لكنه يلطخ سمعته الدولية تماما.
ثالثا: كل الحجج التى يسوقها النظام لتبرير بناء الجدار لا يمكن أن تقنع طفلا صغيرا.. يقولون إن مصر حرة فى إقامة الجدار مادام داخل حدودها ويتجاهلون أن حرية أية دولة وفقا للعرف والمنطق والقانون الدولى ليست مطلقة لكنها مقيدة بحقوق الآخرين.. فلا يمكن أن تتسبب مصر فى تجويع مليون ونصف مليون إنسان يعيشون بجوارها ثم تزعم أنها حرة فيما تفعله. يقولون إن الأنفاق تستعمل فى تهريب أسلحة إرهابية إلى مصر. ونحن نقول إن الأسلحة قد يتم تهريبها عن طريق ليبيا أو السودان، فهل تعتزم الحكومة المصرية إقامة جدران فولاذية على طول حدودها مع دول الجوار جميعا؟ واذا كانت وزارة الداخلية المصرية، بأجهزتها الأمنية العملاقة، عاجزة عن حماية الحدود فماذا تفعل بمبلغ 8 مليارات جنيه مصرى تنفقها سنويا كميزانية من أموال الشعب المصرى..؟!
إن النظام يرفع الآن شعار «الأمن القومى المصرى خط أحمر..».. ونحن نؤمن بهذا الشعار ولا نختلف عليه لكن الأمن القومى، فى رأينا، يبدأ بتحديد من عدو مصر..؟ هل هى إسرائيل أم أهل غزة..؟ واذا كانت إسرائيل عدوتنا وهذه هى الحقيقة ألا يكون من مصلحة مصر القومية دعم المقاومة الفلسطينية..؟!…. ألم يفكر أحد لماذا اضطر الفلسطينيون إلى حفر الأنفاق تحت الأرض..؟ لقد كانت الوسيلة الوحيدة لإبقائهم على قيد الحياة.. هل كان الفلسطينيون يحفرون الأنفاق لو كانت مصر تفتح معبر رفح وتسمح بدخول الطعام والأدوية إليهم..؟ وعندما تنشئ مصر هذا الجدار لتقتل الفلسطينيين جوعا هل نلومهم إذا منعوا إقامته بالقوة أو سعوا لتدميره..؟ ألا يعد ذلك دفاعا شرعيا عن النفس..؟ يتحدث المسئولون كثيرا عن الضابط المصرى الشهيد الذى قتله رصاص أطلق من غزة، ونحن نأسف بشدة من أجل هذا الشهيد لكننا نذكر أنه لا يوجد دليل واحد على أنه قتل برصاص حركة حماس، ونذكر أيضا أن إسرائيل قتلت باعترافها العديد من الضباط والجنود المصريين على الحدود..فلماذا لم تغضب حكومتنا من أجل الأمن القومى آنذاك..؟ وأين كان هذا الأمن القومى عندما اعترف الإسرائيليون بقتل مئات الأسرى المصريين ودفنهم فى مقابر جماعية أثناء الحرب ولم يتخذ المسئولون فى مصر إجراءا واحدا ضد مجرمى الحرب الإسرائيليين..؟.يقول المسئولون فى مصر إنهم يغلقون معبر رفح خوفا من هجرة جماعية فلسطينية إلى مصر.. وهذه حجة سخيفة وساذجة فالذى دفع الفلسطينيين إلى اجتياح المعبر هو احتياجهم الشديد إلى الطعام.. وقد اشتروا بأموالهم ما يحتاجونه من التجار المصريين ثم عادوا من حيث أتوا.. ثم ماذا نتوقع من الفلسطينيين بعد ما أغلقنا بالجدار الفولاذى آخر فرصة للحياة أمامهم ؟!..هل يلومهم أحد اذا اندفعوا بالألوف واجتاحوا معبر رفح بالقوة هربا من الموت جوعا..؟ إن هذا الجدار، بالإضافة إلى كونه فعلا مشينا ووصمة عار على جبين الحكومة المصرية لن تزول أبدا، يشكل خطرا حقيقيا على الأمن القومى المصرى.
أخيرا.. ما الذى يدفع النظام المصرى إلى كل هذا الخضوع للسياسة الإسرائيلية..؟
هناك سببان لذلك.. أولا أن النظام يعتبر أى انتصار لحركة حماس دعما للإخوان المسلمين مما يهدد الحكم فى مصر.. وهذا خطأ كبير لأن انتصار المقاومة أكبر تدعيم لمصر وليس خطرا عليها أبدا.. كما أن الإخوان المسلمين، بحكم حجمهم وتأثيرهم، لا يشكلون تهديدا حقيقيا للنظام المصرى الذى يشيع ذلك دائما من أجل تبرير الاستبداد أما السبب الثانى فهو أن النظام المصرى قد تعلم أن تنفيذ رغبات إسرائيل هو الطريق المضمون إلى الرضا الأمريكى.. لقد حصلت إسرائيل من مصر فى سنوات قليلة على ما لم تحصل عليه منذ توقيع اتفاقية كامب دافيد.. الإفراج عن الجاسوس عزام عزام واتفاقيات لبيع الغاز والأسمنت وحصار الفلسطينيين وأخيرا هذا الجدار المشين.. من هنا نفهم الرضا الأمريكى على نظام مبارك.. منذ أيام صرحت السفيرة الأمريكية فى القاهرة مارجريت سكوبى قائلة: «أعتقد أن الديمقراطية فى مصر على ما يرام..» هذا التصريح الغريب يوضح لنا إلى أى مدى يسيطر اللوبى الصهيونى على السياسة الأمريكية.. ستظل أمريكا راضية عن نظام الاستبداد فى مصر مادامت إسرائيل راضية عنه.. هل يمكن بعد ذلك للسيدة سكوبى أن تتساءل لماذا يكره المصريون السياسة الأمريكية ويتهمونها بالنفاق وازدواجية المعايير..؟.
أخيرا.. إن جريمة بناء الجدار لتجويع الفلسطينيين ليست بمعزل عن قضية الإصلاح الديمقراطى فى مصر فقد وافق النظام على بناء الجدار لأنه يحتاج إلى الدعم الأمريكى لمشروع توريث الحكم من الرئيس مبارك إلى ولده جمال.. وهنا نرى نموذجا خطيرا لعواقب الحكم الاستبدادى.. إن مصلحة النظام فى مصر صارت بالفعل مناقضة لمصلحة الشعب المصرى.. لو كان نظام مبارك ديمقراطيا لما جرؤ أبدا على الاشتراك فى حصار الفلسطينيين وتجويعهم. إن الأنظمة الديمقراطية، وحدها، هى التى تتوحد مصالحها مع مصلحة الشعب والوطن.
بوابة الشروق