صفحات ثقافية

مترجم برتبة رقيب

null

عبده وازن

لم يكن مفاجئاً أن يعمد المترجم المصري مصطفى ماهر الى حذف مقاطع من ترجمته لرواية «العاشقات» للكاتبة النمسوية ألفريده يلنيك، الفائزة بجائزة نوبل. هذه العادة السيئة باتت رائجة عربياً ولم يعد كثيرون من المترجمين العرب أوفياء لرسالتهم القائمة أساساً على الحوار بين لغة وأخرى، وبين ثقافة وأخرى. وقد اقتطع مترجمون صفحات من كتب أقبلوا على تعريبها غير مبالين بالكاتب الذي يترجمونه ولا بالقارئ الذي لا بد من أن يحاسبهم يوماً. قبل بضعة أعوام تجرأت مترجمة لبنانية على حذف فقرات من كتاب الناقد الفرنسي الكبير رولان بارت «شذرات من خطاب عشقي» ما جعل النص ناقصاً ومبتوراً. وعندما سألها صحافي عن الأمر أجابته: هل يمكنك نشر تلك الفقرات الإباحية في صحيفتك؟ هذا جواب غاية في السذاجة. فإن كان المترجم عاجزاً عن ترجمة مقاطع جريئة من كتاب بين يديه، فلماذا يُقدم على ترجمته محملاً ضميره تبعة الحذف الذي تمارسه الرقابة بلا هوادة؟

المترجم المصري مصطفى ماهر برّر فعلته بـ «عذر أقبح من ذنب» بحسب المثل الشهير، فهو يظن أنه أسدى خدمة للقارئ في حذفه ما رآه «مبتذلاً» و «مثيراً للقرف» كما قال حرفياً. لقد شوّه النص حفاظاً منه على الأخلاق العامة والقيم وسواها من «المقولات» الفارغة التي تلجأ إليها الرقابة عادة وتحتمي وراءها لتمارس السلطة الموكلة اليها. يجب توجيه الشكر فعلاً الى هذا المترجم على فعلته وعلى حرصه الشديد على ذائقة قارئه.

تُرى لو علمت الكاتبة النمسوية الكبيرة بما قام به من «حماقة» أما كانت لتغضب وتوجه إليه أقذع العبارات، هي المعروفة بمزاجها الحاد؟ أما كانت لتحتقره وتشك في حقيقة الثقافة العربية والقارئ العربي؟ ليت الفريده يلنيك لا تطلع على هذه الترجمة التي تبنّتها «الهيئة المصرية للكتاب» وأصدرتها في سلسلة «الجوائز».

المستغرب جداً في الأمر أن كثراً من هؤلاء المترجمين – الرقباء يحملون شهادات أكاديمية عالية ويدرّسون في الجامعات، ما يعني أن من المفترض بهم أن يكونوا منفتحين وأحراراً وغير متزمّتين… وإذا كان هؤلاء يخشون النصوص الجريئة ويمارسون سلطة الرقابة فما تراه يكون الأمر مع الرقباء الحقيقيين الذين يتعاملون مع النصوص تعاملاً بوليسياً وديكتاتورياً. ماذا يمكن القول عن الرقباء المتسلّطين الذين خوّلوا أنفسهم الحق في الحكم على نصوص غالباً ما يعجزون عن قراءتها نظراً الى عمى بصيرتهم والى الظلام الذي يلف عقولهم؟

ما أسوأ أن يسبق المترجم الرقيب الرسمي ويخفف عنه عبء «القراءة» و «المطاردة» وأن يحل محلّه حاملاً القلم بيد والمقص بيد أخرى. يظن هذا المترجم أنه هكذا يبيّض صفحته مع الرقابة والسلطة أو السلطات، ويحوز رضا المؤسسات التي يعمل فيها أو يعمل لها. لا يخون هذا المترجم نفسه فقط، بل النص الذي يعرّبه، وصاحب النص والقارئ، عطفاً على خيانته لمبادئ الترجمة وتقاليدها. تصبح الترجمة آنئذ فعل خيانة عظمى يستحق مرتكبها عليها عقاباً وأيّما عقاب. ويصبح المترجم مزوّراً لا يمكن أن يُؤتمن على نصوص الآخرين.

تُرى مَن يقرأ ألفريده يلنيك أو رولان بارت أو جان بول سارتر الذي حذف بعض المترجمين العرب مقاطع من أعماله سراً أو دانتي وسواهم؟ طبعاً ليس الأطفال ولا المراهقون هم مَن يقرأون هؤلاء الكتّاب! فعلامَ يخشى المترجمون الحريصون على الأخلاق العامة الذين فاتهم أنهم ليسوا وحدهم مَن يجيدون اللغات الأجنبية، وأن الانترنت تعمّم كل ما يُمنع من نصوص في العالم؟

آفة «الرقابة» هذه قد تكون أخطر ما تعاني حركة الترجمة في العالم العربي من «أمراض». إنها تتعدى وظيفة الترجمة وتدل على أزمة في الثقافة العربية نفسها. ألا يكفي هذا الرقيب الذي يسيطر على أقلام الكتّاب وعلى مخيلاتهم في أحيان؟ ألا يكفي ما يمارس من حذف ومنع؟ يخطئ هؤلاء المترجمون كثيراً حين يمضون في هذه «اللعبة» الخطرة. إنهم يبرّرون، من غير أن يدروا ربما، الرقابة ويمنحونها حالاً من الشرعية المزيفة. هذه حقاً مشكلة من المشكلات الكثيرة التي تواجه حركة الترجمة العربية وهي أشدّها استفحالاً لأنها تخفي وراءها أزمة فكرية ووجودية، لا يبدو سهلاً تجاوزها.

يرتكب مترجمون كثر في العالم العربي الكثير من الأخطاء والهفوات في عملهم، بعضهم لا يجيد العربية وبعضهم لا يجيد اللغة التي يترجم منها، وبعضهم «يتنطح» الى هذا العمل الخلاق من غير تخصص لا في الترجمة ولا في اللغات ولا في الحقول التي تنتمي النصوص إليها. ويجب عدم تناسي الناحية المادية من هذه الأزمة وتتمثل في تدني الأجور وانحسار فرص النشر وعدم احترام معنى الترجمة… إلا أن هذه المشكلات قد تكون قابلة للمعالجة لا سيما بعد الدعم الرسمي الذي بدأت تشهده الترجمة عربياً، وبروز أهل الاختصاص الذين يجيدون هذه «الحرفة»، وصعود أسماء مهمة في هذا الحقل… أما مشكلة الرقابة التي يمارسها المترجمون أنفسهم فهي تحتاج الى علاج ناجع يشمل الفكر العربي والذات العربية.

ما أبشع الرقابة حين تُمارس على نصوص «الآخر» التي تُترجم، وما أبشع المترجم عندما يصبح رقيباً على النصوص!

الحياة – 19/05/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى