صفحات ثقافية

مؤرخ سينمائي سوري لا يملك ثمن قبره

null


فاديا أبو زيد

سمنذ أيام كان آخر تكريم- معنوي- حظي به شيخ الكار في السينما السورية «محمود حديد».. الوحيد الذي مازال على قيد الحياة بعد نزيه شهبندر وأحمد الخضري الذي توفي قبل أيام قليلة دون أن يذكره أحد كرمز من رموز التاريخ السينمائي في سورية، وما يميز «محمود حديد» عن كل الناس بأنه هاو ضيَّع كل عمره في شراء الوثائق السينمائية من أفلام وتسجيلات نادرة ليست موجودة في فرنسا أو مصر حيث سبق فيها المتحف السينمائي المصري بمئة عام

بامتلاكه «ماكينة»- كما يسميها- الـ59 ملم، التي أنتجت لسنة واحدة فقط ونسقت، وهي المصنعة عام 1824 أول ماكينة عرض ظهرت بعد «عربة فاراداي»، وما جعله يشتريها إحساسه بقيمتها الفنية عندما قرأ في «روز اليوسف» مانشيتاً عريضاً «أوقفوا تهريب الآثار»، مكتوبة على خلفية لصورة أبو الهول وبجانبه «ماكينة» الـ59، ليس ذلك فقط بل يمتلك محمود حديد تسعة أفلام أصلية مصورة بهذه الآلة، وغيرها مئات التحف الفنية النادرة من تسجيلات وسهرات خاصة لأم كلثوم وعبد الوهاب.. الخ، كان يسافر من أجل الحصول عليها إلى أي مكان، فهو يمتلك أول فيلم عرض في سورية وأول آلة سينمائية دخلت سورية وأول فيلم منتج في سورية والقائمة تطول، ليمتلك «محمود حديد» أكبر أرشيف سوري على مستوى العالم، يعود فضل اكتشافه للفرنسيين عام 1996 عندما أتت فرقة منظمة لمئوية السينما العالمية إلى دمشق فحصل عطل طارئ في الأجهزة السينمائية أربكت طاقم العمل، فاستدعوا فريقاً فنياً من لبنان أخفق في وضع يده على العطل، وبالمصادفة طرح أحدهم اسم «محمود حديد» لاستشارته، فأصلح الخلل ببراعة أذهلتهم، لتنهال عليه الأسئلة المترافقة مع الدهشة عن السينما التي عاصرها ويعرفها جيداً لأنها كانت وما تزال حياته، وعندما دعاهم إلى بيته ليلقوا نظرة على تلك النفائس، التي سترمى قريبا في الشارع، اكتشفوا أنهم أمام كنز اسمه «محمود حديد» يملك من الآلات ما لا تمتلكه فرنسا، ومع ذلك ورغم ضيق حاله، رفض «حديد» رفضا قاطعا أن يبيعهم إياها رغم الملايين التي عرضت عليه لأنه يعتبرها من حق البلد، وهو ليس له أي فضل من منطلق هذا الحس الوطني، حتى ولو كانت الآلة التي اشتراها في الماضي تعادل سعر بيت، لم يمتلكه حتى الآن، ولن يفوت الفرنسيون أن يقدروا فوراً هذا الرجل فتم تكريمه لأول مرة في احتفالية مئوية السينما العالمية من قِبَل «كاترين دونوف»، وصنعوا له بوستراً ضخماً وضعوا عليه صورة الإخوة «لوميير» من اليمين، وصورة «شارلي شابلن» على اليسار وقف بينهم السوري «محمود حديد»، بالإضافة إلى أنهم أقاموا له معرضاً للآلات الفرنسية، جعلت المسؤولين السوريين ينتبهون إليه، بعد أن كان غير مرئي، فأقامت له المؤسسة العامة للسينما معرضاً في الدورة الثالثة عشرة لمهرجان دمشق السينمائي، وسجلت له فيلماً سينمائياً، وهناك شهادات من أجانب وعرب بأن ما يمتلكه «محمود حديد» من أرشيف ضخم يعادل ما تمتلكه مؤسسات على مستوى دولة، وأن الجهد الذي قدمه من أجل الحصول على ذلك الأرشيف يؤسس لمتحف هائل هو كنز تاريخي وثقافي ووثائقي لا تملكه إلا مؤسسات، جعله يضيق بما لديه فأهدى 1200 فيلم وثائقي للمؤسسة العامة للسينما تلقى عنها «ثناء» مازال يحتفظ به كأرشيف يحبه، واليوم مستعد لأن يهدي كل ما لديه للبلد مجاناً لكن أحداً لا يريد أن يأخذ هذا الإرث، وما يخافه «محمود حديد» هو أن يموت دون أن يؤمن مكاناً لائقاً للقاه الأثرية المجمعة على حساب أسرته، التي ستتشرد قريبا مع ما يملكون لأن قراراً من المحكمة صدر بتسوية أمر البيت الذي يسكنه كمستأجر قديم، بأن يأخذ محمود حديد 300 ألف ليرة ويخرج مع ما يملك إلى الشارع، لأن هذا المبلغ بالكاد سيشتري له «قبراً» في المزة، وهو لا يعترض على التخمين المتجني، بعد أن بيع البيت اللصيق ببيته بـ60 مليوناً منذ فترة وجيزة في حين البيت الذي يسكنه خمن له بـ800 ألف ليرة فقط، ولكن يعترض على عدم الاكتراث لحاله المزرية التي يتعرض هو وعائلته لها، ويطالب بالتعامل معه ليس كإنسان، خدم بصدق تاريخ السينما وكان أول العارضين والموثقين لها في وقت كان الناس نياماً، ولكن أسوة بـ«صبري مدلل» والكثير غيره، بأن تكرمه الدولة وتعطيه بيتاً يأوي فيه ما يرفض مسؤولو مؤسسات الدولة الاعتراف به وتثمينه. هي صرخة أطلقها «محمود حديد» من منبر النادي الاجتماعي بحضور نبيل المالح ومحمد المالح وتوفيق حلاق الذي طالب أيضاً بتكريم يرقى إلى احترام هذا الشخص على الصعيد الإنساني الحياتي ويكافأ بعد هذا العمر من التعب، وسط من اجتمعوا ليشاهدوا فيلماً تسجيلياً صوّرته «ريم جمعة» عن حياة «محمود حديد» بلغ ثماني ساعات، فتولى مهمة مونتاجه الدكتور «محمد قارصلي»، وكل من سيشاهد هذا الفيلم سيعرف من «محمود حديد» وما قيمته الحضارية، بعد أن تعالت الأصوات منذ فترة في إعلامنا السوري بتحويل البيت الذي يسكنه إلى متحف للسينما، ليس تكريماً «لمحمود حديد» بل تكريم لتاريخ «لسنا دخلاء عليه بل فاعلين وموجودين» على حد تعبير آخر الأحياء العظماء في تاريخ السينما السورية، تاريخ بلدنا، والذي مثلنا كسوريين في كبرى الفضائيات العربية والأجنبية على أنه «أكبر هاو للسينما في الشرق الأوسط» لكن كل ذلك لن يحميه أو يحمي عائلته وتراثه من سلبه البيت «بالقانون»!!

الوطن السوري


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى