الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّوريةصفحات العالم

«كوچه» إيران يتريّث في عام كل الأخطار

محمد علي حريصي
يسارع الإيرانيون لإغلاق نافذتهم على عام حمل لهم كل أشكال المخاطر الداخلية والخارجية. ويتمهلون في فتح بابهم امام سنة حاسمة، ترث ازمة سياسية غير مسبوقة بين نخبة أهل الحكم، وتحكمها ضغوط اقليمية ودولية، تبدأ من الملف النووي، ولا تنتهي بتطور الأحداث، من اليمن الى افغانستان والعراق.
ثلاثون سنة مرت على الثورة الاسلامية، تبدو ايران بعدها ضعيفة في جبهتها الداخلية. التظاهرات المستمرة منذ انتخابات الرئاسة في حزيران الماضي، تغرق البلاد في واحدة من اسوأ الازمات في تاريخها. حتى انه بعد ستة اشهر من فوز محمود احمدي نجاد بولايته الثانية، ما زالت الشعارات المعادية له وللحكومة تدوي في طهران ومناطق اخرى، ويسقط قتلى وجرحى في مواجهات متواصلة، تشير الى ما هو ابعد من مجرد انتخابات متنازع عليها.
صدمت البلاد اتهامات التزوير التي طالت عملية الاقتراع، وأفضت الى خسارة رئيس الوزراء السابق مير حسين موسوي، الشخصية التي تحظى باحترام في النظام لترؤسه الحكومة طوال السنوات الثماني للحرب مع العراق. تحول موسوي بعدها الى احد ابرز المعارضين، وأصبح رأس الحربة في معركة الإصلاحيين، الذين كان بعيدا عنهم كل البعد، حتى عشية الانتخاب.
دخل الإصلاحيون والمحافظون، في اختبار قوة لا يزال مجهول النتائج. تغيرت أوجه الصراع بينهما، ومعه أدواته التي خلعت نمطها التقليدي، ومضت تتظلل بعباءة اكثر سوادا، تحمل تحتها كل ما يصلح استخدامه في معركة بين نمطي حكم، يترسخ التباعد بينهما يوما بعد يوم. تبدلت ايضا التحالفات التي تحكم الفريقين، وانقسمت نخبة النظام على نفسها، في تجاوز لخطوط حمراء رسمها مؤسس الجمهورية الاسلامية الراحل الإمام الخميني.
ووسط الغبار السياسي الكثيف الذي بات يلف البلاد، من قمة جبال توجال البيضاء قرب العاصمة، الى أروقة الحوزات والمدارس الدينية في قم، شخص واحد بدا قادرا على احتكار اكبر الاهتمامات وأكثرها تعقيدا. وعلامات الاستفهام التي يطرحها دوره، حتى خلال صيامه عن الكلام، تتجاوز كل نخب النظام، وتعيد تسليط الأضواء على شخصية محورية، قيادية، متقلبة، تمسك بخيوط اللعبة منذ 30 سنة، تارة خلف الستار، وتارة اخرى في العلن.
«مهندس» الدولة
لم تغيّب الانتخابات الرئاسية التي خسرها هاشمي رفسنجاني امام نجاد في العام 2005، حضوره المستمر والمثير للجدل. عاد في كانون الاول من العام التالي، بقوة الى مقدم الساحة السياسية، اثر فوزه بفارق كبير على منافسيه في انتخابات مجلس خبراء القيادة، قبل ان ينتخب رئيسا له، ليضيف هذا المنصب الى حقيبة يحمل فيها ايضا، الى جانب خبرته السياسية التي هي من عمر الثورة، رئاسة مجمع تشخيص مصلحة النظام.
وعندما تنبأ بعض المراقبين بان نتيجة انتخابات الرئاسة في 2009، يمكن ان تمثل نهاية السلطة السياسية لرفسنجاني بعد ثلاثة عقود من النظر اليه على نطاق واسع على انه ثاني أقوى شخصية في ايران بعد مرشد الجمهورية آية الله السيد علي خامنئي، عاد مرة اخرى ليغالط هؤلاء، ويحرك أدواته وعلاقاته التي تعبر الفئات السياسية كلها، في مواجهة أشرس حملة يتعرض لها الرئيس السابق للجمهورية، ومجلس الشورى، والقائد السابق للقوات العسكرية.
رجل تسوية. برغماتي. سياسي هادئ يتحدث لغة الناس، اكثر مما ينطق بلغة الدين. يعرف كيف يقنع، ويمتع، ويهدّد، ويؤثر. هو ايضا، واحد من أغنى السياسيين في الجمهورية الاسلامية. يتهمه بعض المحافظين والإصلاحيين بأنه انتهازي، وفاسد، ومتقلب المزاج السياسي. ولعل لقبه الأشهر، «كوچه»، ومعناه القرش، وكذلك الرجل الذي لا لحية له، يختصر رفسنجاني، في الشكل والعقل.
تقول الخبيرة في شؤون ايران والشرق الاوسط في معهد «بروكينغز»، سوزان مالوني لـ «السفير»، ان «رفسنجاني كان شخصية رئيسية في السياسة الايرانية خلال فترة ما قبل الثورة الاسلامية، وما بعدها، غير انه في العقد الاخير، او اكثر، بدا ان المعارضة الشعبية له كلفته بعضا من مصداقيته وتأثيره».
ورغم ذلك، يرى كثيرون انه اذا كان الخميني هو الثوري الذي دمر النظام السابق، فان رفسنجاني هو المهندس الذي بنى الدولة الحديثة، التي تستطيع بمؤسساتها المبتكرة ان توفر للنظام الاسلامي موقع قوة في المنطقة والعالم.
وبعكس الخميني وخامنئي، يتحدر رفسنجاني الذي ولد في العام 1934، من عائلة متدينة من المزارعين والتجار، وليس رجال الدين. وهو احد أولاد تسعة، نشأ في قرية بهرمان، القريبة من رفسنجان، في الصحراء الجنوب شرقية. سمي علي أكبر على اسم احد أولاد الإمام الحسين، حفيد النبي محمد، واستخدم اسم العائلة، هاشمي. وعندما طلب من الايرانيين الاستعانة بأسماء القرى التي يتحدرون منها، أضيفت كلمة رفسنجاني الى اسمه.
في المدرسة الدينية المحلية، برع رفسنجاني في لعب كرة القدم والمصارعة. وحين بلغ الرابعة عشرة من عمره، توجه الى مدينة قم لدراسة الدين، قبل ان يتخرج في نهاية الخمسينيات برتبة حجة الإسلام. وكتلميذ للخميني في الستينيات، أصبح مؤيدا لوجهة النظر الثورية المعارضة لحكم الشاه محمد رضا بهلوي، والفساد الغربي الذي يمثله. ورغم روح الدعابة لديه التي كانت تخالف شخصية الخميني، أصبح مقربا منه، وبات احد أعمدة القتال ضد النظام.
عينه الخميني عضوا في المجس الثوري السري، وسجن بسبب نشاطه فيه مرات عديدة، قبل ان يشارك في تأسيس الحزب الجمهوري الإسلامي في آذار العام 1979، مع كل من خامنئي وآية الله الراحل السيد محمد حسين بهشتي. وفي الفترة بين عامي 1980 و1989، بعد انتصار الثورة، تولى منصب رئيس مجلس الشورى، وقائد القوات العسكرية.
يتذكر العالم حنكة رفسنجاني بشكل خاص عندما خرجت الى العلن في العام 1986، قصة الاسلحة الاميركية الى ايران، التي عرفت باسم «ايران غيت»، وكان هو احد ابرز وجوهها. ففي صلاة الجمعة في اليوم التالي، اعتبر رفسنجاني ان الاسلحة كانت «حاجة للحرب»، لكنه أوضح ان العرض الاميركي حولها «رفض». ومازح الحضور قائلا ان الاميركيين «أتوا بكعكة على شكل مفتاح، رمزا للصداقة، لكن رجال الامن الايرانيين جاعوا وأكلوا الكعكة».
عند وفاة الخميني، ساهم في وصول خامنئي الى منصب المرشد، وتولى رئاسة البلاد عقب فوزه بأصوات 95 في المئة من الايرانيين. وعمل أثناء توليه الرئاسة بين عامي 1989 و1997، على تخليص إيران من مشاكلها الاقتصادية، بالانفتاح على العالم وفتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية، وإعادة اعمار ما دمرته الحرب الإيرانية العراقية. وبعد حرب الخليج الاولى، استمر في شق طريق وسط وازن فيه بين الضغط الذي تمارسه الأطراف المحافظة، ورغبته في الحداثة والانفتاح. وفي تأييده للاقتصاد الحر، لا يتردد في القول ان «جمع الثروة قيمة» أخلاقية.
وبحسب السيرة الذاتية التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز»، جعل رفسنجاني من نفسه خلال تواجده في سدة الرئاسة، شخصا اكثر «تحضرا» ممن سبقوه الى موقع القيادة، وحتى ممن لحقوا به. فاطلع على المسائل الاقتصادية لساعتين على الأقل في اليوم الواحد، وراقب أخبار الغرب وإعلامه، وأصبح يتحدث اللغة الانكليزية بطلاقة، فيما قرر اعتماد أسلوب «المعارضة المبطنة».
تعرض رفسنجاني الذي يطلق عليه لقب «صانع الملوك» في إيران، لدوره الكبير في وصول خامنئي إلى منصب مرشد الجمهورية في العام 1989، وفي ان يتبوأ محمد خاتمي سدة الرئاسة العام 1997، «للإذلال السياسي» مرتين. المرة الاولى عندما حل في المرتبة الاخيرة في انتخابات مجلس الشورى عن طهران في العام 2000، والمرة الثانية عندما انهزم في العام 2005 في انتخابات الرئاسة امام نجاد، الذي كان سياسيا مغمورا حينها.
لكن رفسنجاني يمثل برأي البعض صورة «السياسي الكامل»، الذي يرفض ترك ساحة المعركة السياسية بعد هزيمة. وتعتبر مالوني ان الازمة الحالية «توفر فرصة مناسبة لرفسنجاني لإعادة التموضع، رغم انه من غير الواضح ما اذا كان سيتمكن من الحصول على دعم النخبة للبحث في حلول للازمة». وتضيف «تشير التقارير الى ان رفسنجاني يعمل من خلف الستار، وبشكل خاص مع رجال الدين التقليديين الذين يدعمون النظام لكنهم ليسوا مرتاحين للعنف الانتخابي وللتأثير المتزايد للحرس الثوري في السياسة».
خلف الكواليس
وتعود ازمة الحكم الحالية، في جوهرها، الى انتخابات العام 2005، عندما بدأت تتسلل الى النخبة الحاكمة في الجمهورية الاسلامية بوادر صراع بين رفسنجاني ونجاد، الذي اتهم الرئيس السابق من دون ان يسميه، بالفساد، وفتح النار على عائلته وأبنائه. وفي انتخابات حزيران الماضي، قدم رفسنجاني دعما قويا، وإن كان مستترا، لحملة موسوي. وعقب إعلان النتائج وبدء الاضطرابات، لم يدل بأي تصريحات علنية، رغم اعتقال أفراد من عائلته، وبينهم ابنته فائزة التي كانت تقود تظاهرات ضد نجاد، والتلويح بمقاضاة ابنه مهدي بتهم فساد، ويقال انه خارج البلاد حاليا.
وبعدما وجه رسالة «عتاب» غير مسبوقة الى خامنئي، طالبا منه التدخل لوقف «الأكاذيب» ­التي يروج لها المحيطون بنجاد، الذي ذكره في مناظرة مع موسوي بالاسم، عاد وتوقف عن الظهور، ما أثار شائعات بأنه إما يحاول التوسط للتوصل إلى تسوية، أو ينظم احتجاجات، أو حتى يستعد لتحدي خامنئي عبر رئاسته لمجلس خبراء القيادة، الذي يتكون من 86 عضوا، ويشرف على عمل المرشد، ويملك حق مساءلته، وإقالته ايضا.
وفي منتصف تموز، أمّ رفسنجاني صلاة الجمعة في جامعة طهران للمرة الاولى منذ نحو شهرين، حاول خلالها التوفيق بين دعوات الإصلاحيين، وتعنت المحافظين. قال ان الحكم يحتاج الى صيغة تعايش جديدة، مذكرا بماضيه الثوري، وبأقوال الخميني حول ضرورة تحقيق ارادة الناس. وبينما طلب من المعترضين التقيد بالقانون، فجر مفاجأة كبيرة عندما اعلن ان البلاد في ازمة، ما جعل البعض يصنّفون خطبته على انها «الأسوأ» في تاريخ الجمهورية.
واكتفى الرئيس السابق بالاختفاء عن الأنظار بعد خطبته المدوية، من دون ان يغيب عن كواليس اللعبة السياسية، رغم إبعاده عن خطبة الجمعة وإلقاء الكلمات في مناسبات دينية ووطنية، اعتاد الإيرانيون على الاستماع اليه خلالها. وقبل أسابيع قليلة فقط، عاود نشاطاته، وبدأت وكالات الأنباء الرسمية وشبه الرسمية، تبث أخباره وتنشر صوره من جديد.
ورغم تلويح الادعاء العام في ايران بمقاضاته على تصريحاته الداعية الى إبداء «مزيد من التسامح»، يثبت رفسنجاني انه الرقم الصعب في الازمة الايرانية، المفتوحة على كل الاحتمالات، وان الأشهر الستة الماضية، رسخت موقعه المتقدم على الساحة السياسية، ولم تقلصه.
تلفت مالوني الى ان «بعض الشخصيات في الجمهورية الاسلامية دافعت عن جهود المصالحة لإعادة بعض رموز الإصلاحيين الى الواجهة، وهو تطور يمكن ان يقضي على تأثير نجاد، ويمهد الطريق امام رفسنجاني لتأدية دور مركزي في رعاية اتفاق مماثل». لكنها تعتقد ان «خامنئي يرفض حاليا أي اتفاق يعيد الى رفسنجاني مكانته المرموقة، وهو ما يعني ان رفسنجاني يمكن ان يتقاعد، فيما يستمر في التأثير على الأحداث من خلف الكواليس».
مرشد؟
ويقول مراقبون ان رفسنجاني الذي يعارض فكرة بقاء الولي الفقيه على رأس الحكم حتى وفاته، مرشح دائم لخلافة خامنئي في منصب المرشد، الذي يتطلب صفات عديدة، أهمها «الكفاءة العلمية اللازمة للإفتاء في مختلف أبواب الفقه»، و«العدالة والتقوى اللاّزمتان لقيادة الأمة الإسلامية»، و«الرؤية السياسية والاجتماعية الصحيحة»، و«التدبير والشجاعة والكفاءة الإدارية»، و«القدرة الكافية للقيادة». وعند تعدد من تتوفر فيهم الشروط المذكورة، «يفضل من كان منهم حائزاً رؤية فقهية وسياسية، أقوى من غيره».
ويرى الباحث والكاتب الاميركي من اصل ايراني رضا أصلان، ان «الازمة الحالية عززت موقع رفسنجاني ومهدت له الطريق ليحتل منصب المرشد بعد خامنئي». ويقول لـ «السفير» «لقد رفعت من شعبيته بين الايرانيين بشكل كبير»، بعد سنوات من طويلة من انخفاضها جراء اتهامات الفساد الموجهة له.
غير ان الكاتب الاميركي وأستاذ الدراسات الدولية فيجاي برشاد، يعتبر ان رفسنجاني «لن يكون قادرا على ان يحتل منصب المرشد، لانه بكل بساطة، فاسد أخلاقيا». ويضيف لـ «السفير» ان «هناك آخرين يحملون حقائب أقل ثقلا من حقيبته».
الايرانيون، ومعهم العالم، يترقبون الحركة المقبلة لـ «خيميائي» ايران، التي يبدو انها تهرول سريعا نحو التغيير، بحسب برشاد، بعدما أصبح «الإصلاحيون أقوى مما كانوا عليه في عهد خاتمي». في العام 1963، قال رفسنجاني في كتاب حول «المعجزات»، انه افلت من محاولة اغتيال برصاصة بفضل «سرعته الثورية»، ورغبته في «ضرب هؤلاء الذين يتفوهون باللامنطق». لكن بالنظر الى طبيعة السياسة الايرانية المرنة، يبدو انه من الصعب التنبؤ في ما اذا كان «كوچه» الجمهورية قادرا اليوم على صنع «معجزة» جديدة.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى