الاقتصاد بخير لكن السياسة
سعد محيو
الانفراج السياسي الراهن بين لبنان وسوريا يواكب، إذاً، ظاهرة موضوعية لاتحظى بتغطية إعلامية وافية، وهي القفزات التي تشهدها العلاقات الاقتصادية بين البلدين . وأرقام المجلس الأعلى اللبناني- السوري تشي بذلك .
فالتبادل التجاري بين البلدين وصل العام 2009 إلى أعلى مستوى له منذ 16 عاماً . كما أن الصادرات اللبنانية إلى سوريا تضاعفت ثلاث مرات ومالت بالميزان التجاري لصالح لبنان للمرة الأولى منذ العام 1990 .
لا بل أكثر: سوريا لم تكن لتتمكن من “لبرلة” (تحرير) اقتصادها لولا مئات الخبراء والمديرين اللبنانيين الذين يديرون الآن شؤون المؤسسات المالية السورية . وهي ستبقى في حاجة إلى المعرفة الإدارية- المالية اللبنانية إذا ماقررت مواصلة السير نحو اقتصاد السوق .
علاوة على ذلك، ستواصل بيروت، بما تحظى به من علاقة وطيدة منذ عقود مع الأسواق العالمية، لعب دور المنفذ لرجال الأعمال السوريين إلى العالم، كما دلّ على ذلك مؤخراً القرض الائتماني الجماعي الذي أداره بنك عودة لتمويل بناء مصنع أسمنت في حلب .
ويقول رجل أعمال لبناني بارز ينشط هذه الأيام في سوريا إن التغيّرات في الاقتصاد السوري “حقيقية”، على عكس ماكان يجري في العقود الماضية حين كانت تصدر قوانين الإصلاحات الاقتصادية ثم تُجمّد مفاعيلها .
ويضيف، أن الاصلاحات التي أدخلها عبدالله الدردري ومحمد حسين “جدّية وطويلة الأمد”، لأن الرئيس السوري بشار يريد أن يقتدي بالتجربة الصينية التي تستند إلى الانفتاح الاقتصادي والانغلاق السياسي .
هنا، ثمة حقيقة لايجب القفز فوقها: سوريا ولبنان كانا دوماً يعملان في الفضاء الاقتصادي نفسه . وحين حدثت القطيعة الاقتصادية بينهما العام ،1950 تم ذلك أساساً بسبب التنافس الأناني بين تجار دمشق وبيروت الذين عجزوا عن تحقيق تكامل المصالح، وأيضاً لأن سوريا اختارت التركيز على الزراعة والصناعة (الحرفية)، فيما انتهج لبنان طريق الاقتصاد الخدماتي- المالي . ثم مالبث أن تعمقت الفجوة حين انضمت سوريا إلى المعسكر الاشتراكي، فيما اندمج لبنان كلياً بالنظام الرأسمالي العالمي .
الآن، ومع بدء تحرّك سوريا هي الأخرى نحو الاندماج في النظام العالمي، سيجد البلدان نفسيهما في “زورق رأسمالي واحد” يقوده قبطان واحد: منظمة التجارة العالمية، أو اتفاقية الشراكة المتوسطية . وهذا قد يسفر في نهاية المطاف عن تدشين مسيرة تكامل اقتصادي حقيقي بين البلدين بإشراف دولي .
بيد أننا لم نصل إلى هناك بعد، إذ لايزال على سوريا أن تحل معضلة القطاع العام المتضخّم . صحيح أن القطاع الخاص والقطاع العام فيها يتعايشان الآن، لكن في لحظة ما سيكون على دمشق اتخاذ القرار حول لمن ستكون الأولوية أو الأفضلية . وصحيح أيضاً أن هذا الخيار سيكون في خاتمة المطاف لصالح شعار “دعه يعم، دعه يمر” الرأسمالي، إلا أن هذا قد لايحدث في وقت قريب بسبب مخاطره الفادحة على استقرار النظام .
وهذا يعني أنه من الآن وحتى إشعار آخر، ستبقى السياسة، لا الاقتصاد، هي سيدة الموقف في سوريا . وهذا ماجعلنا نقول إن ثمة إيجابيات في الانفراج اللبناني- السوري . . “ولكن” . إذ إن هذه ال”لكن” لها علاقة، كل العلاقة، في احتمال قيام هذه السياسة في كل حين بنسف مكاسب التقارب الاقتصادي بين الطرفين، ومعها فرص قيام علاقات طبيعية حقيقية ومستقرة بين البلدين .
الخليج