جدار عربي هذه المرة!
عبد الوهاب بدرخان
كان إسحق رابين تمنى أن يستيقظ من نومه ليجد أن غزة اختفت وغرقت في البحر، ومع ذلك لم يفكر رابين خلال مواجهته للمقاومة في القطاع أن يسورها بجدار اسمنتي أو معدني ليشل حركتها ويحد من ضرباتها لقوات الاحتلال، لكن هذا الجدار بات حقيقة أغرب من الخيال مع تأكد الأنباء عن بناء جدار فولاذي على الجانب المصري للحدود مع غزة، ولعل انتصابه بين البلد العربي الأكبر والقطاع هو ما يجعل منه “أغرب من الخيال”.
والأغرب هو إحاطة هذا الجدار بجدار آخر من التكتم والدعوة إلى التعامي عنه بل التضليل في توصيف أغراضه، حتى إذا افتضح الأمر لم يبق لدى صانعي الجدار سوى أن ينتفضوا لنصرة أمنهم وسيادتهم وسلامة حدودهم، وكأن هذه المسلمات البديهية بحاجة إلى الهتاف دفاعا عنها، أما لماذا التكتم فلأن أصحاب الجدار يعرفون مسبقا انهم يرتكبون عيبا قومياً.
لم يكن للأمر أن يتم لو لم يحصل تفاهم عليه مع الأمريكيين والإسرائيليين، كاتفاقات كامب ديفيد تستوجب ذلك طالما أن المنطقة حدودية، ولا يحق للجانب المصري أن يحرك فيها سوى عدد محدد من حرس الحدود، وإذا كان مؤكداً أن القاهرة لم تفاتح “حكومة حماس” لإبلاغها على الأقل أنها اتخذت قرارا سياديا ببناء جدار، فليس معروفا إذا كانت فاتحت “حكومة رام الله” بالموضوع، قد يفسر تجاهل “حماس” بان مصر لا تعترف بحكومتها، أما كان التجاهل شمل السلطة الفلسطينية أيضا فهذا يعصي على الفهم، لكن ميوعة المواقف التي أبدتها رام الله حيال الجدار تدل الى انها وضعت في الصورة، وطبعا لم يكن لها أن ترفض أو أن توافق، وإن كانت في ظروفها الراهنة اقرب إلى الموافقة، وهذا لا يعدو كونه عيبا اهليا ووطنياً.
المسألة هنا ليست استخفافا بالدواعي السيادية أو الأمنية، ولا تضخيماً ساذجاً لدواعي الاخوة والرابطة القومية، بل هي استهجان واستنكار- للمبدأ- أو بالأحرى اللا مبدأ- الذي يقترحه التفكير في بناء جدار، وللقيم- أو بالأحرى اللا قيم- التي يفترضها اللجوء إلى مثل هذا الإجراء سيىء السمعة عالميا وإنسانيا، كان من شأن مجرم حرب مثل ارييل شارون ان يقيم جداراً، فهذا يليق بعسكري لا أخلاقي مثله، ثم انه عدو يمكن ان يتوقع منه الأسوأ بل الأحط، ما الذي يدعو مصر إلى مثل هذا التفكير الجداري؟ هل لأنها معنية فقط بأمنها وحدودها، وهذا حقها، أم لأنها بلغت أخيرا مع غزة ما بلغه رابين في حلمه الاجتثاثي.
منذ ما قبل سنة، وفي حرب غزة وما بعدها، لم تتوصل مصر يوما إلى شرح مفهوم لموقفها، فأتاحت للعدو الإسرائيلي استغلال غموضها غير البناء، وأتاحت لناقديها العرب أن ينسبوا إليها اخطر الأدوار ويتهموها بما لا تحب سماعه، نعم، مصر دولة متصالحة مع إسرائيل، والصلح يستدعي رزمة من الواجبات في إطار “حسن الجوار” لكنه ينطوي أيضا على حقوق نرى إسرائيل تتمتع بها وتمارسها في حين أن مصر تجتهد في حرمان نفسها منها، فهي الجار الطيب الملتزم بقواعد الجيرة، وإسرائيل الجار الأرعن غير المبالي بأي قواعد، الجار الذي لا يزال يحلم بالتخلص من القطاع حتى لو باقتطاعه وتقديمه هدية إلى مصر أو إلى من يرغب، وفي ذلك ما فيه من اهلاك نهائي للقضية الفلسطينية، لكن مصر لا تريد ولا ترغب في حمل مثل هذا العبء التاريخي المسموم، ربما كانت هذه الرسالة السياسية التي يمكن نسبها لجدار مصري أصم وأبكم، لكنه واقعيا الوسيلة الأسهل والأبشع التي لجأت إليها مصر، فالوسيلة الأجدى حتى لو كانت صعبة هي الإرادة السياسية، فإذا لم تتوافر فلن ينفعها هذا الجدار ولا عشرات مثله.
لابد من القول ان غزة منذ انقلبت حمساوية أصبحت كابوسا لمصر كما لإسرائيل، فضلا عن السلطة الفلسطينية في الضفة، ثم ان غزة منذ أصبحت لعبتها جزءا من الشطرنج الإيراني، لم تعد تعترف بحدود أو باعتبارات تحكم الآخرين ولا سيما أشقاء الوطن والعروبة وإذ تبدو أهدافها وطموحاتها مفهومة أحيانا إلا أن ممارساتها ونتائج سياساتها تثير من الغموض أكثر مما تحقق من انجازات، كان عليها ان تفعل أي شيء وهي محاصرة ومتألمة كي تحرك الاسترخاء المصري وتستثيره لمساعدتها، حتى مع علمها بأن قدراته محدودة بموجب التزاماته، لكن، كان على غزة أيضا ألا تستثير خشية مصر منها خصوصا مع تلويحها بإقامة إمارة إسلامية، أو بتعطيلها الدور الوحيد الذي أتيح لمصر وهو تحقيق المصالحة بين القطاع والضفة، نعم، تتمتع “حماس” بشعبية، أقل أو أكثر مما يقال، لكن هذا لا يعني أن حماس تعرف تماما ماذا تفعل أو أنها مدركة جيدا تبعات سياساتها، فمن المؤسف ان يبدو الأمر وفقا لظاهره الراهن، وكأنه مجرد صراع على السلطة والنفوذ.
لاشك أن مصر تعرف جيدا أن جدارها الفولاذي لن يحل المشكلة بل سيفاقمها، خصوصا متى أصبحت شريكة في الحصار الظالم وفي التجويع والحرمان، وبالأخص إذا عاودت إسرائيل تجربة العدوان على غزة متى أصبحت هذه بلا أنفاق متصلة بمصر، أي بلا شرايين حياة، لا شيء يمنع إسرائيل من اعتبار هذا الجدار جزءا من خطتها الحربية المقبلة، ولا شيء – بما في ذلك أخطاء حماس ومبالغاتها –يبرر أن تقدم مصر هذه الخدمة لإسرائيل، طالما أن أيا من الجارين المتصالحين لا يملك حلا لمشكلة الاحتلال أو حتى على الأقل لمشكلة غزة ذاتها.
لا يزال كثيرون من العرب والمسلمين يشعرون بأن الصلح المصري-الإسرائيلي كان بمثابة نكبة ثانية بعد الأولى عام ثمانية وأربعين، لكن كثيرين أيضا لا يملكون سوى الاحترام للتضحيات التي قدمتها مصر في سبيل القضية الأولى عربيا وإسلاميا، اما ان ينتهي الأمر بجدار فهذا نكران وتنكر لتلك التضحيات.
الشرق القطرية