صفحات العالمما يحدث في لبنان

أين موقع السنّة من زيارة الحريري إلى سوريا؟

خضر طالب
مجموعة معترضة في «الكتلة» و«التيار» والإعلام ووراءها جمهور كبير
لم يهدأ النقاش منذ الصور الأولى للعناق والقبلات بين الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد ورئيس الحكومة سعد الحريري في القصر الرئاسي في دمشق. وهو نقاش استفاض في حسابات الربح والخسارة لبنانياً، والنتائج على الوضع الداخلي ومستقبل التحالفات السياسية، والاصطفافات الطائفية التي لم تعد بحاجة إلى الاختباء خلف العناوين السياسية.
لكن النقاش «الوطني» لهذه الخطوة لم ينجح ـ أقله حتى اليوم ـ في استدراج فئة أساسية معنية مباشرة بنتائجها إلى عناوينه، فصال وجال في تشريح العلاقات السورية ـ اللبنانية، قبل الزيارة وبعدها، ترحيباً أو تشكيكاً…
أما في «البيت» السنّي فكان للنقاش «طعم» آخر، يتناول موقع السنّة في هذه المصالحة، ومستقبل علاقتهم بسوريا التي كانوا في التاريخ يرفضون الانفصال عنها، قبل أن يخاصموها لاحقاً…
من دون أدنى شك بلغت مسمع الرئيس الحريري تفاصيل ما يقوله «أهل بيته» من جمهوره الذي وقف خلفه طيلة خمس سنوات تقريباً لدواع عاطفية في معظمها، وهو يدرك أن التحدّي «الداخلي» أكثر تعقيداً من اعتراضات وتحفظات الحلفاء الذين استقووا بذلك الجمهور كل المرحلة الماضية ليُخرجوا ما تختزنه صدورهم من خيارات سياسية بقيت سجينة ردحاً من الزمن.
أين موقع السنّة في مصالحة الرئيس الحريري مع سوريا؟
ليس السؤال افتعالاً، وإنما يعكس حقيقة النقاش المستمر في مختلف أوساط السنّة منذ حصول الزيارة، وإن كانت محاولة الإجابة عبه مبكراً فيها من التسرّع ما يكفي للوقوع في خطأ التقدير والقراءة المبتورة لموقف السنّة في لبنان، وإن كانت الانطباعات الأولى ترسم خطاً فاصلاً بين «جمهورين» اساسيين:
الأول، يتشكّل من «جيش» المتربعين في المواقع الأمامية للنقابات المهنية والقطاعية والعمالية والمؤسسات الاقتصادية والتربوية والجمعيات والبلديات بالاضافة الى معظم جمهور العاصمة بيروت، وبعض المدن، وهو جمهور يسير «على دين ملوكه»، وسرعان ما أمسك بطرف خيط المصالحة منظّراً لأهميتها وانعكاساتها الإيجابية على لبنان واللبنانيين، وخصوصاً في المستويات والتجارية والثقافية والسياحية والتربوية والاستشفائية والزراعية، بعد أن استذكر هؤلاء الأضرار الجسيمة التي نتجت عن المناخات والإجراءات التي قطعت الطريق على مصالح كثير من اللبنانيين.
وما يتردد في هذه الأوساط من ارتياح لوصل ما انقطع في العلاقة مع سوريا يفترض أن يشكّل قاعدة أساسية يُبنى عليها لتعميم أجواء المصالحة، خصوصاً أن بعضهم يتحدّث عن «خطأ» يجب ألا يتكرر في تلك الخصومة التي لم تحمل للبنان الاستقرار ولم تقم وزناً لمصالحه، في حين أن مقولات أخرى بدأت تتردد على الألسن، من باب «التبرير» و«التشجيع»، وجلّها يؤكّد ان المصالحة تعيد رسم توازن القوى الطائفي في لبنان بما يحمي مصالح السنّة ودورهم وقوتهم في المرحلة المقبلة.
أما الجمهور الثاني، فهو الذي يقف في المواقع الخلفية بعيداً عن الضوء، ويقيس نتائج المصالحة بمعايير عاطفية وحسابات التاريخ القريب الذي «يسجن» العلاقة مع سوريا خلف سياج ارتفع بتراكم ما شابها من أخطاء على مدى السنوات الماضية، وخاصة كلما ابتعدنا عن المدينة باتجاه الأطراف في عكار والمنية والضنية والبقاع.
لكن تشريح الواقع السنّي في لبنان وربطه بفحوى النقاشات الدائرة في مختلف أوساطه، يكشفان الحقائق التالية:
ـ إن ما يقارب ثلث السنّة في لبنان استمروا «قابضين» على التزامهم بخيارهم السياسي إلى جانب سوريا «كالقابض على جمر من نار» برغم كل ما تعرّضوا له من تحديات وإغراءات طوال السنوات الخمس الماضية. ومن الطبيعي أن يكون هؤلاء في طليعة المرحبين بانتصار خيارهم في العلاقة المميزة مع سوريا باعتبارها العمق الاستراتيجي، وإن سارع بعضهم إلى المفاخرة بهذا «الانتصار» وكاد يحتفل بإطلاق الأسهم النارية…
ـ إن ثلة وازنة من جمهور السنة خاصمت سوريا التحاقاً بـ «الموجة» وسعياً إلى تحقيق مكاسب شخصية أو مادية. وإذا كان بعض هؤلاء تحديداً هم ممن كان من رموز الوجود السوري في لبنان، وهم يتقنون الانتقال من سلطة إلى سلطة، فإن مسألة حصول تغيير في مواقفهم ليست قضية صعبة، خصوصاً أن أغلبهم «نبش» أرشيفه بحثاً عن بعض المصطلحات التي كانت سائدة في زمن سابق وكان «يدمن» استعمالها.
ـ إن قسماً كبيراً من السنّة، هم ممن تعاملوا مع مرحلة الخصومة إما بانفعالات عاطفية أو تأثراً بأجواء الشحن السياسي، وهذا الجمهور العاطفي يحتاج إلى جهد مكثّف لإقناعه بـ «صوابية» خيار الرئيس الحريري، خصوصاً أن الإشارات الصادرة عن هذا الجمهور لا توحي بكثير من الرضا.
ـ أما جمهور «الإسلاميين» فإن فيهم من «يُفتي» بالعداء «فقهياً»، ومنهم من يؤمن «إيديولوجياً» بوحدة المسار والمصير والتاريخ والحاضر والمستقبل…
ـ أما القسم الباقي من السنّة، فإنهم كانوا يُصَنَّفون دائماً بالأغلبية الصامتة التي لم تكن تعتقد يوماً أنها قادرة على إجراء أي تغيير في الواقع اللبناني في ظل الوجود السوري الذي يخاصمونه إلى درجة العداء، فإذا بهم يكتشفون اللحظة المناسبة بعيد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري للمجاهرة بهذا العداء والمساهمة الفعالة في «المواجهات» المتعددة الأوجه مع سوريا، بدءاً بدورهم الرئيس في تظاهرة 14 آذار 2005 وما تلاها من حشد متكرّر في ساحة الشهداء، وانتهاء بالانتخابات النيابية الأخيرة وما أفرزته من نتائج ساحقة على صعيد تيار «المستقبل» وحلفائه.
وهذا الجمهور تحديداً لن يكون سهلاً تغيير قناعاته بـ «شحطة قلم»، بعد أن حفظ عن ظهر قلب تلك المطالعات المكتوبة بغزارة عن الخصومة، ولن يكون يسيراً قلب المشهد لديه بصورة المصافحة بعد أن اختزنت ذاكرته المرئية «الكليبات» و«الأساطير» التي شحنت فيه كل حماسة للعداء، وربما سيعود إلى الانكفاء كما كان قبل العام 2005، إلا إذا تمكنت القوى السياسية التي نجحت في التمدد داخل هذا الجمهور وفرضت نفسها شريكة فعلية لتيار المستقبل في الشارع السني، في نسج علاقة جيّدة معه بفعل الخدمات التي صاغت شبكة يمكن الاستفادة منها في المرحلة المقبلة.
ثمة مقولة تتردد في بعض الأوساط السنية أن الرئيس الحريري ذهب إلى سوريا من دون السنّة، وربما فيها شيء من الصحة، بدليل أن معظم جمهوره لم «يهضمها» حتى الآن، لكن ثمة من يقول أيضاً إن الحريري لم يقم مسبقاً بأي خطوة من شأنها أن تهيّئ الأجواء في «شارعه» لخطوة يبدو أنه قرر القيام بها لاعتبارات متصلة بالتفاهمات السعودية السورية، وليس بمراجعة أفضت الى ما نحن أمامه اليوم، والدليل على ذلك أمور عدة، أبرزها المناقشات الجارية داخل «كتلة المستقبل» و«تيار المستقبل»، وقد أظهرت غلبة واضحة للمتحفظين، فيما كان بعض نواب كتلته يرددون أنه «لو تمت زيارته تحت عباءة العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، لكان يمكن أن يكون مردودها أكبر سياسيا وأقل وطأة على جمهوره، والا فما معنى أن يختار القيام بزيارة شخصية بعد كل هذه الخصومة، وفجأة يقرر أن يختمها بجعلها زيارة سياسية»، والكلام لأحد أعضاء «كتلة المستقبل».
ومن يراقب أداء المؤسسات الإعلامية لتيار المستقبل، منذ الساعات الأولى للزيارة، يدرك حجم الارتباك، الذي يعكس في المضمون الواقع الاعتراضي، وصولا الى تلك الأصوات التي ارتفعت في الأروقة، وتقول «إذا أراد الشيخ سعد أن يفرط بـ «ثورة الأرز» فنحن لن نقبل معه بذلك وسنواصل خطابنا الإعلامي المناهض لسوريا مهما كلف الأمر».
يدرك الرئيس الحريري أنه عندما دارت محركات طائرته استعداداً للتوجه إلى دمشق، كان يقوم بخطوة لا عودة عنها، بكل ما تحمله من أعباء وأثقال، وهو بعد الزيارة بات معنياً باستدراك ما فاته من صياغة خطاب مختلف لقيادات تيار المستقبل ونوابه ووسائل إعلامه الذين ما زالوا في وضعية «الاستنفار» التي لم تترجم عملياً «الأدبيات الجديدة» المفترضة لخطاب تيار المستقبل… وثمة حديث في هذا السياق، عن فكرة الدعوة إلى مهرجان سياسي كبير، قد يسبق تجمع الرابع عشر من شباط، خاصة أن الحريري يخشى أن يستغل البعض من الحلفاء، هذه المناسبة لاعادة اللعب على وتر جمهوره الذي لم يتصالح مع زيارته الدمشقية.
هل يمكن الركون إلى عامل الوقت لاستيعاب «صدمة» بعض الشارع السنّي الذي انقسم بين أقلية مرحّبة بحرارة ومقتنعة بالمصالحة وأهميتها وبين راضٍ بـ «الأمر الواقع» أو معترض هادئ… أو ناقم بحدّة؟
ربما يكون الأمر يسيراً، وربما يتخذ الرئيس الحريري قرارات جريئة لـ «توحيد» خطاب فريقه السياسي الذي ظهر «متلعثماً» ومرتبكاً، وقد يستخدم كل «إمكاناته» وثقله لتسويق المصالحة بين جمهوره، وعلى الأرجح سيختبئ كثر من المعترضين خلف القاعدة الشرعية («الضرورات تبيح المحظورات»)، تبريراً لتموضعهم الجديد، بعد أن كانوا قد استخدموا شعار العداء مع سوريا من أجل بلوغهم «مجد» الظهور الإعلامي وتسلّقهم أسوار السلطة.
لكن الحريري سيكون محكوماً بالإقرار بواقع التنوع السنّي، بل «طلب النجدة» من الشركاء الذين كان التنسيق مع بعضهم يحصل من باب رفع العتب، بينما يمكن لهؤلاء الشركاء اليوم أن يساهموا في «ورشة» تعميم الخطاب الجديد، سعياً إلى نبذ المرحلة الماضية و«استعادة» السنّة إلى موقعهم «الطبيعي»، خصوصاً مع بروز مخاوف من محاولات استغلال لتعكير أجواء المصالحة، وكذلك لاستهداف الحريري نفسه في قراره الاستراتيجي.
دمشق: تهمنا استفادة البلدين مستقبلاً
[ من دمــشق نــقل مراســــل «السفير» زياد حيدر عن مصادر سورية رفيعة المستوى قولها ان سوريا ترغب في علاقتها مع الرئيس الحريري في التركيز على المستقبل، استنادا الى المبدأ المعتاد بأن «منعة لبنان هي من منعة سوريا»، وعلى قاعدة أن يستفيد البلدان من العلاقة التي ستتشكل بين قيادتي البلدين.
وقالت المصادر في تقييمها لزيارة الحريري الى دمشق، إنها ترغب في «علاقة مؤسساتية مع الحكومة اللبنانية»، مشيرة الى أن الزيارات التي سيتم تبادلها بين الطرفين العام المقبل ستكون قائمة على هذه الأسس. وأشارت إلى أن الاستقبال الذي هُيئ للحريري كان الهدف منه «تمهيد الأرضية الشخصية» بينه وبين القيادة السورية للحديث مستقبلا في تطوير العلاقات. وقالت لـ «السفير» إن الطرفين ناقشا الزيارة من منظورين شخصي ورسمي، فـ «كان يمكن أن نستقبل الرئيس الحريري استقبالا رسميا بالأعلام والنشيدين (الوطنيين)، لكن رأينا ، والجانب اللبناني المعني بالتنسيق، أنه من الأفضل وضع هذه الزيارة في إطار التعارف وبناء الثقة، فاستقبل الحريري كضيف للرئيس الأسد على هذا الأساس وبالتسيق معه».
وعن تعليقها على وجود أصوات معادية للزيارة ومشككة في أجوائها في لبنان، قالت المصادر إن التوجه السوري هو «أن يكون المستفيد الوحيد من هذه العلاقة سوريا ولبنان» منبهة إلى ضرورة إعطاء وسائل الإعلام اللبنانية المزيد من الوقت للتأقلم مع ما جرى من مستجدات. وقالت انه في «علاقات البلدين لا ترغب دمشق في رؤية اثر للتشفي أو الحديث عن من انتصر ومن هُزم»، وإنما أن «يتم التركيز على المستقبل باعتبار أن ما يحقق الخير للبنان يحقق الخير لسوريا، والعكس».
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى